يصدر عن مركز سيمو - باريس
ad a b
ad ad ad

«الصوفيَّة الصوماليَّة» بين الكمون السياسي والصراع على السلطة

الخميس 12/يوليو/2018 - 10:12 م
المرجع
محمد الدابولي
طباعة

تشتهر الطرق الصوفية بزهدها في الحياة الدنيا عمومًا، وفي السلطة السياسيَّة وصراعاتها على وجه الخصوص، وأقصى دور سياسي تلعبه يتمثل في دعم الحاكم وتوفير الحواضن الشعبية لنظامه، من دون الانخراط في صراعات الاستحواذ على السلطة بين المتنافسين السياسيين.


لعقود وقرون طوال مضت، حظيت الطرق الصوفية برعاية الحكام، رغبة منهم في تأكيد شرعيتهم السياسية وضمان ظهير ديني قوي مؤيد لتوجهاتهم السياسية، إلا أنه منذ خمسينيات القرن العشرين تراجع الأداء الصوفي بشكل كبير تحت وطأة تحديات، يأتي أبرزها عزوف الحكومات في فترة ما بعد الاستقلال عن توظيف البعد الديني في اكتساب الشرعية السياسية، كما أن معظم تلك الأنظمة تبنت النهج الاشتراكي القائم- أساسًا- على فصل الدين عن السياسة، وتقليل التوظيف السياسي للدين، كما حدث في مصر والصومال والجزائر والعراق في ستينيات القرن العشرين، على سبيل المثال.

«الصوفيَّة الصوماليَّة»

واكبت عملية انزواء الفكر الصوفي- خلال العقود الثلاثة الأخيرة- تصاعد التيار الإسلاموي متصدرًا المشهد السياسي في العديد من الدول العربية والإسلامية مثل: مصر والعراق وأفغانستان، ما حدا بتلك الدول في مرحلة متأخرة إلى التقليب في الطرق الإسلامية للبحث عن الوجه الوسطي المتسامح للدين الإسلامي ووجدت ضالتها في الفكر الصوفي الذي أُهمل خلال الفترة الماضية.


خلال الفترة الأخيرة تم توظيف الطرق الصوفية في العديد من الدول من أجل محاربة التطرف والإرهاب، وهو ما سمح باختلاط الصوفية بالعمل السياسي المباشر الذي كان أبرز التأثيرات على مسارات حركة الطرق الصوفيَّة خلال الفترة الأخيرة.


يتضح تأثير التوظيف السياسي للطرق الصوفية على مساراتها الحركية في الحالة الصومالية، فالصوفية الصومالية كانت أسبق من مثيلتها في الدول الإسلامية في توظيفها من أجل محاربة الإرهاب والتطرف فخلال عام 2008 تمت عسكرة الطرق الصوفية الصومالية من أجل وقف تمدد «حركة شباب المجاهدين» ذراع «القاعدة» في الصومال.

ورغم نجاح الصوفية الصومالية- نسبيًّا- في دحر «حركة الشباب» فإن مشاركتها في غمار السياسة والحرب على الإرهاب كانت له تأثيرات جوهرية على المسارات السياسيَّة لهذه الطرق، فلأول مرة تقريبًا في العصر الحديث بدأت الطرق الصوفية تتصارع من أجل السيطرة على السلطة السياسيَّة وتنازع الحكومات في اختصاصاتها وتدخل في حروب متقطعة معها، لذا قد تعتبر دراسة حالة التجربة الصوفية الصومالية كاشفة لما ستؤول إليه عملية إقحام الطرق الصوفية في الشأن السياسي للدول.

«الصوفيَّة الصوماليَّة»

اضطراب المشهد السياسي

الصومال دولة تاريخية في منطقة القرن الأفريقي حققت استقلالها ووحدتها في (يونيو ـ يوليو 1960) وخلال الفترة الممتدة منذ الاستقلال وحتى عام 1991 عانت الدولة الصومالية من العديد من التحديات التي أدت في النهاية إلى انهيار الدولة بشكل كامل بعد الإطاحة بالرئيس الأسبق للصومال «محمد سياد بري» واختيار «على مهدي» خليفة له، وهو ما لم يلقَ قبولًا في صفوف بعض فئات الجيش بقيادة الجنرال «محمد فرح عيديد» ما أدى إلى اندلاع حرب أهلية ترتب عليها انهيار الدولة بشكل كامل.


أدخل الانهيار السياسي، الدولة في دوامة الفراغ الأمني، والأخير شكل بيئة خصبة وحاضنة لقوى التطرف والإرهاب، فنشأ بين صفوف القبائل الصومالية العديد من الحركات الإرهابية الموالية لتنظيم القاعدة، وكانت البداية بـ«اتحاد المحاكم الإسلامية» ثم «حركة شباب المجاهدين».


