اضطرابات «غلمدغ».. هل تُدفع «الصوفية الصومالية» للاقتتال من جديد؟
اندلعت مؤخرًا أزمة سياسية جديدة في الصومال، تُضاف إلى سجل الأزمات التي تعوق جهود قيام دولة صومالية موحدة قادرة على محاربة التنظيمات الإرهابية، فضلًا عن إحلال الأمن في تلك المنطقة الحيوية من العالم.
وتتلخص أبعاد الأزمة الأخيرة في الخلاف على بنود تطبيق «اتفاقية جيبوتي»، التي تم توقيعها في ديسمبر 2017 بين الأطراف المتخاصمة في ولاية «غلمدغ» وسط الصومال، والاتفاقية تؤكد ضرورة إدماج جماعة «أهل السُنة والجماعة» -حركة صوفية صومالية مسلحة- في إدارة الولاية، وأتت الاتفاقية؛ لتنهي 3 سنوات من الصراع بين الحكومة الفيدرالية والجماعة.
الخلاف الأخير يفسره البعض على أنه تقاعس من الحكومة الفيدرالية والمقربين منها في تنفيذ «اتفاقية جيبوتي»، في حين يفسره البعض الآخر على أنه تغول من جماعة «أهل السُّنة والجماعة» على المشهد السياسي في الولاية وعدم مراعاة التوازنات القبلية في الولاية؛ لذا نحلل هنا أبعاد ودوافع الأطراف السياسية في الولاية، خاصة جماعة أهل السُّنة والجماعة، إضافة إلى استشراف مستقبل اتفاقية جيبوتي، هل سيتم إخضاعها للتنفيذ أو سيتم إلغاؤها، وأخيرًا أثرت الخلافات الأخيرة على الأوضاع السياسية في منطقة القرن الأفريقي عمومًا، والصومال خصوصًا.
تحولات الصوفية الصومالية
تميزت الحركة الصوفية الصومالية متمثلة في «أهل السُّنة والجماعة» عن غيرها من الحركات الصوفية على مستوى العالم، بالانخراط المباشر في العملية السياسية، والمشاركة في الانتخابات، وعقد التسويات السياسية مع الشركاء والخصوم، وأخيرًا إنشاء ميليشيات عسكرية مسلحة تتولى الدفاع عن مصالح الجماعة، ومحاربة أعدائها.
مرت عملية تسييس وعسكرة الصوفية الصومالية بمرحلتين تاريخيتين، أولهما، كانت في بداية القرن الـ20، حينما وهبت الصوفية الصومالية نفسها بقيادة «محمد بن عبدالله حسن» (1856 ، 1920) لمحاربة الاستعمار والتبشير في مناطق الساحل الصومالي، أما المرحلة الثانية من تسييس وعسكرة الصوفية الصومالية، فكانت في عام 2008، أي بعد عامين من إسقاط حكم «المحاكم الإسلامية» عام 2006 وبزوغ نشاط حركة «شباب المجاهدين» التي لم تتورع في استهداف المزارات الصوفية الصومالية عام 2008.
للمزيد: دولة الدراويش الصومالية.. حروب «المجنون» براية الصوفية
شهدت الحركة الصوفية الصومالية متمثلة في «أهل السنة والجماعة» تحولات سياسية كبرى في البداية، نجحت في إزاحة حركة الشباب من مناطق وسط الصومال باتجاه الولايات الجنوبية عام 2009، ثم بدأت بعد ذلك المطالبة بإدارة المناطق المحررة، ففي مارس 2013 وافق رئيس الوزراء الصومالي «عبده صالح شردون» على تشكيل وحدات إدارية من الجماعة لإدارة المناطق المحررة.
