ad a b
ad ad ad

أصولية الخطاب الديني.. بين ضرورة التجديد وهاجس الانغلاق

السبت 08/ديسمبر/2018 - 01:22 م
محمد الدابولي
طباعة

فور وقوع أي حادث إرهابي في مصر تنبري الدعوات بضرورة تجديد الخطاب الديني، كما أن المؤسسات الرسمية، سواء في مصر أو غيرها من الدول، لا تكاد تفوت مناسبة دينية إلا أن تعيد وتؤكد أهمية ذلك التجديد ومدى الحاجة إليه كمدخل مهم في مكافحة ومحاربة الفكر المتطرف الإرهابي.

ورغم توافق جميع النخب (دينية ــــ فكرية) من حيث المبدأ على أهمية تجديد الخطاب الديني فإنه شهد من الناحية التطبيقية اختلافات حادة في وجهات النظر حول كيفية وضع المفهوم موضع التنفيذ، وهو ما سنح للتنظيمات الإرهابية المتطرفة باستمرار نشر أفكارها ومبادئها الهدامة، لذا في هذه الورقة البحثية ستحاول الإجابة عن بعض التساؤلات المهمة حول ماهية مفهوم تجديد الخطاب الديني، وما أهم الاتجاهات التي تُسيطر على الخطاب الديني المعاصر، كما ستحاول الورقة التطرق إلى السمات المميزة للخطاب الديني بشكل عام، وكذلك الأدوات التي تعتمد عليها الاتجاهات المختلفة للخطاب الديني، وفي النهاية ستحاول الورقة تقديم رؤية قد تُسهم في معالجة الإشكالية التي يُعاني منها تجديد الخطاب الديني.
أصولية الخطاب الديني..
أولًا: ماهية تجديد الخطاب الديني في مصر:
في البداية يجب تعريف الخطاب؛ فمن الناحية اللغوية يعرف الخطاب كما جاء فى لسان العرب على أنه: «الخطاب هو مراجعة الكلام، وقد خاطبه بالكلام مخاطبة وخطابًا.. والمخاطبة مفاعلة من الخطاب»، وجاءت مادة «خطب» في عدة مواضع من القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾ (سورة ص: 20)، وقال جل شأنه: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً﴾ (الفرقان: 63)[1]، أما من الناحية الاصطلاحية فيعرف الخطاب على أنه: إيصال الأفكار إلى الآخرين بواسطة الكلام المفهوم، واللغة في ذلك هي أداة الخطاب يعني وعاء الأفكار[2].

بالانتقال إلى مفهوم التجديد، نجد أن هناك خلافًا جذريًّا حول المفهوم؛ حيث نجد أنفسنا أمام منظورين فكريين في تعريف التجديد وأبعاده هما منظور النقل ومنظور الاجتهاد.

فمنظور النقل يرى أن عملية تجديد الخطاب الديني هي إعادة الدين إلي نضارته ورونقه وبهائه وإحياء كل سننه ومعالمه[3]، وإحياء الفرائض المعطلة، وإزالة كل ما علق بها من الضلالات والمفاهيم المنحرفة، وذلك من أجل الوصول إلى إعادة تشكيل وعي المسلم وفهمه وتصوراته وفق العقيدة الإسلامية الصحيحة، وعادة ما يتبنى هذا المنظور الفكري معظم المؤسسات والجماعات الدينية الملتزمة الراديكالية، وفي المقابل هناك منظور أخر يرى أن التجديد في الخطاب هو فتح باب الاجتهاد، وإعمال العقل والتحرر من سيطرة بعض التفسيرات للنصوص الدينية والانفتاح بشكل أوسع على الحضارات الأخرى، ورفض الانغلاق على الذات، ومن أنصار هذا المنظور مفكرو الحركة الليبرالية المصرية التي بدأت في عهد محمد علي ومستمرة إلى اليوم، ومن أعلامها الشيخ «رفاعة الطهطاوي» و«الشيخ علي عبدالرازق»، وطوال القرنين الماضيين استمر الصراع الفكري بين أنصار المدرستين، إلا أن هذا لم يمنع من ظهور العديد من المحاولات الفكرية التي تحاول الجمع بين المدرستين؛ حيث التمسك بالثوابت الدينية كالصلاة والصيام مع تطبيق الاجتهاد في العديد من الأمور التي تخص الشؤون اليومية والحياة المجتمعية، ومن أبرز رواد هذا الاتجاه الشيخ «محمد عبده».
أصولية الخطاب الديني..
ثانيًا: اتجاهات الخطاب الديني في مصر:

المتأمل في واقع الخطاب الديني يدرك تنوعه إلى خمسة خطابات بارزة هي:

1ـ الخطاب المؤسساتي:
هو الخطاب الصادر من مؤسسات الدولة الدينية الرسمية، والتي من خلاله تحاول الحكومة والنظام السياسي توصيل بعض المفاهيم الدينية للشعب مثل طاعة ولي الأمر، وعدم جواز الخروج على الحاكم، وكثيرًا ما كانت تستغل الدولة هذا الخطاب في توجيه النقد للخصوم السياسيين للنظام السياسي، ويتضح ذلك من المواقف التي اتخذتها المؤسسات الدينية الرسمية تجاه المشكلات الكبرى التي هزت وتهز النظام السياسي؛ لذا يُعدُّ هذا الخطاب مستأنسًا من قبل النظام السياسي وأحد أبرز المدافعين عنه.

تتولى المؤسسات الدينية الرسمية إنتاج هذا الخطاب الديني، معتمدة في ذلك على عدد من الأدوات، مثل السيطرة على المساجد والزوايا والكتاتيب ومعاهد إعداد الكوادر الدينية التي يمكن من خلالها توصيل الخطاب الديني المطلوب، ويتميز هذا الخطاب بسمات معينة أبرزها التماهي مع الخطاب السياسي للدولة.

2. الخطاب الراديكالي المتطرف
وعلى الجانب الآخر من الخطاب الرسمي، يقف الخطاب الراديكالي المتطرف المعادي، ليس فقط للدولة بل أيضًا، للمجتمع، ويريد حسب مفرداته العودة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية وإحياء الخلافة الإسلامية من جديد، ويلجأ هذا الخطاب إلى تكفير المجتمع والحاكم، ولا يتورع في اتباع العنف من أجل تحقيق مآربه، ويتبنى هذا الخطاب العديد من الجماعات الدينية المنشغلة بالسياسة، وفرص التمكين والاستحواذ على السلطة والحكم، وأبرز تلك الجماعات جماعة الإخوان، وتنظيما داعش والقاعدة.

ويعتمد هذا الخطاب على العديد من الأدوات، مثل نشاط الجمعيات الخيرية والإغاثية كرافعة مهمة لمفردات الخطاب من ناحية، كما يعتمد على الأدوات التكنولوجية مثل الفضائيات، هذا فضلًا عن تسخير وسائل التواصل الاجتماعي من أجل إيصال مفردات هذا الخطاب.

ويحظى هذا الخطاب بالدعم من بعض الدول، مثل قطر وتركيا اللتين وفرتا مساحات إعلامية مهمة لتلك الجماعات، فمثلًا معظم الفضائيات المتحدثة عن جماعة الإخوان تصدر من تركيا، كما عملت قناة الجزيرة القطرية خلال السنوات الماضية على الترويج لزعماء الإرهاب، فمثلًا استضافت «أبومحمد الجولاني» زعيم تنظيم «جبهة النصرة» وقبله تم تدبير لقاء حصري مع زعيم تنظيم القاعدة «أسامة بن لادن».
أصولية الخطاب الديني..
ولهذا الخطاب سمات معينة أبرزها[4]:

- ادعاء الصلاح: في البداية، وتحت مبدأ التزكية يحاول هذا الخطاب ادعاء الصلاح، وأنه جاء من أجل إصلاح أحوال المسلمين ورفع الظلم عنهم، وعادةً ما يصاحب هذا الخطاب بعض الممارسات التي قد تعمل على تأييد هذا الخطاب، فمثلًا أغلب الجماعات الإسلامية التي تتبنى هذا الخطاب منخرطة في العمل الإغاثي والخيري، أي أن تلجأ تلك الجماعات إلى العمل الخيري، وادعاء الإصلاح من أجل جذب مزيد من الشعبية في بعض الأوساط كالطلبة والمهمشين، وبالتالي تحقق تلك الجماعات فكرة الانتشار.

- نوستالجيا الماضي: يعيش العالمان العربي والإسلامي اليوم حالة متردية حضاريًّا وثقافيًّا بعد قرون من التوهج الحضاري والثقافي في العصور الوسطى، وهو ما يعكس حالة من الإحباط داخل نفوس الكثير، وتحاول الجماعات المتطرفة بادعاء أن أفول الحضارة الإسلامية والعربية راجع إلى البُعد عن صحيح الديني واتباع الخرافات والبدع؛ لذا إذا أرادت الأمة العودة إلى ماضيها يجب عليها إحياء فرائض الدين والرواتب والسنن النبوية.

