الولايات المتحدة و«الإخوان».. حتميَّة الحظر قبل الكارثة

وصلت العلاقة الحاليَّة
بين الولايات المتحدة الأمريكيَّة، وجماعة الإخوان، إلى مرحلة الإفاقة؛ حيث
اكتشفتْ النُّخَب السياسيَّة والفكريَّة داخل المجتمع الأمريكي، أنَّها مُنَظَّمة
راديكاليَّة تُسْهم أيديولوجيَّتها المُنْغَلقة في الأعمال الإرهابيَّة ؛ ولهذا يُعاد
النَّظر -في ضوء التطوّرات في الشرق الأوسط والمنطقة العربية، منذ عام 2011 إلى
اليوم- في جدوى التقارب الأمريكيّ من تيَّار الإسلام الحركيّ، الذي ألْحَقَ
بالنُّفوذ الأمريكيّ والمصالح الأمريكيَّة خسائر باهظة ، وعزَّز من نفوذ مُنافسيها.

الأهمُّ من ذلك ضرورة مُساءلة الذَّات الأمريكيَّة نَفْسَها حول كيفيَّة ارتداد خطَّة توظيف الإسلام الحركيّ؛ لتُمثِّل خطرًا على المجتمع الأمريكيّ ذاته؛ فبعد أن اعتُبِرَت جماعة الإخوان أداة لتحقيق المصالح الأمريكيَّة بالشرق الأوسط، صارت الجماعة تُوَظِّف العمق الأمريكيّ، عبْرَ اختراق إداراته ومُؤَسَّساته؛ لتعزيز نفوذها هي.
وبدا الواقع الأمريكيّ وكأنه فضَّل السَّير في علاقته مع الجماعة، وِفْقَ تدرُّج مراحلها بالحالة المصرية، منذ بدايات توظيفها لتحقيق مصالح قوى سياسيَّة مُتَنافِسة ، مرورًا بمسعى الجماعة التدريجي المُنَاوِر؛ للسَّيْطرة على المجتمع المصري ومؤسَّسات دولته، انتهاءً بحظر ونبذ الجماعة، التي اكتُشِفَ مُخَطَّط رغبتها في ابتلاع المجتمع وإلحاق الدَّولة بالجماعة ، لا أن تُدمَج الجماعة وتُلحَق بباقي مُكَوِّنات المجتمع.
كان المفترض أن يستوعبَ الأمريكيُّون دروس تجربة جماعة الإخوان في بلد منشئها (مصر)، والدرس الرئيسيّ الَّذي كان سيدفعهم مبكرًا لحظرها؛ كونها تخطِّط -منذ اللحظة الأولى- لحضورها لساعة استلام السلطة في توقيت معلوم، أو على الأقل الهَيْمَنة على مَن يديرها.
وتأخَّر التعاطي مع الخطر
الإخواني داخل المجتمع الأمريكيّ، بالنظر إلى أنَّ الإدارة الأمريكيَّة السَّابقة؛
لكي تسوغ لنفسها إقامة علاقات تَحَالُف مع تيار الإسلام الحركيّ، أوهمت نفسها
بأُطْرُوحات غير دقيقة بشأن اختلاف جماعة الإخوان عن غيرها من الحركات الرَّاديكاليَّة.
وهل ستُنقِذ إدارة ترامب،
الولايات المتحدة الأمريكيَّة من أوهام مَن رسَّخوا لمقولات غير علميَّة عن جماعة
الإخوان، بشأن كونها سلميَّة ومُعْتدلة ومُعْتنقة للقِيَم الديمقراطيَّة، ومن
الممكن إقامة شَراكة معها، وأنَّه لا خوف على المجتمع الأمريكيّ من أنشطتها؟

تنوُّع الوسائل والأساليب
من دلائل اختراق الإخوان
لأهم المؤسسات السياديَّة الأمريكيَّة، وكذلك من دلائل الاستخفاف بخطورة تنظيم
متطرِّف كجماعة الإخوان، ما صرَّح به مدير وكالة الاستخبارات المركزيَّة
الأمريكيَّة الأسبق «جون برينان»؛ فقد حاول برينان -في كلمة ألقاها في فبراير
2014، خلال مؤتمر نظَّمه أحد مراكز الدراسات الاستراتيجيَّة والدوليَّة- أن يشرح
مصطلح «الجهاد» لدى جماعة الإخوان، زاعمًا أنه يدلُّ على «نضال أخلاقيّ جوهره
سلميّ، وهو خلاف الدعوة لـ«الإرهاب الإسلاموي العنيف».