ولم تستمر الأجواء التوافقية بين الجماعة والحكومة، التي باتت تنظر بعين الحذر والريبة لطموحات الجماعة السياسية، ورغبتها في السيطرة على ولاية «غلمدغ»؛ لذا اندلعت الاشتباكات بين الطرفين في مارس 2015 في مدينة «جريعييل»؛ الأمر الذي دفع الاتحاد الأفريقي لنشر فرقة عسكرية إثيوبية في المدينة؛ لضبط الأمور ووقف الاقتتال، وشهدت الفترة من مارس 2015 وحتى ديسمبر 2017 حالة من الاقتتال المتقطع بين الجانبين، الذي انتهى بتوقيع «اتفاقية جيبوتي» في ديسمبر 2017، والذي ينص على ضرورة إشراك الجماعة في إدارة وحكم الولاية.
للمزيد : «الصوفيَّة الصوماليَّة» بين الكمون السياسي والصراع على السلطة
تقاسم السلطة
في 7 ديسمبر 2017 توصلت حكومة ولاية «غلمدغ» وتنظيم أهل السُّنة والجماعة إلى اتفاقية لتقاسم السلطة بين الجانبين، وتمت الاتفاقية برعاية الرئيس الصومالي «محمد عبدالله فرماجو»، الذي شهد توقيع هذه الاتفاقية، وأيضًا رعاية «الهيئة الحكومية للتنمية في شرق أفريقيا» «الإيجاد»، وتنص بنود الاتفاقية على ما يلي:
* توحيد إدارتي الولاية في إدارة واحدة، ومقرها مدينة «دوسمريب» عاصمة الولاية.
* استحداث منصب رئيس مجلس وزراء الولاية، الذي سيتولاه زعيم الجماعة «محمد شاكر».
* الدمج بين برلماني الإدارتين (برلمان الولاية والبرلمان الذي شكلته جماعة أهل السُّنة) مع مراعاة حصص القبائل، وسيكون مقر البرلمان الموحد في مدينة «عدادو» التي تُعد حاليًّا المقر المؤقت لولاية «غلمدغ».
* تقاسم المناصب الحساسة في الولاية والقوات التابعة لها بين الطرفين، مع مراعاة النظام القبلي في المنطقة.
وفي سياق تنفيذ الاتفاقية أثنى الرئيس الصومالي «فرماجو» على الاتفاقية، كما تعهد «محمد شاكر» بتنفيذ الاتفاقية، كما أثنى رئيس الولاية «أحمد دعالي حاف» على موقف الجماعة.
ولأجل استكمال تنفيذ بنود الاتفاقية عُقد مؤتمر في مدينة دوسمريب يوم 26 مارس 2018؛ لتوحيد ودمج برلماني الولاية في برلمان واحد قوامه 178 نائبًا برئاسة «علي غعل عسر»، الذي اعتبر دمج برلماني الولاية تجاوزًا لمرحلة الخلافات الماضية.
وبناء على حالة التهدئة التي شهدتها الولاية خلال الشهور الماضية، أقدمت القوات الإثيوبية العاملة في نطاق قوات الاتحاد الأفريقي في أبريل 2018 على الانسحاب من الولاية مدينة «دوسمريب» باتجاه الحدود مع إثيوبيا، وهو ما يوحي بارتياح داخل الأطراف الإقليمية لاستتباب الأوضاع السياسة والأمنية في «غلمدغ»، وأنها في ظلِّ التوافق السياسي باتت قادرةً على مواجهة حركة الشباب وقادرةً على حلِّ خلافاتها الداخلية بعيدًا عن أسلوب التناحر والاقتتال.
انقلاب الأوضاع
لم يمر عام على اتفاقية جيبوتي، حتى انقلبت الأوضاع رأسًا على عقب مرة أخرى في «غلمدغ»؛ نتيجة الخلاف حول تطبيق اتفاقية «غلمدغ» بين الحكومة المركزية في مقديشو والعناصر الموالية لها في الولاية، وجماعة أهل السُّنة والعناصر المحسوبة عليها.
