«الوصية الغائبة».. كيف خالف الإخوان لائحة الجماعة؟
في مطلع عام 1948، دلف الرجل الأربعيني أحمد حسن الباقوري (نائب مرشد جماعة الإخوان) نحو أحد البيوت في حارة «سنجر» بمنطقة الحلمية الجديدة؛ حيث يقطن حسن البنّا (مؤسس الجماعة 1928)؛ تلبية لرغبة الأخير في لقائه لأمر عاجل.
عن السر وراء ذلك الاستدعاء قال «الباقوري»: إن «البنّا» (1906-1949) أخبره أنه سيختفي، ولما سأله عن القصد قص عليه رؤيا أعقبها بوصية أن يرعى الإخوان من بعده -حسبما ورد في كتاب ثائر تحت العمامة للكاتبة المصرية نعم الباز- فإن مرشد الجماعة أوصى أن يخلفه الباقوري حال موته أو قتله.
وقال البنّا: «أنا رجل أرى المنام ومنّ الله على بأن يحدث كما أراه، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يركب ناقة ومعه أبو بكر، وأنا أقود زمامها، وإذا هذا الزمام ينقطع من يدي فجأة ويأخذه من لا أعلم، فأولت ذلك أنني لن أتابع الوصول إلى الغاية التي أريدها بالدعوة، ولكنني أخذت على نفسي عهدًا بأن نظل في هذه الدعوة نتوارثها واحدًا عن واحدٍ حتى نلقى الله بحيث لا تنحل الدعوة».
وكان نَص الوصيّة التي تجاهلها الإخوان بعد اغتيال البنّا 1949: «إذا احتفيت فأنت مكاني، ارع الإخوان واصنع ما يرغبون مما يقيم حياتهم، ولكن على أن يبقى لك هذا الوضع إلى أن يخرج الإخوان من معتقل الطور، فإذا خرجوا فهم أحرار عند ذلك أن يختاروا لهم مرشدًا عامًّا، وهذا هو القدر الذي أريد أن أصرح لك به آمرك أن تنفذه».
في فبراير 1949 أُغتيل مرشد الجماعة، أثناء خروجه من جمعية الشبان المسلمين (جمعية دينية، اجتماعية تأسست 1927)، وكان من المُنتظر تنصيب الباقوري لحين خروج معتقلي الإخوان من السجون، إلا أن الجماعة خالفت الوصية، وبحثوا لهم عن إمام آخر يتولى تيسير أمور الإخوان في تلك المرحلة الحرجة من عمر الجماعة.
كان الإخوان يرمون بطرف خفي إلى وصية أخرى، تُزكّي القاضي حسن الهضيبي (تولى منصب المرشد فيما بعد)، وتناقل إخوة - لم تسمهم موسوعة الإخوان الإلكترونية «إخوان ويكي»- تلك الرواية التي ترجح كفة الهضيبي في مقابل الباقوري؛ إذ زعموا أن البنّا قال لهم: «إذا حدث لي شيء واختلفتم إلى من يكون مرشدًا بعدي فاذهبوا إلى المستشار حسن الهضيبي فأنا أرشحه ليكون مرشدًا بعدي».
للمزيد:«الباقوري».. الوزير الإخواني حتى النخاع
الخليفة الثاني
مصداقية رواية تزكية البنّا للهضيبي، يشكك فيها حديث الهضيبي نفسه عن آخر لقاء جمعه بمؤسس الجماعة قبل ليلة واحدة من اغتياله، حين ذهب إليه البنّا يخبره بمفاوضاته مع الحكومة المصرية حول مصير الإخوان المعتقلين، فتوجس الهضيبي وأفصح عن مخاوفه حول احتمالية التخلص من مرشد الإخوان، لكن البنّا رد عليه بـ«قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا» ثم انصرف وفي اليوم التالي قُتل.
«إخوان ويكي» في توثيقها للمرشد الثاني، ذكرت فيما يتعلق بتنصيبه خليفة لـ«البنّا»، أن: «الإخوان أخذوا يبحثون عن قائد آخر ورشحوا لهذا المنصب أكثر من أخ من الإخوان العاملين: منهم الباقوري، عبد الرحمن البنا، صالح عشماوي، عبد الحكيم عابدين، إلا أن الأغلبية في الهيئة التأسيسية أجمعت على انتخاب الهضيبي، وبقي يؤدي عمله سرًّا نحو ستة أشهر، لم يترك العمل في القضاء خلالها، ولما سمحت الحكومة للهيئة التأسيسية للإخوان بالاجتماع 1951، طلب أعضاؤها من الهضيبي أن يرأس اجتماع الهيئة بصفته مرشدًا للجماعة، ولكنه رفض طلبهم إذ اعتبر انتخابه من قبل الهيئة التأسيسية في المرحلة السرية من الدعوة لا يمثل رأي جمهور الإخوان، وطلب منهم أن ينتخبوا مرشدًا آخر غيره، ولكن الإخوان رفضوا طلبه وبايعوه مرشدًا ثانيًّا».