وهكذا يُخدِّر البعضُ
المجتمعَ الأمريكيّ بتصريحات مطمئنة حيال الجماعة، بينما هي تمتلك مشروعًا طويل
الأجل -وضعته منذ نشأتها بمصر- هدفه النهائي السيطرة على العالم كله؛ بحسب ما قال
«صالح عشماوي» أحد قيادات الجماعة: «رجال الإخوان هم جنود الدَّعوة الَّذين
سيقلبون الأوضاع في مصر، ثُمَّ في العالم الإسلامي، ثُمَّ يُحاربون أمم الكُفْر في
العالم، حتى تُسْلِم أو تدفع الجِزْيَة».
وحدَّد حسن البنا، مؤسس
الجماعة (1928)، مهمَّتها عندما قال: «مهمَّتنا أن نقف في وجه هذه المَوْجَة
الطَّاغية من مدنية المادَّة، حضارة المُتَع والشَّهوات الَّتي جرفتْ الشعوب
الإسلاميَّة حتى تنحسر عن أرضنا، ولسنا واقفين عند هذا الحدِّ؛ بل سنلاحقها في
أرضها، وسنغزوها في عقر دارها».
وتتنوع الوسائل والأساليب
والتحالفات والمُنَاورات من مرحلة لمرحلة؛ بحسب الظروف والتحديات التي تواجهها
الجماعة؛ لكن يظلُّ الهدف النِّهائي قائمًا؛ حيث هو الثَّابت الوحيد، بينما
تتعدَّد طرق الوصول إليه.
ولذلك قال «البنَّا»:
«نريد أن نُعلِن دعوتنا على العالم، ونُبَلِّغ الناس جميعًا، ويُعَمُّ بها آفاق
الأرض، ونُخْضِع لها كُلَّ جبَّارٍ؛ حتى لا تكون فتنةً، ويكون الدِّين كلُّه لله،
ولكلِّ مرحلة من هذه المراحل خطواتها وفروعها ووسائلها، وليقل القاصرون الجبناء إنَّ
هذا خيال».
ويستبعد الكثيرون أن تطمع
الجماعة في السيطرة على دولة كُبرى كالولايات المتحدة الأمريكيَّة، وهذا الظنُّ
كان هناك شبيهه في مصر، حتى اكتُشِفَت خطة تمكين الجماعة من المجتمع والدولة
المصريَّة، بخط يد خيرت الشاطر، أحد أخطر قادتها .
وتشمل الوثيقة المضبوطة
عام 1991، تصورًا شاملًا للسيطرة التدريجيَّة على الدولة المصرية، عبْرَ
التَّغَلْغُل في طبقات المجتمع الحيويَّة، وداخل المؤسسات المُؤَثِّرة، كمرحلة
تجهيز للسيطرة الكاملة على الدَّولة، كما تُولِي الوثيقة أهميَّةً خاصَّةً
للتَّغَلْغُل داخل قطاعات «الطُّلَّاب، والعُمَّال، والمهنيّين، وقطاع رجال
الأعمال»، علاوة على اختراق مُؤَسَّسات الدَّولة السياديَّة، القادرة على إحداث
التَّغيير، بجانب تكثيف الحضور بالنِّقابات، والجامعات، والمُؤسَّسة القضائيَّة،
والإعلام، والبرلمان.

الجهاد الحضاريّ
لا تبدأ جماعة الإخوان
بالجهاد العنيف؛ إنما تُقيم أوْلًا دولةً مُوازيةً، وتُنشِئ مؤسسات تابعة لها تقوم
بأدوار مُؤَسَّسات الدَّولة نفسها، وهو ما يُطلق عليه «الجهاد الحضاريّ»، وتتجهَّز
الجماعة بإعداد وتدريب جناح مُسلَّح سرِّي؛ لكنَّها لا تُباشِر الجهاد العنيف؛ إلا
دفاعًا عن هذه الدولة المُوازية، التي أنشأتها.
