ad a b
ad ad ad

«الخلافة في عيون الغرب».. رحلة أوروبا للتحرر من الدولة الدينية

الأحد 15/يوليو/2018 - 07:41 م
المرجع
أحمد سامي عبدالفتاح
طباعة
شكّل السعيُ نحو «الخلافة»، نقطة محورية في عمل التنظيمات المتطرفة، حيث اعتادت استدعاء هذه الفكرة من أجل زيادة قدرتها على الاستقطاب والحشد، كما ترغب تلك التنظيمات في استدعاء فكرة الخلافة، إثبات مدى تمسكها بالماضي الذي يمكن وسمه بصبغة دينية مقارنة بالواقع الحالي.

وتتعمد التنظيمات المتطرفة مهاجمة الواقع العلماني السائد في معظم البلدان المسلمة؛ لتثبت ارتباط هبوط منحني القوة الخاص بالدول المسلمة، بحالة العلمانية، التي ترى فيها وسيلة لترسيخ انعزالية المسلمين في الدول العلمانية.

ومثلت حالة «نكران الذات الدينية» لدى بعض المسلمين، مدخلًا لدعاوى التنظيمات المتطرفة بضرورة العودة إلى الأنماط السياسية والدينية القديمة -بما فيها الخلافة- كونها رسخت للمسلمين مكانة قيادية للعالم وقت سيادتها.

ورغم نجاح بعض التنظيمات المتطرفة في تحقيق أهدافها بإقامة حكم إسلامي في بعض المناطق -مثل داعش وطالبان- أملًا أن يمكنها ذلك من بسط نفوذها على المناطق المجاورة مستقبلًا، إلا أن ذلك النمط من الحكم لم يدم طويلًا، حيث لم تتواكب آلية الحكم المعتمدة مع التغيرات التي لحقت بالعقلية المسلمة نتيجة الانفتاح الثقافي على المجتمع الغربي.

وهو ما يعني أن الديمقراطية كأداة ممارسة سياسية غربية، مثَّلت اشكاليةً لمفهوم الخلافة على المستويين النظري والعملي، خاصة أنها قدمت رؤية نقدية للأنظمة السلطوية باعتمادها سياسات فصلية بين مراكز القوى لضمان عدم استبداد إحداها بالأخرى.
«الخلافة في عيون
لماذا تتعارض الخلافة مع الفكر السياسي الحديث؟
تحتل فكرة الخلافة مكانةً جوهريةً في خطابِ التنظيمات الإسلاموية، حيث تتعامل الأخيرة مع الخلافة بصفتها الدولة المثالية التي تمنح مواطنيها الحق في ممارسة شعائرهم الدينية دون أية قيود، بل إن الخلافة في نظر هذه التنظيمات تترادف مع الدولة التي تمارس سلوكًا سلطويًّا من أجل الحد من الأنماط السلوكية المكتسبة التي تتعارض مع الذات الدينية للمسلمين، ما يعني أن دولة الخلافة نظريًّا لا يكتمل دورها إلا بممارسة دور «الناهي عن المنكر». 

ظهر مصطلح «خليفة المسلمين» لأول مرة بعد موت النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، حينما خلف سيدنا أبوبكر الصديق (رضي الله عنه) النبي في الحكم، ويؤكد ذلك أن كلمة «خليفة» تحمل في مضامينها دلالات دينية بالتزامن مع أخرى سياسية، ولا عجب في ذلك؛ لأن مكانة الخليفة القيادية تحتم عليه التعمق في العلوم الشرعية ليمكنه ذلك من تيسير أمور مواطنيه بما يتوافق مع مبادئه الدينية المعتنقة. 

علاوة على ذلك، يحمل مفهوم «الخلافة» في طياته دلالات مركزية تتضمن تركيز السلطة في أيدي رجل واحد، فالخليفة هو الحاكم والقائد العسكري والآمر الناهي فيما يتعلق بشؤون القضاء أو قضاء حاجات المواطنين، دون أي آلية رقابية من شأنها أن تمارس دورًا تقييدًا عليه لمنع استبداده أو التقليل من الآثار السلبية التي تنجم عن قراراته غير الصائبة أو المنعزلة عن حقائق الواقع.

