ad a b
ad ad ad

نوستالجيا الإخوان المسلمين.. تمسكٌ بالماضي وتخلي عن المستقبل

الأربعاء 10/أكتوبر/2018 - 06:21 م
عماد علي
عماد علي
عماد علي
طباعة

بحياتنا قيود شتى؛ منها ما هو إجباري قد يفرض على المرء رغمًا عنه، ومنها ما هو طوعي يختاره الإنسان ربما بإرادته أو نتيجة جهله وقلة وعيه، وليست القيود بالمادية فقط؛ بل هناك ما هو أشد منها وهي القيود المعنوية التي تتمثل في أفكار وقناعات يحبس المرء عقله بداخلها لتقيد تفكيره وإدراكه للأمور، وقد يقع المرء أسيرًا لمكان معين تقيد فيه حريته بحيث لا يستطيع الفكاك منه ولا التطلع لغيره، ولكن ذلك هو السيـئ، بينما الأسوأ هو أن يقع الإنسان أسيرًا للزمان؛ ذلك السجن الذي إن وقع الإنسان فيه فقد وقع في فجوة ربما لا يستطيع الخروج منها بسهولة، فجوة تبتلع المرء، تنقله من زمن إلى زمن آخر، من حاضرٍ يظل فيه جسدًا بلا روح، إلى ماضٍ يتلذذ به ويسعى لاستنساخه مرة أخرى، دون أن يدرك أنه انقضى ولن يعود .

 

بداخلنا جميعًا نوستالجيا تسيطر على مشاعرنا بدرجات متفاوتة؛ فكثيرًا ما يكون لدينا شعور بالحنين إلى الماضي والرغبة في الهروب إليه فرارًا من ضغوط الواقع، وبحثًا عن إنجاز ولو كاذب يأسًا من تحقيقه وعجزًا عن الوصول إليه في اللحظة الراهنة .

 

وإن كان هذا متفهمًا وربما مقبولًا من الأشخاص العاديين بشرط ألا يزيد عن حده المعقول؛ فإنه غير مقبول في حق الدول والمنظمات والجماعات، فمن الأمراض التي تصيب العقل العربي عمومًا هو ذلك الذي يدفعه إلى العيش في أمجاد الماضي؛ ليخفف عن نفسه مشقة الإحساس بالعجز وضعف الإرادة في مواجهة مشاكل الواقع وتحقيق تقدم ينتشله من تلك الهوة الحضارية التي يقع فيها .

 

وإذا بحثنا في الأسباب التي أدت بالأمة إلى تلك الحالة من الضعف والتخلف؛ قد نجد سببين رئيسيين، الأول هو الاستبداد السياسي، والثاني هو جمود الفكر الديني وضعفه، والذي يتمثل في عدم قدرة من يمثله من أفراد وجماعات على تجديده؛ ما أدى إلى حدوث مشاكل كثيرة في الواقع، خاصة نتيجة ممارسات الجماعات والحركات الإسلامية للعمل السياسي المؤسس على الدين بأفكار وأدوات لا تتماشى مع الواقع .

 

إن تلك الجماعات الإسلامية التي تتخذ من الإسلام منطلقًا لها، التي نشأت لاعتقادها بأن الإسلام كما هو عقيدة فإنه يتضمن شريعة تنظم الحياة عبر أحكام ومبادئ، ترى أن البشرية في حاجة إليها؛ فإنها وإن كان هدفها تقديم ما ترى أنه حل لمشاكل المجتمع، إلا أنها أضحت هي نفسها ونتيجة لأفكارها وممارساتها جزءًا من المشكلة وليس جزءًا من الحل.

 

ومن ضمن المشاكل التي تصيب تلك الجماعات هي تلك الحالة من النوستالجيا الشديدة التي تجعلهم غير قادرين على التعامل مع الواقع والاستغراق في الماضي والتعامل معه بشكل خاطئ .

