السلفية والأحباش.. الصراع القادم في إثيوبيا
الجمعة 25/مايو/2018 - 05:27 م

محمد الدابولي
تُعد إثيوبيا من أهم الدول الإقليمية المؤثرة في منطقة القرن الأفريقي التي تموج بالاضطرابات الدينية والإثنية المتتالية، والتي أدَّت في النهاية إلى انتشار الجماعات الراديكالية الدينية، مثل «حركة شباب المجاهدين» في الصومال، و«جماعة جيش الرب» في أوغندا، الأمر الذي جعل المنطقة إحدى أهم البؤر الإرهابية العالمية.
من هنا تبرز أهمية دراسة أبعاد التوظيف السياسي للدين، خاصة مع تنامي التيار الإسلاموي في إثيوبيا، باعتبارها القوة الأبرز في القرن الأفريقي والمحرك الرئيسي للتفاعلات فيه.

سيلاسي زعيم اثيوبيا
أولًا: مراحل تطور المشهد الديني الإثيوبي
يُعدُّ البعد الديني المكون الرئيسي للنظام السياسي في إثيوبيا الحديثة، التي نشأت في عهد الإمبراطور «منليك الثاني» (1844 - 1913)، واتخذت من رعايتها للديانة المسيحية وسيلة لتحقيق الشرعية السياسية للنظام؛ حيث كانت تصف نفسها براعية المسيحية في القرن الأفريقي، واستمر هذا الحال في عهد الإمبراطور «هيلا سيلاسي» (1892 - 1975)، ويلاحظ أن المسلمين كانوا الحلقة الأضعف في تكوين الدولة الإثيوبية الحديثة؛ حيث جرى اضطهادهم واستغلالهم والتوسع على حساب أراضيهم.
بصعود نظام «الديرغ» الماركسي، والذي أطاح بــ«سيلاسي» في انقلاب عسكري، إلى قمّة السلطة في إثيوبيا بقيادة العقيد «منجستو هيلا مريام» (1974 - 1991) أسقط البُعد الديني من مكونات النظام السياسي، واضطهد أتباع الديانات في البلاد من مسلمين ومسيحيين؛ حيث أغلقت دور العبادة، وصودرت الكتب الدينية، ومُنِعَ المسلمون من السفر لأداء مناسك الحج والعمرة، وبين 1977 و1979، قُتِلَ الآلاف من مناوئي الحكومة فيما يطلق عليه «الرعب الأحمر».
وفي مرحلة ما بعد سقوط حكم «الديرغ» وتولي «الجبهة الديمقراطية الثورية لشعوب إثيوبيا» بقيادة رئيس الوزراء الراحل «ميلس زيناوي» الحكم، تبنى النظام السياسي العلمانية في الحكم، ما أتاح مساحة كبيرة من الحرية للمسلمين، في إعادة ترتيب صفوفهم السياسية والاجتماعية وممارسة الشعائر الإسلامية، فسمح بإنشاء «المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية»، في مطلع التسعينيات وبصدور العديد من المجلات الدينية، وبروز العديد من القيادات والحركات الدينية مثل «الحركة الفكرية».
بمرور الوقت ظهر عدد من المشكلات بين الحكومة والمسلمين، مدفوعة بالتوترات الاجتماعية والإثنية، التي تشهدها البلاد من حين لآخر، الأمر الذي دفع الحكومة الإثيوبية إلى إعادة النظر في التعامل مع الشأن الإسلامي.

ميلس زيناوي
ثانيًا: الانقلاب الدستوري وإعادة النظر في العلمانية
شكلت أحداث الربيع العربي في كلٍّ من مصر وتونس وليبيا، الهاجس الأكبر للحكومة الإثيوبية، خشية انتقال تداعياتها إلى الداخل المحتقن، نتيجة الغبن السياسي الممارس ضد العديد من الجماعات الدينية والإثنية.
لعل بروز جماعات الإسلام الحركي في تلك الثورات، هو ما زاد تخوف الحكومة الإثيوبية من انتقال تلك الثورات إليها، الأمر الذي دفعها إلى إعادة النظر في وضع المسلمين مرة أخرى، ما يُعدُّ انقلابًا على المبادئ الدستورية الإثيوبية، التي نصت في المادة (11) على فصل الدين عن الدولة.
بدأت الأمور تتخذ أبعادًا أكثر تطرفًا، في يوليو 2011، حين رأت الحكومة برئاسة «ميلس زيناوي»، ضرورة احتواء التيار الإسلاموي السلفي المتنامي، عبر تمكين جماعة الأحباش المعادية للسلفية من شؤون المسلمين في إثيوبيا، وإخضاع المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية ومعظم المساجد للجماعة، لضمان تقديم خطاب ديني غير معادٍ لتوجهات الحكومة، التي فرضت المذهب الحبشي على المسلمين، وحاربت بقية المذاهب.