وتخوض جماعة الإخوان
حربها المُسَلَّحة عبْرَ توظيف الفصائل الجهاديَّة الأخرى، وبإطلاق نشاط كيانها
السِّري المُسَلَّح في مرحلة مُتَأَخّرة، بعد إتمام بناء كيانها الموازي داخل
الدَّولة، في حال تَعَرُّضِه لإعاقة تَحُول دون انفرادِه بقمَّة السُّلطة.
ويُمكن تعريف الجهاد
الحضاريّ بكونه «السعي لإقامة دولة إسلاميَّة؛ من خلال العمل على بناء قاعدة
جماهيريَّة إسلاميَّة عريضة، بتكثيف جهود الدَّعوة والتَّوطين والتَّمكين للتَّيار
الإسلاميّ، في المجتمعات المُراد إطلاق الدَّولة الإسلاميَّة منها، نابذًا العنف
في مراحله الأولى».
ويُختصَر «الجهاد
الحضاريّ» للإخوان في بناء تنظيم «حديديّ»، خارج القوانين المنظّمة للدَّولة
القائمة، وصياغة هذا البناء على مثال الدَّولة نفسها؛ حتى في أدقِّ تقسيماته
الإداريَّة؛ لتتَّفق مع التَّقسيمات الإداريَّة للدَّولة نفسها، ويُوازي مكتب
إرشاد الجماعة -في الحالة المصريَّة- مجلس الوزراء، فيما يقوم مجلس شورى الجماعة
بمهام البرلمان، ومكاتب الجماعة الإداريَّة بمثابة المحافظات، ومسؤولوها يقومون
بنشاط مُوازٍ لأنشطة مُحافِظي الحكومة، وتنطبق حدود المناطق مع الدَّوائر
الإداريَّة الانتخابيَّة للدَّولة تمامًا.
ويُصبِح التّنظيمُ بذلك
دولةً داخل الدَّولةِ، وبذلك تستكمل الجماعة جهادها الحضاريّ، حتى إذا ما حانت
لحظة التَّمكين عبر أيّ آليَّة مُتَاحة؛ فإنَّ الجماعة تكون مُسْتَعِدَّة
بمؤسَّسات مُوَازية بديلة لمُؤَسَّسات الدَّولة، ويتمُّ تأخير الجهاد العنيف؛ لحين
نشوب الصراع الآتي لا محالة؛ لأنَّه مفروض على الدَّولة الَّتي ستضطرُّ للدِّفاع
عن هويتها وتماسكها الاجتماعيّ.
ولم تتخلَّ الجماعة -في
أي مرحلة ما- عن أحد جناحيها السريّ والعلنيّ، وقد عدَّ مؤسسو الجماعة، الجناح
السريّ المُسلَّح، بمثابة «الورشة»، أما العلني؛ فبمثابة «المعرض»؛ كونه واجهة
التَّنظيم أمام الرَّأي العام.
وقد كشف أبوالعلا ماضي،
أحد قادة الإخوان السابقين -في فاتحة عام 2010- مواصلة ارتباط الإخوان بالعنف
والعمل المُسلَّح، الذي لم تنقطع عنه بالقبض على تنظيم عام 1965، بقيادة سيد قطب،
بعكس مزاعم قيادات الجماعة.

خطة التمكين بالولايات
المتحدة
كان السيناتور الجمهوريّ
الأمريكيّ، تيد كروز، دقيقًا ومُحقًّا عندما أدرج -ضمن حيثيات مشروع القانون، الذي
تقدَّم به للكونجرس الأمريكي في عام 2017؛ لتصنيف جماعة الإخوان كمنظمة إرهابيَّة-
وثيقة القيادي بجماعة الإخوان، محمد أكرم العدلوني، المتعلقة بخطة تمكين «الإخوان»
بالولايات المتحدة الأمريكيَّة.
وتَمَثَّل النشاط الأوَّل
في إقامة مشروعات خيرية واجتماعيَّة، وتأسيس منظمات تابعة للجماعة في مختلف أنحاء
الولايات المتحدة، وكذلك إدارة مساجد مهمة عبْرَ دُعاة تابعين للجماعة، وسَّعت
جماعة الإخوان لتنفيذ مشروع التمكين في الولايات المتحدة؛ من خلال مجموعة من
المُنظَّمّات الفاعلة داخل المجتمع، وفي مقدمتها «الجمعية الإسلامية لأمريكا
الشماليَّة»، والتي تُدير غالبيَّة المساجد والمراكز الإسلاميَّة، وأيضًا «مجلس
العلاقات الإسلامية الأمريكية» و«الصندوق الإسلامي الأمريكي الشمالي»، وهذه
المجموعات لديها فروع في كندا.