نوستالجيا الإخوان

وتتخذ هذه الحالة مظهرين سوف نتحدث عنهما من خلال جماعة الإخوان المسلمين كنموذج للجماعات الإسلامية والحالة الدينية عمومًا :

 

1- محاولة استعادة الدولة الإمبراطورية ورفض الدولة الحديثة :

لقد نشأت جماعة الإخوان في وقت بلغت فيه الأمة من الضعف مبلغًا؛ حيث زيادة تغلغل الاستعمار بقوة في العالم الإسلامي، وغياب الخلافة التي كان ينظر لها رغم ضعفها بأنها مظلة تجمع المسلمين، ومحاولات جادة لنشر الثقافة الغربية عبر مؤسسات عدة سياسية وإدارية واجتماعية وثقافية مما رآه البعض أنه يمثل تهديدًا للهوية، إضافة إلى انتشار الفساد والاستبداد في ذلك الحين؛ وقد أدت هذه الحالة من الإحساس بالعجز والخوف إلى تكوين حالة من النوستالجيا لدى حسن البنا جعلته يحلم بوسيلة لاستعادة مجد المسلمين والخروج من حالة الضعف تلك، وذلك عن طريق تكوين دولة إسلامية إمبراطورية تضم تحت لواءها جميع الدول الإسلامية ووضع خطته عبر مراحل سبعة تبدأ بإعداد الفرد المسلم إلى أن يصل لتلك الدولة، ومن ثم السيطرة على العالم من خلال ما أسماه (أستاذية العالم).

 

والدولة الإمبراطورية التي ظل شكل الدولة الإسلامية عليها لقرون طويلة هو ذلك الشكل الذي يتجاوز حدود الدولة القطرية ويسعى باستمرار إلى التوسع بضم مساحات جديدة تحت حكمه التي يقوم عقدها الاجتماعي على العقيدة الدينية المشتركة.

 

 ورغم أن دولة المدينة التي أسسها النبي صلى الله عليه وسلم كانت قائمة على مبدأ المواطنة الذي أقرته وثيقة المدينة، التي نصت على أن اليهود أمة مع المسلمين وساوت بينهم في الحقوق؛ فإنه ونظرًا لظروف كثيرة تأثر هذا المبدأ تحت وقع الدولة الإمبراطورية وسياستها فيما بعد.

 

وهذا الشكل كان هو السائد وقتها في كل العالم وليس خاصًا بالمسلمين فحسب، ثم تغير هذا الشكل إلى الذي نعيش عليه الآن وهو الدولة القطرية الحديثة التي يقوم عقدها الاجتماعي على الملكية العقارية المشتركة؛ حيث تضم أعراقًا وأديانًا مختلفة تجمعها بقعة جغرافية يعيشون عليها متساوون في الحقوق والواجبات وفق مبدأ المواطنة، هذه الدولة التي أسست على عقد اجتماعي يختلف تمامًا عن الذي كانت عليه الدولة الإمبراطورية .

 

ولقد ترسخ هذا الشكل في العقل الإسلامي واعتقد الكثيرون أن هذا هو نظام الحكم في الإسلام، ولذلك قامت كل الحركات الإسلامية ووضعت هدفًا رئيسيًا لها وهو إقامة الدولة الإسلامية واستعادة الخلافة.

 

ومن أول هذه الحركات جماعة الإخوان في مصر التي يرى مؤسسها حسن البنا أن الخلافة «شعيرة إسلامية يجب على المسلمين التفكير في أمرها والاهتمام بشأنها» ]1[، في حين يرى بعض المفكرين المعاصرين أن «بناء الدولة على أساس من قانون الفتح العسكري والتضامن العرقي كما كان الحال في الإمبراطوريتين الرومانية والمغولية، أو على قانون الفتح وأخوة العقيدة كما كان حال الإمبراطورية الإسلامية لم يعد مناسبًا أخلاقيًّا، ولا ممكنًا عمليًّا في العصر الحديث، والأهم من كل ذلك أنه لا ينسجم مع الدلالة الإنسانية الواسعة للقيم السياسية الإسلامية، ولا مع طبيعة العقد الاجتماعي الذي تتأسس عليه الدول المعاصرة»]2[ .

نوستالجيا الإخوان

وتأتي هذه النظرة للحكم وهذا الحلم بعودة الخلافة نتيجة أمرين :

الأول: عدم التفرقة في مجالات عمل الإنسان بين "العبادات" و "العادات"؛ حيث فرق العديد من الفقهاء كالشاطبي بينهما إذ يقول "من مقصد الشارع التفرقة بين العبادات والعادات، وأنه غلب في باب العبادات جهة التعبد وفي باب العادات جهة الالتفات إلى المعاني" ]3[.