عبد الله بن محمد العبدري الهرري الحبشي
ثالثًا: إثيوبيا منشأ التيارات الإسلاموية الأكثر جدلًا
تُعدُّ إثيوبيا منبع اثنين من أكثر التيارات الإسلاموية إثارة للجدل، وهما الأحباش والتيار الجامي، فالأحباش (جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية)، إحدى الفرق الإسلاموية التي انتشرت مؤخرًا في لبنان وسوريا والأردن وكذلك في إثيوبيا، وتعود تسميتها إلى مؤسسها، «عبدالله بن محمد العبدري الهرري الحبشي»، المولود في مدينة «هرر» الإثيوبية عام 1910.
وصنفها التيار السلفي جماعة مضللة، لاعتقاده بأنها خارجة عن المسلمين، وفي المقابل تكفر «الأحباش» التيار السلفي بأكلمه وتدعو للقضاء عليه.
أما التيار الآخر المثير للجدل فهو «السلفية الجامية»، نسبة لمؤسسها «محمد بن أمان الجامي»، إثيوبي المولد والنشأة، الذي أسسه في أعقاب الغزو العراقي للكويت وتدخل التحالف الدولي؛ حيث وفر «التيار» الغطاء الشرعي والديني لعمليات التحالف الدولي لتحرير الكويت وما تبعها من أحداث، بعد أن ثارت الأقاويل الدينية الرافضة للتدخل الأمريكي في العراق، ومن أشهر تلاميذه الشيخ «ربيع المدخلي» (أحد المرجعيات الرئيسية في تيار السلفية المدخلية).

رابعًا: مظاهر الصراع «الحبشي - السلفي»
على عكس المتوقع للحالة الإثيوبية، من احتمال قيام صراع «مسيحي – إسلامي»، نجده في الحقيقة «إسلاميًّا – إسلاميًّا» بين الأحباش والسلفيين، الأمر الذي أعاد تشكيل خريطة الصراعات الدينية هناك.
- التكفير المتبادل: في حين يتهم أتباع السلفية، زعيم الطائفة الحبشية «عبدالله الهرري» بأنه تعاون مع الإمبراطور «هيلا سيلاسي» ضد المسلمين، وأسهم في إغلاق المساجد والمدارس الدينية، نجد الأحباش يحرمون الصلاة خلف أئمة الحرمين الشريفين، بدعوى انتمائهم للتيار السلفي المُكفر في منهجهم.
- اتهامات بالتمكين: تتوالى الاحتجاجات السلفية بصفة شبه مستمرة في إثيوبيا، على خلفية تمكين الحكومة لجماعة الأحباش، من المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، المسؤول في الواقع عن متابعة أحوال المسلمين في البلاد ورعاية شؤونهم الدينية، ويتهم السلفيون الأحباش أيضًا، بلفت أنصار الطرق الصوفية المنتشرين في الأوجادين (الصومال الإثيوبي)، وبعقد الدورات في «هرر» وأديس أبابا للترويج لمذهبهم.
- حرب السيطرة على المساجد: بعد قرارات الحكومة في نهاية 2011، بتمكين الأحباش من المساجد، تحدى بعض السلفيين القرارات باستمرار سيطرتهم على بعض المساجد الكبرى مثل «كيرا» في العاصمة أديس أبابا.
- الاحتجاجات المستمرة: الاحتجاجات السلفية متواصلة ضد الولاية الدينية التي فرضتها الحكومة على المسلمين، واعتبار الأحباش المسؤولين عن تسيير شؤونهم، ففي نوفمبر 2011 نظمت تظاهرات في الداخل والخارج، مثلما حدث أمام السفارة الإثيوبية في واشنطن؛ تنديدًا بتمكين جماعة الأحباش من المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، فيما أكدت اللجنة الأمريكية للحريات الدينية الدولية (USCIRF)، أن الحكومة تلاعبت في نتائج انتخابات المجلس لتمكين الأحباش.
وفي يوليو 2012، فشلت كل المساعي لإنهاء الخلاف «الإسلامي – الإسلامي»، ووقف الاحتجاجات، وقبضت الحكومة على رموز التيار الإسلامي السلفي، وعشرات المتظاهرين، وأعضاء لجنة 17 التي خوِّلَ لها بحث الأزمة الإسلامية في البلاد وحلها، ولاتزال المشكلة قائمة إلى يومنا هذا.