مثّل ظهور «حركة الشباب»- ومن قبلها «اتحاد المحاكم الإسلامية»- حالة فزع كبير ليس فقط للطرق الصوفية الصومالية؛ بل أيضًا لكل الفاعلين السياسيين في منطقة القرن الأفريقي، ما أدى- من باب رد الفعل- إلى حشد وتجييش  الوسائل كافة من أجل مواجهة صعود حركة الشباب، الإرهابية، وعليه ظهرت ما تسمى «جماعة أهل السنة والجماعة»، كرد فعل صوفي التوجه في وسط الصومال من أجل مواجهة حركة الشباب، واللافت للنظر هنا أن جماعة «أهل السنة» نشأت كتنظيم عسكري سياسي صوفي!

«الصوفيَّة الصوماليَّة»

نشأة الصوفية الصومالية

في دراسة بعنوان: «المشهد الصوفي في الصومال.. الصلة بالسلفية وانحسار الدور» نشرها الكاتب الصومالي سالم الحضرمي، تأكيد يرتقي لمرتبة الجزم بأن الطرق الصوفية وجدت طريقها إلى المشهد الصومالي تقريبًا في بدايات القرن الخامس عشر من الميلاد، لتأثرها (أي الطرق الصوفية الصوماليَّة) بالطريقة «القادريَّة» نسبة إلى نسبة إلي القطب الصوفي «عبدالقادر الجيلاني»، كما أن الطريقة «الأحمدية» وجدت هي الأخرى موطأ قدم لها في الصومال، وفق ما جاء بدراسة «الحضرمي».

 

مصادر تاريخية أفريقية عديدة، ذهبت أيضًا للجزم بأن الطرق الصوفيَّة تصدرت مقاومة المستعمر في العديد من البلدان الأفريقية، فمثلًا شهد مطلع القرن العشرين ثورة الصوفيَّة الصوماليَّة على المستعمر البريطاني بقيادة «محمد بن عبدالله حسن» الذي لقبه الإنجليز بـ«الملا المجنون» ونجح في التغلب على القوات البريطانية في العديد من المواقع الحربية مثل غزوة «طيغ ـ حوض الدم» في أبريل 1901 وأيضًا غزوة «بير طغة» في أكتوبر 1902 وأخيرًا موقعة «عفاروينة» فى 17 أبريل 1903 وفي المعركة الأخيرة انتصر على تحالف عسكري مكون من القوات البريطانية والإيطالية.

 

رغم دور الطرق الصوفية في محاربة الاستعمار لكن دورها بدأ في الانحسار والتقهقر إلى الوراء في مرحلة ما بعد الاستقلال فيوضح الباحث «سالم الحضرمي» أن من أهم أسباب انزواء الصوفية هو تسرب التيار السلفي إلى الداخل الصومالي علي يد الشيخ «نورالدين علو» فضلًا عن اقتصار الصوفيَّة على المشاهد الاحتفالية وابتعادها عن قضايا المواطن الصومالي اليوميَّة وأيضًا ارتباطها الشديد بالسطلة الحاكمة؛ حيث تم استوزار أقطاب الطرق الصوفيَّة في بعض الوزراء خاصة المتعلقة بالشؤون الدينيَّة.

«الصوفيَّة الصوماليَّة»

من الكمون السياسي للصراع على السلطة

في ظل الحرب الأهليَّة الصوماليَّة حاول الجنرال «محمد فارح عيديد» تسييس الطرق الصوفيَّة واكتساب دعم شيوخها ومريديها في حربه ضد الرئيس «علي مهدي» والقوات الأمريكية، إلا أن محاولته تلك باءت بالفشل، حيث فضلت الطرق الصوفية الانزواء بعيدًا عن الصراع الدائر بين أمراء الحرب في الصومال.


وتشير مصادر إلى أن نشأة اتحاد الطرق الصوفيَّة في عام 2003 لم تكن مسيسة بالأساس، واقتصر انشغالها فقط على تنظيم عمل الطرق الصوفية في الصومال.

 

إلا أن عام 2008 شهد حدوث التحول الجذري الكبير في مسار الطرق الصوفيَّة الصوماليَّة، بعد أن هدمت «حركة الشباب» مزارات الأولياء والأضرحة الصوفيَّة، ما أشعل نيران الغضب في صدور الصوفيين الصوماليين، الذين قرروا رد العنف بعنف أكبر، وحمل المريدون السلاح، مكونين ميليشيات مسلحة تحت مسمى «جماعة أهل السنة والجماعة» من أجل التصدي لعنف حركة الشباب.


استطاعت ميليشيات «جماعة أهل السنة والجماعة»- في وقت قياسي- تحرير مناطق وسط الصومال من ميليشيات حركة الشباب والتنظيمات المرتبطة بها خاصة بعد معركة «جوارسيل» شمال مقديشيو، ما أثار تساؤلات عدة، خاصة أن الطرق الصوفية دائما تتشرنق في الإطار الدعوي والروحي مبتعدة عن الشأن السياسي، فضلًا عن العسكري، وكانت الإجابة حاضرة، وقوية بقوة مجريات الأحداث وتطوراتها، فبكل بساطة ما حدث في الصومال 2008 هو ثورة في مسارات الطرق الصوفية الفكرية والحركية.