 

ويسجل أبو إسحاق الشاطبي هذا التمييز بوضوح أثناء تعرضه للمقاصد الخمسة وعلاقتها بالعبادات والعاديات، يقول (فأصول العبادات راجعة إلى حفظ الدين من جانب الوجود كالإيمان والنطق بالشهادتين ... والعادات راجعة إلى حفظ النفس والعقل من جانب الوجود أيضا كتناول المأكولات والمشروبات».

 

وبما أن السياسة مرتبطة بمصالح النفس والعقل والنسل والمال، للفرد والجماعة، فإنها تدخل صراحةً فيما اصطلح عليه الشاطبي بالعادات والمعاملات"]4[، وبالتالي فإن "تمييز الممارسة السياسية عن مجال العبادات واعتبارها ممارسة مدنية تجعل السياسة داخلة في منطقة مفوضة للاجتهاد البشري يبدع فيها ويبتكر" ]5[، ويترتب على ذلك أنه " ليس في الإسلام شكل محدد لبناء الدولة وممارستها وظائفها ... فالنظام السياسي يستلزم كيفيات تفصيلية في نظام الحكم ، وهي غير موجودة "]6[ .

 

الثاني: عدم التفرقة بين التصرفات النبوية الدينية والسياسية: وقد تحدث عن تلك الفروق العديد من العلماء، منهم شهاب الدين القرافي في العديد من كتبه أبرزها (الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام)؛ حيث فرق بين المقامات التي يصدر عنها التصرف النبوي إلى أكثر من مقام، كالتصرف بالإمامة ، والتصرف بالقضاء، والتصرف بالفتيا، والتصرف بصفته البشرية والتي قال النبي بشأنها "أنتم أعلم بشؤون دنياكم".

 

ومن المفكرين المعاصرين تحدث الدكتور سعد الدين العثماني في كتابه (التصرفات النبوية السياسية) عن هذه الفروق وقد قسم التصرفات النبوية إلى تصرفات تشريعية وهي التي صدرت من النبي بقصد الاتباع مثل التصرف بالتبليغ والبيان.

 

وتصرفات غير تشريعية لا يقصد بها الاتباع وهي مثل التصرفات الدنيوية أو الإرشادية، "والراجح أن كثيرًا من تخبطات العقل المسلم اليوم – وتشديداته في الدين، وعجزه عن حل إشكالات الوجود المسلم نظريًا وواقعيًا – ناتج عن هذا الخلط بين مستويي التشريع الديني والتصرف الدنيوي من تصرفاته صلى الله عليه وسلم" ]7[ .

 

2- التقيد بآراء ومفاهيم الفقه السياسي القديم: ومن المظاهر أيضًا التأثر بالمفاهيم التي وضعها الفقه السياسي في عصر تلك الدولة واعتبار أن ذلك من الدين، وعدم الإدراك بأنها مجرد اجتهادات لعصرها وأن كثيرًا منها خرج تحت وطأة تلك الدولة وسياسات حكامها التي انحرفت في أحيان كثيرة عن مبادئ ومقاصد الشريعة التي تضمنتها النصوص.

 

"إن البذور الأخلاقية والإنسانية التي رأيناها في العصر النبوي لم تنم إلى فقه للمساواة السياسية بين المسلم وغير المسلم، شأنها شأن أغلب القيم الإسلامية التي خذلها السياق الإمبراطوري، فهي جزء من ذلك الإمكان التاريخي الإسلامي الذي لم يجد طريقه إلى التحقق.

 

ولذلك ظهرت اجتهادات فقهية في تاريخ المسلمين خضعت للمنطق الإمبراطوري، ووقعت في داء التمييز في الحقوق على أساس المعتقد"]8[ ومن بين تلك المفاهيم التي وضعها ذلك الفقه؛ تقسيم العالم إلى دار حرب ودار سلام، وعدم جواز تولي المرأة وغير المسلم أمر من أمور الولاية العامة، وقد أخذ البنا ببعض هذه الآراء؛ حيث نجده حين يتحدث عن شروط الحكومة المسلمة يقول "والحكومة إسلامية ما كان أعضاؤها مسلمين مؤدين لفرائض الإسلام غير متجاهرين بمعصية، وكانت منفذة لأحكام الإسلام وتعاليمه، ولا بأس أن نستعين بغير المسلمين عند الضرورة في غير مناصب الولاية العامة"]9[،

 

وهذا الرأي هو ما أخذت به الجماعة عند إعدادها برنامج الحزب التي كانت تريد انشاؤه في العام 2007 والذي نصت في أحد بنوده على وجوب استبعاد النساء وغير المسلمين من المناصب العليا في أي دولة تحكم وفقًا لمبادئ الشريعة الإسلامية.