خامسًا: سياقات التمكين
التمكين الإثيوبي لجماعة الأحباش، تم في إطار سياقات محلية وإقليمية منها: الحرب على الإرهاب، والتمدد الإيراني في المنطقة، والحرب العالمية ضد الإرهاب والتي تقودها الولايات المتحدة، وتُمثل إثيوبيا حجر زاوية مهمًّا بها:
- التمدد الإيراني: يأتي الصراع بين الأحباش والسلفيين في إثيوبيا، في سياق الحرب الجيوسياسية بين الرياض وطهران، فخلال الفترة الأخيرة حقق نظام الولي الفقيه، العديد من النجاحات في إثيوبيا، عبر تمكين جماعة الأحباش الموالية له، من شؤون المسلمين هناك، ونقل تبعية مركز «أوليا» (الإغاثي) التابع لرابطة العالم الإسلامي، ومقرها السعودية إلى جماعة الأحباش، أي أن المركز تحول من الدعوة إلى السلفية إلى الدعوة ضد السلفية، فضلًا عن افتتاح مركز ثقافي إيراني في أديس أبابا، ووجود شراكة بينه وبين المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية الذي يُسيطر عليه الأحباش.
- الحرب على الإرهاب: تُمثل إثيوبيا رقمًا مهمًّا في الحرب على الإرهاب؛ حيث إن التقاربات الفكرية بين التيار السلفي في الداخل والإطار الفكري لتنظيم القاعدة، قد يسهم مستقبلًا في تشكيل جماعات إرهابية في إثيوبيا بحكم أن القاعدة تتبع المنهج السلفي أيضًا.
- الترتيبات الإقليمية: تُعد السياقات الإقليمية من أهم دوافع الحكومة الإثيوبية لتمكين جماعة الأحباش ومحاربة التيار السلفي؛ حيث تخشى من انتقال الجماعات الإرهابية في الصومال (حركة شباب المجاهدين)، التي تتبنى منهجًا سلفيًّا متطرفًا من نقل أعمالها إلى الداخل الإثيوبي.
- إضعاف اللوبي الإسلامي: يأتي تحيز الحكومة الإثيوبية للأحباش على حساب التيار السلفي، في محاولة منها لخلق صراع «إسلامي - إسلامي» وتعويم القضايا الإسلامية، وضياعها في إطار الخلافات الطائفية، وتحقيق الهدف النهائي للنظام، وهو إضعاف اللوبي الإسلامي؛ حتى لا يكون للمسلمين صوت حقيقي في الدفاع عن مصالحهم.
- فرض التعايش: لدى التيار السلفي العديد من الإشكاليات في التعامل مع الآخر، سواء كان دينيًّا أو مذهبيًّا، ومن ثم رأت الحكومة الإثيوبية إبعاده عن المشهد الإسلاموي، والدفع بالأحباش لتحقيق التوازن مع الجماعات الدينية الأخرى.
وأخيرًا رغم الهدوء النسبي الذي تنعم به الساحة السياسية والدينية الإثيوبية، خاصة بعد تولي «أبي أحمد» ذي الأصول الإسلامية، مقاليد الحكم في البلاد، فمن المحتمل أن يتجدد الصراع السلفي الحبشي مرة أخرى، بصورة أشد عنفًا وأكثر قسوة من قبل؛ نظرًا للعديد من الاعتبارات والسياقات الإقليمية الحاكمة للوضع الديني في إثيوبيا، على رأسها الرغبات الإيرانية المتنامية، في مد نفوذها في البقع العالمية المؤثرة كإثيوبيا، وهو الأمر الذي قد ترفضه الدول الإقليمية الكبرى في المنطقة، وتدفع إلى مقاومة التمدد الإيراني في القرن الأفريقي، عبر استغلال جماعة الأحباش المقربة منها سياسيًّا وفكريًّا.