- التحايل على الأزمات واستغلالها: يلجأ هذا الخطاب دومًا إلى استغلال الأزمات السياسية والاجتماعية، من خلال دغدغة المشاعر الدينية والقومية، وهو ما رصد مؤخرًا من استغلال خطاب الجماعات المتطرفة لأزمة نقل السفارة الأمريكية للقدس.  

- سيطرة الغموض والعمل السري: يغلب الغموض والعمل السري على تاريخ أغلب الفرق والجماعات المتطرفة عبر التاريخ، ويعود ذلك إلى الهدف الذي من أجله نشأ هذا الخطاب الذي يعمل على معاداة الأنظمة القائمة والمجتمعات، وبالتالي يلجأ في البداية إلى الغموض والسرية كفترة حضانة ينتقل من خلالها إلى مرحلة متقدمة وهي مرحلة المواجهة والتمكين.

- ادعاء التفرد والخلاص: عادة ما يلجأ أنصار هذا الخطاب إلى ادعاء التفرد بأنهم هم المسؤولون فقط عن أمور الدين الإسلامي والأمة الإسلامية ومصالحها، كما يدعون الخلاص بأنهم هم الفرقة الناجية وبقية التنظيمات والجماعات من الفرق الهالكة.

- خطاب منقسم عن نفسه: الغلو والتطرف من السمات الرئيسية في هذا الخطاب، ويسعى أنصار هذا الخطاب إلى مزيد من الغلو والتطرف من أجل الوصول إلى الحقيقة، وبالتالي انشقاقات وانقسامات حادة في الجماعات المتبنية لهذا الخطاب، وهو ما نراه في الخلاف بين تنظيمي القاعدة وداعش فهو ليس خلافًا بين التطرف والاعتدال وإنما خلاف بين التطرف والأشد تطرفًا.

- التجرؤ على القتل وسفك الدماء: لا يتورع أنصار هذا الخطاب في اللجوء إلي سفك الدماء من أجل تطبيق هذا الخطاب، على اعتبار أن ذلك جهاد في سبيل الله، ويبرر الخطاب المتطرف قتل الأبرياء تحت دعاوى كثيرة أبرزها أن المجتمع كافر، ويجوز محاربته من أجل إقامة الدين الإسلامي أو حتى جواز قتل المتمترسين[5] من أجل تحقيق الغاية النبيلة وهي إقامة شرع الله في الأرض.
أصولية الخطاب الديني..
3. الخطاب المدخلي:
وبالتوازي مع الخطاب الراديكالي، يوجد خطاب ديني آخر مشابه له في مفردات التطرف، إلا أنه لم يلجأ إلى العنف كوسيلة لتحقيق مقاصده، بل يعمل على مهادنة الحكومة إلى أبعد حد من أجل تحقيق ضمانه في ممارسة خطابه الطائفي، ولعل هذا الخطاب ينطبق بصورة كبيرة على أنصار التيار المدخلي.

هذا الخطاب يقف بالنص عند ظاهره دون إعمال للعقل في فهم المقاصد الشرعية لهذه النصوص، وأصحاب هذا الخطاب يغلب عليهم الاهتمام الجاد بالشكليات والمظاهر دون توجيه العناية بالأمور الجوهرية في الدين.

ويقوم هذا الخطاب على الطائفية والمذهبية والتعصب، وخير دليل على ذلك موقف السلفية المدخلية من التيارات الصوفية التي ترى أنهم عباد للقبور ويتوجب هدم الأضرحة.

4. الخطاب الصوفي:
وهو الخطاب الذي يركز على الجانب الأخلاقي والوجداني، وإصلاح القلوب، ومجاهدة النفس، معتمدًا في ذلك على الكتاب والسنة، ومقيدًا بهما، خاليًّا من الانحرافات الفكرية والسلوكية، والبدع، والخرافات التي تتنافى مع مبادئ هذا الدين.