 

في هذا الإطار تؤكد نرمين توفيق، الباحثة في الشأن الأفريقي في كتابها: «حركة شباب المجاهدين بالصومال وعلاقاتها بالقاعدة» أن جماعة «أهل السنة» تهدف إلى إقامة حكومة تطبق الشريعة الإسلامية لكنها تدين التكفير باسم الدين واستخدام العنف كوسيلة لتطبيق الشريعة الإسلامية، وتشير العديد من التحليلات إلى أن الهدف من إنشاء جماعة «أهل السنة» ليس فقط محاربة حركة الشباب ولكن أيضًا الحصول على المكاسب السياسية.

«الصوفيَّة الصوماليَّة»

دولة الصوفية في وسط الصومال

تمكنت جماعة «أهل السنة» من السيطرة تقريبًا على معظم مناطق وسط الصومال وتطهيرها من ميليشيات حركة شباب المجاهدين الأمر الذي فتح شهية الجماعة من أجل لعب دور رئيسي في السياسة الصومالية ومقارعة الدور الحكومي وتهميشه، الأمر الذي أدى لدخول الحكومة الفيدرالية في مقديشيو في صراع مسلح مع الجماعة من أجل السيطرة على مناطق وسط الصومال.


في البداية حاولت الحكومة الفيدرالية احتواء الجماعة ومنع تغولها في السياسة الصوماليَّة من خلال العديد من الاتفاقيات بين الجماعة والحكومة في أعوام 2009، 2010 وكان الهدف من تلك الاتفاقيات تنسيق التعاون مع الجماعة في قتال حركة الشباب، وفي مارس 2013 بلغ التعاون ذروته حين وافق رئيس الوزراء الصومالي «عبده صالح شردون» على تشكيل وحدات إدارية من الجماعة لإدارة المناطق المحررة.


أدى الوضع السياسي لجماعة «أهل السنة» إلى تأزم علاقتها مع الحكومة الفيدرالية في مقديشيو، ما أسهم في نشوب اقتتال عنيف بين الجانبين في مارس 2015 في مدينة «جريعييل» وانتهت المعركة بقرار وقف إطلاق النار بين الجانبين وتسليم المدينة إلى القوات الإثيوبية العاملة في إطار قوات الاتحاد الأفريقي.

 

تجدد الصراع مرة أخرى بين الجانبين في يوليو 2015 حول السيطرة على إقليم «جلمدج» وسط الصومال حيث تسيطر جماعة «أهل السنة» على ولاية «بونت لاند» المجاورة وتتمتع ببعض النفوذ في إقليمي «مدج وجلجدود» بولاية «جلمدج» ما دفع الجماعة إلى المطالبة بأحقية الإدارة والسيطرة على الولاية خاصة مدينة «عدادو».


استمر الاقتتال بين جماعة «أهل السنة» وحكومة ولاية «جلمدج» لمدة ثلاث سنوات تقريبًا من أجل السيطرة على الولاية وبالفعل نجحت الجماعة في السيطرة على بعض المناطق مثل مدينة «عابدواق» في يوليو 2015 كما أعلن التنظيم إدارة خاصة بمدينة «دوسمريب» يترأسها القيادي بالتنظيم «الشيخ محمد شاكر».


دخل الطرفان في مفاوضات لحل الأزمة في نوفمبر 2017 في جيبوتي وبالفعل تم التوصل في يناير 2018 إلي اتفاق لتقاسم وتوحيد السلطة في ولاية «جلمدج» بين الطرفين، وفي 27 مارس 2018 تم إنشاء برلمان خاص بالولاية مكون من 178 نائبًا من الطرفين، كما تم اختيار مدينة «عدادو» مقرًا للبرلمان.

«الصوفيَّة الصوماليَّة»

اتهامات بالعمالة

اتُهمت «جماعة أهل السنة» بأنها تعمل في الصومال لصالح بعض الدول، ففي البداية اتهمت بالعمالة لإثيوبيا طبقًا لتصريحات وزير الاتصالات الإثيوبي السابق «بيريكيت سيمون» أكد أن بلاده سمحت للجماعة باستخدام أراضيها من أجل محاربة حركة الشباب، وتتسق تصريحات الوزير الإثيوبي مع سياسات بلاده في مواجهة الجماعات الإسلاموية، فأديس أبابا دائمًا ما تلجأ إلى توظيف الفرق الإسلامية ضد بعضها، فمثلًا توظف الأحباش ضد السلفيين في إثيوبيا، لذا فمن الممكن أن تكون وظفت الصوفية الصومالية في مواجهة حركة الشباب، بالإضافة إلى العمالة لإثيوبيا اتهمت الجماعة أيضًا بالعمالة لإيران، إلا أن الحركة سارعت بالرد على تلك الاتهامات ونفي صلتها بإيران والتحذير من خطر التشيع في الصومال.

 

وأخيرًا.. بات من المؤكد أن حدوث عملية زحزحة في توجهات جماعة «أهل السنة» فمن حركة صوفية روحية إلى جماعة سياسية وبالتالي ستسعى الجماعة إلى التمدد والانتشار في الصومال من أجل تكوين الدولة الإسلامية على النهج الصوفي وهو ما قد يصطدم بمصالح العديد من الأطراف السياسية في المنطقة.

"