وبدأت الأمور تنزلق مرة أخرى في أول مايو 2018، حينما رفض رئيس برلمان الولاية «علي غعل عسر» العودة إلى دوسمريب، للمشاركة في أعمال البرلمان (الذي تم دمجه في مارس 2018)، مفضلًا البقاء في العاصمة مقديشو، ومعلنًا معارضته لأسلوب تطبيق الاتفاقية، وفي المقابل طالب النواب رئيسهم بالعودة مرة أخرى، وممارسة مهامه، وألا يكون حجر عثرة في سبيل تحقيق السلام بالولاية.
واستتبعت تحركات «عسر» المناوئة للاتفاقية تحركات قادها نواب البرلمان الفيدرالي الصومالي (مجلسي الشيوخ والشعب)، الذين أعلنوا معارضتهم لأسلوب تطبيق الاتفاقية؛ حيث لم يتم احترام أسلوب تقاسم السلطة بين القبائل المتفق عليه في الاتفاقية، كما أشاروا إلى أن تنفيذ بنود الاتفاقية جاء في صالح أحد الأطراف، ويقصد هنا «أهل السُّنة والجماعة».
وفي المقابل دافع الشيخ «محمد شريف» عن تطبيق الاتفاقية، مؤكدًا عدم وجود خلافات، كما أن عملية دمج برلمان الولاية مع برلمان أهل السُّنة تم بنجاح دون أي عوائق، وفي السياق ذاته اتهم «شاكر» الحكومة الفيدرالية الصومالية بالتدخل في شؤون الولاية، وتعطيل تنفيذ اتفاقية جيبوتي التي لم يتبقَ منها سوى تشكيل حكومة موحدة للولاية.
إقصاء متبادل
تفاقمت الأزمة السياسية في «غلمدغ» خلال الشهر الأخير، فكل طرف من أطراف الأزمة حاول إقصاء الطرف الأخر من موقعه في إدارة حكومة وبرلمان الولاية، ففي 13 سبتمبر 2018 وعلى خلفية اتهامات وزير الإعلام في الولاية «محمود عثمان» للحكومة الفيدرالية بإفشال اتفاقية جيبوتي قام مجلس نواب الولاية المنعقد في «دوسمريب»، بحجب الثقة عن رئيس برلمان الولاية «علي غعل عسر»؛ لتواطؤه مع الحكومة الفيدرالية في تنفيذ الاتفاقية، وفي المقابل قام بعض النواب المحسوبين على «عسر»، بسحب الثقة من رئيس الولاية «أحمد دعالي حاف»، وتعيين «أحمد محمود باستو» رئيسًا للولاية.
وفي سياق تصعيدي للأزمة، تم انتخاب «إسماعيل عبدلي أحمد» يوم 10 أكتوبر 2018 رئيسًا جديدًا لبرلمان الولاية خلفًا لـ«عسر» في جلسة حضرها 137 نائبًا من أصل 178 نائبًا.
بقرارات الإقصاء الأخيرة، نجد أن الوضع في الولاية عاد من جديد للمربع صفر؛ حيث انقسمت الأطراف مرة أخرى إلى فريقين متخاصمين، فريق موالٍ للحكومة الفيدرالية يتخذ من مدينة «عدادو» مقرًّا له، وفريق آخر موالٍ لجماعة أهل السُّنة يتمركز في «دوسمريب».
موقف الحكومة
حاولت الحكومة الصومالية إبداء الحيادية من الأزمة في ولاية غلمدغ؛ حيث دعت وزارة الداخلية والمصالحة والشؤون الفيدرالية إلى حلِّ الخلافات والعمل على الاتفاقية الموقعة بين الجانبين، وفي 22 سبتمبر دعا الرئيس الصومالي «محمد عبدالله فرماجو» أطراف النزاع في الولاية لاجتماع تشاوري في مقديشو، وهو ما قوبل بالرفض من قِبل رئيس الولاية «أحمد دعالي»، داعيًا فرماجو للكف عن التدخل في شؤون الولايات واحترام النظام الفيدرالي، وفي المقابل رحب نائب رئيس الولاية «محمد عبدي حاشي» الموالي لمقديشو بدعوة رئيس الجمهورية، متهمًا رئيس الولاية بالتسبب في الأزمة.