وأنصار هذا الخطاب كان ليس لهم أي توجه سياسي قبل الربيع العربي، لكن بعد تلك الأحداث بدأ الحديث عن دور سياسي للحركات الصوفية، إلا أنها مازالت ضعيفة سياسيًّا حتى الآن، ويتضح ذلك من محاولات إنشاء أحزاب سياسية صوفية سواء في مصر أو الصومال.[6]

ومن الجدير بالذكر أن تقرير مؤسسة راند الصادر في عام 2007 حول كيفية التصدي للجماعات التكفيرية قد أشار إلى أهمية التيار الصوفي في مواجهة الإرهاب، وعليه بدأ العديد من الدول العربية والإسلامية في تأسيس تيارات صوفية من أجل مواجهة الإرهاب، ففي الصومال على سبيل المثل تم إنشاء «تنظيم أهل السنة والجماعة» ذات التوجه الصوفي في الصومال عام 2008 لمواجهة تمدد حركة الشباب المجاهدين.

5. علمنة الخطاب الديني
يقوم على تبني القيم الكونية التي تضم ثقافة الديمقراطية والمواطنة ومنظومة حقوق الإنسان، ويؤمن بالدولة المدنية، ويحترم مختلف التشريعات الدستورية والمجلات القانونية، ويقوم على تحوّل المسجد إلى هيئة من الهيئات التي تحتكم إلى «منظومة قيم» يصنعها النظام العلماني، مع كلّ ما يتفرّع عن ذلك من سلوك وقوانين، ومن خلل في العلاقات الاجتماعية على مختلف الأصعدة، وكسر احتكار الدين لمنظومة القيم الاجتماعية[7].

ثالثًا: نحو رؤية أوضح لمعالجة الخطاب الديني:
في البداية الخطاب الوسطي هو مفهوم تركيبي يقوم على استيعاب المواقف والآراء والأفكار والالتزام بالدين، ثم الخروج برؤية وفكر يجمع المحاسن ويبدع ويطور في الأفكار والمواقف، أو هو عملية جدلية متواصلة، في الاستيعاب من الماضي والإبداع فى الحاضر، وما يكون اليوم إبداعًا ووسطية يتحول غدًا إلى تراث يخضع للمراجعة والمحاكمة من جديد، وهكذا تتواصل عملية المراجعة والبحث عن الصواب، وما هو أكثر صوابًا[8].

ويقوم هذ الخطاب على مبدأ الاستيعاب الديني مع تشغيل العقل، وكما يفسر المفكر الإيراني علي شريعتى أن الإسلام مبني على شيئن الدين والمعرفة، فالدين هو النصوص القرآنية الثابتة التي لا تبديل ولا تحريف فيها، ونحن ملتزمون بتطبيقها حرفيًّا، أما المعرفة فهي فهمنا وإدراكنا للدين الإسلامي وجوهره، فإدراكنا يختلف من فرد لآخر، ومن زمن لزمن آخر، وخير دليل على هذا الإمام الشافعي، فعندما كان في العراق أصدر آراء وكتبًا فقهية، ولكن عندما جاء إلى مصر قام بتغيير كل أفكاره وكتبه، وذلك لاختلاف البيئة بين مصر والعراق، وفي النهاية يقوم هذا الخطاب على مبدأ التسامح والود والعلاقة الجيدة مع الآخر وعدم التطرف والغلو في الدين.

للوصول إلي خطاب ديني متطور يجب علينا أولًا تطوير التعليم الديني؛ وذلك من خلال تطوير المناهج التعليمية الدينية، وربط المناهج التعليمية بالقضايا التي تشغل بال مجتمعاتنا اليوم، مثل قضايا البيئة وحقوق المرأة ورأي الدين في ذلك.
[1] للمزيد تابع الرابط التالي.
[2] يحيى أبوزينة، تطوير الخطاب الديني كأحد التحديات التربوية المعاصرة، الموسوعة الشاملة، متاح على الرابط.
[3] موقع السكينة، مفهوم الخطاب الديني. 
[4] هاني نسيره، سمات المتطرفين، موقع السكينة، متاح على الرابط التالي. 
[5] جواز قتل المتمترس بمعنى أن العدو يتمترس حول المدنيين والأبرياء، واتخاذهم كدروع بشرية له؛ لذا يجوز في حالة الضرورة قتل هؤلاء الأبرياء من أجل الوصول إلى العدو.
[6] تابع الرابطين/ http://www.masress.com/moheet/63295
http://www.almasryalyoum.com/news/details/121172

[7] لبنى الرامي - مولاي مروان العلوي - فؤاد عاقل، تجديد الخطاب الديني: الاجتهاد نموذجا،، مركز أفاق للدراسات والبحوث، متاح على الرابط 
[8] الدستور الأردنية، في ندوة بمنتدى «الدستور» .. المتحدثون: التفسير الخاطىء للنصوص السبب الرئيس لظهور الفرق المتطرفة، متاح على الرابط التالي

"