ورغم أن الخلفاء كافة اعتادوا اتخاذ مستشارين، فإنهم كانوا دون صلاحيات حقيقية، ودون آلية محددة لتعيينهم أو عزلهم، كما أنهم لم يمتلكوا سلطات حقيقية في تقييد قرارات الحاكم أو تأجيلها أو حتى الطعن في أهليتها. 
«الخلافة في عيون
جغرافية دولة الخلافة
وفي الإطار نفسه، لم تتقيد حدود دولة الخلافة بقيود جغرافية معينة، رغم أنها عانت نظريًّا حكم أو إخضاع جميع المسلمين في كل بقاع العالم، ويعد هذا الانطباع في حد ذاته سلوكًا مكتسبًا وليس الزامًا دينيًّا، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار أن الدين الإسلامي تمدد في بعض المناطق عن طريق التجار المسلمين.
وبعبارة أخرى، تتمدد الفكرة دومًا بشكل أسرع من قوة السلاح، ما جعل النطاق الجغرافي للدين الإسلامي يتجاوز حدود الدولة الإسلامية في كل الفترات، ومثال ذلك وجود الإسلام في عدد من البلدان الأفريقية والآسيوية، مثل: نيجيريا وأندونيسيا، رغم أن أيًا من الدولتين لم تخضع لحكم دولة الخلافة في أي فترة زمنية.

وكان ذلك مبررًا للدول الإسلامية في الفترات الزمنية المختلفة لغزو هذه المناطق وإخضاع ساكنيها المسلمين لأحكام الدين الإسلامي، ولهذا، نجد دومًا كل التنظيمات المتطرفة التي تسعى لإقامة دولة الخلافة لا تعترف بالحدود القومية، وتسعى لشن هجمات عدائية على غيرها من البلدان، ما يصدر صورة عنيفة عن الدين الإسلامي نفسه. 
«الخلافة في عيون
الحرب ضد «الإسلاموية»
ولأن مثل هذه التصرفات تشكل تهديدًا للسلم والأمن الدولي، نجد أن جميع دول العالم تتضافر من أجل هزيمة هذه التنظيمات، وكعادة التنظيمات المتطرفة، فإنها لا تدع مجالًا لأي حادثة إلا وحاولت استغلالها، حيث تم الترويج للحرب العالمية ضد «الإسلاموية» بصفتها حربًا ضد الإسلام، في محاولة من التنظيمات المتطرفة لجذب المزيد من الشباب المسلم.

وهو ما يؤكد عدم تقبل الإسلاموية للرأي الآخر؛ فيما يتعارض مع الفكر السياسي الغربي الذي يعتمد بالأساس على دور الدولة «الحامي» للآراء كافة بغض النظر عن مضمونها، وتعد فكرة احتكار الحديث باسم الإسلام من قبل التنظيمات الإسلاموية سلوكًا إقصائيًّا، وتباهيًّا بامتلاك الحق في وقت أكدت فيه الدراسات الإنسانية ضرورة وضع «احتمالية خطأ» في تقييم السلوكيات البشرية التي تنبع وفق اعتبارات لا تكون مرئية للبعض في بداية دراسة الظاهرة، لكنها لا تلبث أن تصبح أكثر بروزًا مع مرور الوقت. 

كما يعد استخدام القوة أو التهديد باستخدامها في العلاقات الدولية أمرًا محرمًا وفقًا للأعراف والقوانين الدولية، ما يجعل التنظيمات المتطرفة كافة بمثابة الخارج عن القانون في نظر القانون الدولي، وهو ما يحتم على المجتمع الدولي ضرورة اتخاذ موقف موحد من أجل وضع حد لخطورة هذه التنظيمات، ما يثبت ارتباط الحرب بالتهديدات الأمنية، بخلاف مزاعم كونها دينية كما تروج لها الإسلاموية. 

وعن آلية انتقال الحكم داخل دولة الخلافة، نجد أن الوراثة تأتي في المقدمة الوسائل المعترف بها، ناهيك عن الوسائل غير الشرعية التي تتضمن القتل أو الانقلابات العسكرية، وهو ما يتعارض بالكلية مع الفكر الغربي القائم على تقييد مدة بقاء الفرد في الحكم بإطار زمني محدد لمنع استبداده.

وأصبح أمرًا مسلمًا به في الديمقراطيات الغربية أن يتم تقييد عمل الحاكم في الأنظمة الرئاسية بفترتين زمنيتين، على عكس الأنظمة البرلمانية التي ما زال يحق لرئيس الحكومة فيها الاحتفاظ بمنصبه لأطول فترة ممكنة، طالما حاز شرعية شعبية من خلال الانتخابات.