للمزيد:«المتساقطون على طريق الإخوان».. أسباب الخروج من عباءة الجماعة
الإخوان ومخالفة قواعد الجماعة
يبقى السؤال: «هل كان في تنصيب الهضيبي منافاة لقانون الجماعة ووصية البنّا؟».
يُجِيب الباقوري أنه كان الأحق بمنصب المرشد، إذ لفت في حواره مع الكاتبة نعم الباز السابق ذكرها، إلى تلك الحقيقة فقال: «قد أكون أحق الإخوان بعضوية مكتب الإرشاد بل وبالمرشد العام؛ من ذلك أن حسن البنا أوصاني أن أعتني بأسر الإخوان المعتقلين وهذه وصية كان لابد أن أنفذها وأى أحد يُغالبني عليها لابد أن أغالبه».
بتتبع السيرة الذاتية للمرشد الثاني، فإن انضمامه للجماعة كان في 1942 وبقي سريًّا؛ نظرًا لعمله كقاضٍ ورئيس لمحكمة استئناف القاهرة آنذاك، ومع ذلك فإن من شروط تعيين المرشد حسبما جاء في موسوعة الإخوان الإلكترونية، أن يكون مضى على انتظامه في الجماعة أخًا عاملًا مدة لا تقل عن خمس عشرة سنة هلالية ولا يقل عمره عن أربعين سنةً هلاليةً، وبعد انتخابه يبايعه أعضاء الجماعة وعليه التفرغ تماما لمهام منصبه للعمل بالجماعة.
للمزيد:بناء قواعد الدعم.. أساليب الاستقطاب عند «الإخوان»
المرشد السري
لجأت الجماعة خلال تاريخها إلى حيلة تحفظ وجود المرشد بعيدًا عن الملاحقات الأمنية، فحين مات البنّا انقسمت الآراء داخل المحفل الإخواني حول اختيار إمام لهم، وظلت الجماعة من 1949 حتى 1951 بلا مرشد.
يقول الباحث في شؤون الحركات الإسلامية أحمد بان: إن من شغل هذا المنصب خلال هذه المرحلة، بشكل سري كان مصطفى مشهور (المرشد الخامس للجماعة فيما بعد).
أُثيرت قضية المرشد مرة ثانية للظهور بعد وفاة المرشد الثاني، حسبما أفاد مؤرخ الجماعة أحمد رائف، الذي حضر اجتماعًا في الكويت مع عدد من قيادات الجماعة في منزل المستشار عبدالقادر حلمي (عضو مكتب الإرشاد)، مدعوًا لاجتماع من بعض الإخوان هناك، وطُلب من الحضور مبايعة مرشد سري، دون الكشف عن هويته حتى لأعضاء الجماعة، فرفضوا وانتهى الاجتماع دون إعلان الاسم أو المبايعة التي تمت بشكل سري في مصر، وكان على أوثق الروايات حلمي عبدالمجيد، الذي بقى مرشدًا سريًّا للجماعة حتى العام 1976.
أما «إخوان ويكي»، فلها رواية أخرى عن المرشد السري الثاني، وهو الشيخ الضرير محمد مرزوق الذي كان نائبًا للهضيبي في إدارة الاجتماعات في حال تغيب الأخير، وطُلب منه تيسير أعمال الجماعة منذ نوفمبر 1973 حتى 1975، إلا أن بعض الإخوان رفضوا مبايعة مرشد لا يعلمون اسمه أو هويته، وانتهى الأمر بمبايعة عمر التلمساني المرشد الثالت للجماعة من 1975 حتى 1986.
للمزيد:«الإخوان المسلمون».. أسرار«الجماعة» كما رواها كتاب «أحداث صنعت التاريخ»
في أغسطس 2013، كشفت صحيفة «ديلي تليجراف» البريطانية عن مرشد سري لجماعة الإخوان يختبئ في لندن هو «جمعة أمين عبد العزيز»، لافتة إلى إنه عُيّن مرشدًا للجماعة فى أعقاب القبض على سلفه محمد بديع (المرشد الثامن) فى القاهرة، وأشارت إلى أن المرشد الجديد، الذى يبلغ 79 عامًا، انتقل إلى بريطانيا في يونيو من العام نفسه لتلقى العلاج ؛ لذلك استطاع الإفلات من الاعتقال بعد عزل الرئيس المنتمي للجماعة محمد مرسى (2012-2013) من منصبه، موضحة أن أمين ينظم من هناك رد فعل الإخوان على الإطاحة بمرسى.