سيناريوهات مُحتملة
بعد استعراض أبعاد الأزمة السابقة يمكن التكهن ببعض السيناريوهات التي ستؤول إليها الأزمة في ولاية «غلمدغ» الصومالية:
* تَمَكن جماعة أهل السُّنة والجماعة: وما يعزز هذا السيناريو هو نجاح الجماعة في استقطاب معظم نواب الولاية بواقع 137 نائبًا من أصل 178، فضلًا عن استمالة رئيس الولاية «أحمد دعالي حاف»، إضافة إلى تمكن ولاية «غلمدغ» في تكوين تكتل من بعض الولايات الجنوبية «مجلس تعاون الولايات الإقليمية»، الذي يضم ولايات (بونت لاند _غلمدغ _ جوبالاند _ جنوب غرب الصومال).
وخلال الاجتماع الأخير للمجلس في مدينة «غروي» عاصمة بونت لاند، اتهم الحكومة الفيدرالية بتدمير الفيدرالية الصومالية ومحاولة هدم السلام في «غلمدغ».
وتحاول الولايات الأعضاء في مجلس التعاون إحلال المجلس محل الحكومة الفيدرالية، ففي اجتماع المجلس في مدينة «كسمايو» بتاريخ 4 سبتمبر 2018 أقر المجلس بإيقاف التنسيق مع الحكومة واتهامها بالفشل في إدارة البلاد.
* سيطرة الحكومة الفيدرالية: يبرز هنا سيناريو آخر متمثل في إمكانية تمكن الحكومة الفيدرالية في السيطرة على الأوضاع في «غلمدغ»، وإقصاء جماعة أهل السُّنة منها، إلا أن فرص تحقيق هذا السيناريو تظلّ ضئيلة نوعًا ما؛ نظرًا لتمكن جماعة أهل السنة في جذب المزيد من الداعمين السياسيين، سواء في الولاية، أو على مستوى الولايات الأخرى، كما يستبعد نجاح أي عمل عسكري للحكومة الفيدرالية؛ نظرًا لتمتع ميليشيات أهل السُّنة والجماعة بقدرات عسكرية وتدريبية تمكنها من صدِّ أي هجوم للجيش الصومالي، فالجماعة نجحت في دحر حركة الشباب في عام 2009، ونجحت أيضًا في صدِّ هجمات الجيش الصومالي خلال الفترة من 2015 وحتى 2017.
للمزيد: لماذا تدعم أمريكا الميليشيات الصوفية الصومالية؟
* انهيار الاتفاق والعودة للاقتتال: يظلّ السيناريو الأخير هو الخيار المفضل للساسة في الصومال، فخلال الفترة من 1991، وحتى اليوم انتهج أمراء الحرب في الصومال أسلوب الاقتتال كوسيلة أساسية في حلِّ خلافتهم السياسية، وما يعزز هذا السيناريو التدخلات الإقليمية والدولية في الصومال، التي قد ترى من مصلحتها إشعال الأزمة في مناطق وسط الصومال من جديد، فضلًا عن أن التحالف بين جماعة أهل السُّنة ورئيس الولاية «أحمد دعالي» ليس بالقوة الكافية، ففي الفترة الأخيرة نشب خلاف بين الطرفين حول تشكيل حكومة الولاية؛ حيث أبدى نواب جماعة أهل السُّنة معارضتهم لبعض الوزراء الذين اختارهم «دعالي».
وأخيرًا، من المؤكد أن الأزمة الأخيرة سيكون لها انعكاسات على الاستقرار في منطقة القرن الأفريقي والصومال، فولاية «غلمدغ» تتماس مع المناطق التي تنشط فيها حركة شباب المجاهدين؛ لذا فأي اضطراب في أمن الولاية بسبب الخلافات السياسية سيعزز من حظوظ حركة الشباب في إعادة التمركز مرة أخرى في وسط الصومال، وتوزيع تهديداتها لدول الجوار كجيبوتي وإثيوبيا.