حسن البنا
حسن البنا

 وقد نسى البنا أن المواطن غير المسلم ليس عنصرًا خارجيًا غريبًا يستعان به عند الضرورة فقط، بل هو عضو مؤسس في العقد الاجتماعي الذي تقوم عليه الدولة المعاصرة وشريك أصيل في بنائها، وهي ليست دولة فتوح ينقسم مواطنوها إلى فاتح منتصر ومغلوب خانع، كما كان الحال في الماضي الإمبراطوري، بل هي ملكية عقارية مشتركة بين مجموعة من البشر " ]10[ .

 

وهذا التقيد بمفاهيم فقه مضى عليه قرون إنما ينتج عن خلل في الفهم؛ حيث عدم القدرة على التفرقة بين نص الوحي وبين التجربة التاريخية "فما سيخرج المسلمين اليوم من أزمتهم الدستورية المزمنة هو استلهام الوحي، لا استنساخ التاريخ"]11[.

 

ففارق كبير بين النص وتطبيقه؛ حيث النص صالح لكل زمان ومكان إذا تم تفسيره بشكل يناسب الواقع، بينما التطبيق مرتبط بالظروف الذي طبق فيها النص، وفارق بين النموذج والتجربة، بين المبادئ والأشخاص، بين الشريعة والفقه، فما يحتاجه المسلمون اليوم هو النظر في النصوص ومحاولة إنزالها على الواقع وليس إعطاء اجتهادات قديمة قداسة بالخلط بينها وبين النصوص ذاتها "فمهما تكن للتاريخ الإسلامي من قوة إلهام – وهي مهمة من دون ريب – فإنما يكون ذلك باتخاذه زاد من الخبرة والعبرة للزمن الآتي"]12[ .

 

ختاما :

إن هذه النظرة التي تقدس الماضي ولا ترى فيه سوى عالم مثالي لا أخطاء فيه، وتريد استنساخه بهيئته وأفكاره ومفاهيمه، تلك النظرة التي تعلي من شأن الأشخاص على حساب المبادئ، ولا تستطيع التفرقة بين نصوص الوحي وبين التجربة التاريخية، بين النموذج والتطبيق، فتجعلهما شيئًا واحدًا؛ لينسحب التقديس من النصوص إلى المواقف والآراء، ومن المبادئ إلى الأفراد، تلك النظرة هي أشد خطرًا على الحاضر والمستقبل مما سواها .

 

إن أشد ما نحتاجه اليوم إصلاح ديني يتميز بالجرأة على تحطيم الأصنام، وعلى وعي بقيم الشريعة ومبادئها وقيمها ومقاصدها ومتطلبات الواقع الراهن، فهذه الحالة من الجمود تؤدي إلى التخلف والانسداد، وتحتاج من العقل الإسلامي إلى إزاحة الركام عن نفسه وعدم الاكتفاء بما وصل له الأولون، فقد ذم الله أقواما كانت حجتهم "إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون".

الهوامش :

 [1]مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا، حسن البنا ص 194

 [2]الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية، محمد المختار الشتقيطي، ص 554

[3] الموافقات في أصول الشريعة، أبو اسحاق الشاطبي، ص 138/3

   [4] الدولة الإسلامية المفهوم والإمكان، سعد الدين العثماني، ص 2

  [5] المصدر السابق، ص 5

   [6] المصدر السابق، ص 9

   [7] التصرفات النبوية السياسية، سعد الدين العثماني، ص 16

  [8] الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية، محمد المختار الشتقيطي، ص 557

[9] مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا، حسن البنا ص 376

  [10] الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية، محمد المختار الشتقيطي، ص 570

  [11] المصدر السابق، ص 513

  [12] المصدر السابق، ص 514

"