ولمنع الخلط، فمن المتعين الإشارة إلى أن الوراثة في الحكم ليست آلية إسلامية معترف بها شرعًا، بل إن الدين الإسلامي منح فئة مجتمعية واحدة «أهل الحل والعقد» حق اختيار الحاكم الأصلح لتولي شؤون الدولة، فضلًا عن حق عزله في حالة انحرافه عن تحقيق الصالح العام، ما يؤكد أن فكرة الوراثة في دولة الخلافة ما هي إلا سلوك مكتسب ينم عن رغبة تابعيه في حوز السلطة لأطول فترة ممكنة. 

وعليه، نجد أن الخلافة كإطار نظري أو ممارسة عملية لا تتوافق تمامًا مع الفكر السياسي الغربي، ممثلًا في الليبرالية أو شقها السياسي «الديمقراطية».

ولعل أبرز أوجه الشقاق بين الطرفين هو المكانة الدينية التي تمثلها دولة الخلافة في نفوس مواطنيها أو الإلزام الديني الموضوع على حاكميها بلعب دور الناهي عن الأمور التي تتوافق مع المبادئ الدينية، وهو ما يفتح الباب لتقييد الحريات المدنية من منظور ديني، مما يولد ما يطلق عليه «الإستبداد الديني»، فضلًا عن محاربة التطور بدعوى عدم تناسقه مع الدين، أو لأن نتائجه قد تؤدي إلى خلل في البنية الإجتماعية -زيادة الوعي لدى بعض الطبقات- بما يشكل خطرًا على الاستبداد الديني. 
«الخلافة في عيون
أوروبا والاستبداد الديني
وعانت أوروبا من هذا الأمر لفترات طويلة، حينما حاربت الكنيسة كل أنواع التطور، فعلى سبيل المثال، حاربت الكنيسة العالم «جاليليو» في القرن السابع عشر؛ لأنه أثبت أن الأرض تدور حول الشمس، على عكس ما تبنته الكنيسة آنذاك، مع العلم أن الكنيسة هيكلت نفسها منذ نشأتها على بعض المبادئ اليونانية القديمة التي وضعها أرسطو وبطليموس في مرحلة ما قبل المسيحية، ما جعل نظريات «جاليليو» تمثل طعنة في شرعية الكنيسة الدينية والعلمية وقتها. 

ولذلك، عندما جاءت الثورة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر، أخذت على عاتقها نشر فكرة العلمانية كآلية فعالة من أجل القضاء على الاستبداد الديني الذي ينظر إليه دومًا على أنه أشد أنواع الاستبداد، لما يحمله من تأثير ذهني على تابعيه، فضلًا عن جموده في تقبل النقد أو التسليم بصحته، أو ترك المجال له في أضيق الحدود.

وبمرور الوقت، بدأت الفكرة تتمدد في جميع أنحاء أوروبا، وأصبحت العلمانية عصب الديمقراطية، فبينما تحمل الثانية مضامين الفصل بين السلطات من أجل منع الاستبداد السياسي، تضمنت الأولى عزل الدين عن كل مناحي الحياة لصالح القومية الوطنية، ما فتح الباب للتعايش بين الفئات الدينية، ومهد الطريق لتراجع القومية الدينية لصالح القومية الوطنية. 

ولذلك، فإن تبني التنظيمات الإسلاموية لفكرة إقامة دولة دينية، حتى وإن كانت إمارة في إقليم ما، يمثل تهديدًا للدول الغربية؛ لأنه يعني عودة القومية الدينية للظهور مجددًا داخل كيان لا تعترف بحدود غيره من الدول، ويعد نفسه من أجل غزو الدول المجاورة له، في واقع الأمر، يمثل أمر كهذا طعنة في حلق السلم والأمن الدوليين. 

وتفتح التنظيمات المتطرفة باب المطالبة بمناطق خضعت لحكم الدولة الإسلامية في فترات طويلة، وهو ما يتعارض مع رغبة المجتمع الدولي، التي تحاول قدر الإمكان الحفاظ على الحدود التي رسمتها قوى الاستعمار لمنع أي توترات جديدة في العديد من بقاع العالم، بل إن المجتمع الدولي حاول تجاوز فكرة الحدود القومية بين وحداته، واتجه إلى إنشاء تحالفات إقليمية بهدف تيسير حركة النقل والتجارة، علاوة على حالة التنوع الثقافي وترسيخ تقبل الآخر، وهو ما لا تدركه التنظيمات المتطرفة على الإطلاق. 

وأخيرًا، يشار إلى أن الخلافة تعد نموذجًا للدولة الدينية التي استغرقت أوروبا أوقاتًا طويلة لتجاوزها، بل وضعت أوروبا العديد من القيود على دور الدين في الدولة المدنية الحديثة لتعيق أي محاولة لاستحضار القومية الدينية مرة أخرى.
"