أجمعوا على فرضية استمراره.. صحابة النبي أول من عَلَّمَ الأمة «التجديد»
الخميس 28/يونيو/2018 - 01:55 م
محمود محمدي
عرفت الأمة الإسلامية الاجتهاد أو «تجديد الخطاب الإسلامي» منذ سنوات الإسلام الأولى، وقد رَسَّخ لدوام هذه المعرفة وعدم جمودها قول النبي (صلى الله عليه وسلم): «إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا»؛ فمن هذا الحديث انطلق الصحابة والتابعون ومن جاء بعدهم في طريق التجديد.
وقد اجتمعت الأمة على أن «التجديد» من لوازم الشريعة الإسلامية؛ فأركان الإسلام تمت بطريقة التجديد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلن عن الإسلام دفعة واحدة، وإنما أعلن عن أركانه ركنًا تلو الآخر، وخلال سنوات متباعدة، والإسلام خلال حياة النبي صلى الله عليه وسلم في أوله غير أوسطه وقبيل وفاته؛ فبنائية هذا الدين الحنيف تمت بطريقة التدريج حتى اكتمل، وهذا هو التجديد، وكثير من الأحكام ظهرت ثم نسخت ثم بعضها خفف وبعضها شدد، ومثال ذلك الربا والخمر.
وقد شرع الصحابة رضوان الله عليهم في المضي قُدمًا نحو التجديد وسن تشريعات تنفع الناس حتى وهم بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؛ فقد روي عن الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ بن جبل: أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لما أراد أن يبعث معاذًا إلى اليمن قال: كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضى بكتاب الله، قال فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال فبسنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، قال فإن لم تجد في سنة رسول الله؟ قال أجتهد رأيي ولا آلو؟ فضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على صدره، وقال: الحمد لله الذي وفّق رسول رسول الله لما يُرضي رسول الله».
وفي عهد الخليفة الراشد الأول أبي بكر الصديق، تواصل التجديد حتى إنه ومن معه من الصحابة أجمعوا على وقف سهم من مصارف الزكاة مذكور فى القرآن، وهو «المؤلفة قلوبهم»، وهذا مع التجديد، لأنهم أدركوا أن الحكم مرتبط بعلة، وهذه العلة لم تعد موجودة، وتعود القصة التي ذكرها «ابن قدامة» إلى أنّ الأقرع بن حابسٍ وعيينة بن حصنٍ (وهما من المؤلفة قلوبهم) جاءا يطلبان من أبي بكرٍ أرضًا، فكتب لهما بذلك، فمرّا على عمر بن الخطاب، فرأى الكتاب فمزّقه، وقال: هذا شيء كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يعطيكموه ليتألّفكم، والآن قد أعزّ اللهُ الإسلام وأغنى عنكم، فإن ثبتّم على الإسلام، وإلّا فبيننا وبينكم السّيف، فرجعا إلى أبي بكرٍ، فقالا، ما ندري: الخليفة أنت أم عمر؟ فقال: هو إن شاء، ووافقه، ولم ينكر أحد من الصّحابة ذلك.
وفي عهد الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب، توسعت الأمة في تطبيق «التجديد»؛ فقد أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن عبدالرحمن بن عبدالقاري أنه قال: «خرجتُ مع عمر بن الخطاب ليلةً في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرَّهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أُبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى، والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون (يريد آخر الليل)، وكان الناس يقومون أوله».
وقد رأى عمر بن الخطاب، في جمع الناس على قارئ واحد وسن صلاة التراويح خيرًا كثيرًا للأمة، ولم يمنعه من هذا علمه بقول النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الشيخان (البخاري ومسلم) عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى في المسجد (أي صلاة التراويح) فصلّى بصلاته ناس، ثم صلّى الثانية، فكثر الناسُ، ثم اجتمعوا في اللَّيلة الثالثة أو الرابعة، فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح قال: «رأيتُ الذي صنعتم فلم يَمنعني من الخروج إليكم إلّا أني خشيت أن تفترض عليكم».
وعلى خُطى «ابن الخطاب» في الاجتهاد والتجديد، سار الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه؛ فمع استمرار الفتوحات الإسلامية، ودخول الكثيرين في الإسلام من بلدان مختلفة، وتعدد القراءات في الأمصار لدرجة أثارت بعض الفتن، جمع «ابن عفان» القرآن الكريم في مصحف واحد، وأرسله لجميع الأمصار.
وروى الإمام البخاري في صحيحه حديثًا يوضح المرحلة التي بدأ فيها عثمان بن عفان، جمع القرآن الكريم وتوحيد القراءات المختلفة، وتقول القصة إن حذيفة بن اليمان كان في إحدى الغزوات مع مقاتلين من أهل الشام وأهل العراق، وفزع من اختلافهم في قراءة القرآن، وطالب الخليفة بإدراك الأمة قبل أن تتفرق، فشَكَّل «بن عفان» لجنة لهذا الغرض، وأرسل إلى أم المؤمنين حفصة بنت عمر، وطالبها بإرسال الصحف التي لديها لنسخها، وأمر 4 من الصحابة، هم: زيد بن ثابت، وعبدالله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف.
وقال «عثمان» للقريشيين الثلاثة (عبدالله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام): إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيءٍ من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش، فإنّه إنما نزل بلسانهم، ففعلوا، حتّى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، أرسل الخليفة الثالث إلى كلّ بلد بمصحف ممّا نسخوا.
هذه الخطوة التي قام بها الخليفة الثالث جمع القرآن كله في مصحف واحد تم اعتماده في جميع أنحاء العالم الإسلامي، وهو النسخة التي نقرأ منها حتى اليوم، وأنفذت هذه الخطوة وعد الله بحفظ كتابه إلى الأبد، وأهم جانب في خطوة التجديد التي قام بها «ابن عفان»، هي جمعه الناس على قراءةٍ واحدةٍ (القراءة المتعارفة بين الصحابة والمتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم) ومنعه إياهم من سائر القراءات الأخرى التي توافق بعض لغات العرب، وأيده علي بن أبي طالب في هذه الخطوة.
ثم مرت الأمة بسنوات من الجمود والسبب في هذا كثرة الفتن والخلافات التي اشتعلت شرارتها بمقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان، على يد الغوغاء والسوقة الذين اجتمعوا عليه من مختلف الأمصار، ولم يواصل المسلمون عهدهم بـ«التجديد» إلا في عهد الحاكم عمر بن عبدالعزيز (الذي سُمي بخامس الخلفاء؛ لأنه أكثر الحكام شبهًا بالخلفاء الراشدين) والذي اتفق العلماء والمؤرخون أنه المجدد الأول للأمة الإسلامية.
وليس في إطلاق لقب «المجدد الأول» على عمر بن عبدالعزيز، هضمًا لحق أبي بكر الصديق أو معاذ بن جبل أو عمر بن الخطاب أو عثمان بن عفان؛ فهؤلاء الأربعة كان يُعلمون الأمة بطريقة عملية كيف يمارسون خصيصة «التجديد» ولذلك عُد الواحد منهم بمثابة «المعلم»، وأول تلميذ نجيب لهم هو «ابن عبدالعزيز»، ثم الإمام محمد بن إدريس الشافعي، ثم بقية المجددين في الإسلام إلى يوم الناس هذا.