وتُحقِّق الجماعة -عبْرَ
أنشطة تلك المنظمات- أهداف خطة «الجهاد الحضاريّ»؛ وصولًا لتشكيل بنية مؤسسات
دولتها الموازية، سواء من جهة دعم بناء شخصية إسلاميَّة رافضة لمحيطها المجتمعيّ،
وغير مندمجة مع بقية مكوناته، أو من جهة تشكيل لوبي ضغط؛ من الممكن أن يتطور أداؤه
بعد الوصول لمستوى قوة مُعيَّن.
وتستغل الجماعةُ مناخَ
الحريات، وحوار الأديان، والتبادل الثقافيّ، وواقع التعدديَّة والتنوع داخل
المجتمع الأمريكيّ؛ للوصول إلى مرحلة طرْح نموذج إسلامي متطرف مناهض للقيم
الأمريكيَّة التعدديَّة.

تفنيد حجج المعارضين
دأبتْ بعض المراكز
البحثية المُؤثِّرة على توجُّهات صانع القرار الأمريكي، مثل: «معهد واشنطن لدراسات
الشرق الأدنى»، و«كارنيجي»، وغيرهما على نشْر دراسات تُحذِّر من تداعيات تصنيف
واشنطن لجماعة الإخوان كمنظمة إرهابيَّة.
ومن الحجج التي تسوقها
تلك الجهات؛ لإعاقة حظر نشاطات الجماعة بالولايات المتحدة، الزعم بأن إجراء كهذا
سيُفسِد علاقات واشنطن بأنقرة، ذلك الحليف الخطير تحت حُكْم الرئيس التركي رجب طيب
أردوغان، والذي يعتمد -في تثبيت نفوذه داخل تركيا وخارجها- على جماعة الإخوان.
وكان ينبغي على هذه
المراكز -التي تُعنَى باستشراف المستقبل- التنبيه على كارثية التحالف مع الإسلام
الحركي، والذي من شأنه إضعاف القوى الإقليميَّة الحليفة لواشنطن، وفي مقدمتها
تركيا، وكان عليها أن تُبادِر لمناقشة دروس السنوات الماضية، وإطْلاع صُنَّاع
القرار على حجم الخسائر الاستراتيجيَّة التي تكبدتها القوى التي تقاربت، أو
تحالفت، أو دعَّمت تيار الإسلام الحركي.
ويقوم التحالف على تحقيق
المصالح المشتركة بين الدول، وفي حالة التحالف مع تركيا؛ فقد استخفَّتْ أنقرة
بالاستقرار والسلم الدوليين والإقليميين، ولم تكترث بالتسبُّب في تهديد مصالح
ونفوذ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، مُراهنةً -فقط- على تحقيق مصالحها وحدها،
بجانب أي دولة ولو كانت منافسة لواشنطن ، وبالاستثمار في مُختلَف جماعات الإسلام
الحركي، حتى لو هدَّد ذلك أمن دول العالم.
وبهذا تَبيَّن من مجريات
الصراع في الشرق الأوسط، أنَّ مَنْ يُحقِّق أهدافه، ويحمي مكتسباته، هو من يخوض
حربًا حقيقيَّة على الإرهاب، وأنَّ مَنْ يُناهِض مشروعات الإسلام الحركي، التي
ترفضها شعوب المنطقة العربيَّة، هو من يفرض أجندة نفوذه ، ويحظى بحلفاء يتمتعون
بالمصداقيَّة والشفافيَّة.
ومن اللافت أن كلا
المسارين مرتبطان؛ فالتسامح بشأن ممارسات تركيا تجاه الجماعات التكفيريَّة
المُسلَّحة و«الإخوان»، جعل واشنطن تتغاضى عن أنشطة جماعة الإخوان في داخل المجتمع
الأمريكي؛ وهنا ينبغي النظر للقضية بعكس ما تُصوِّره المراكز البحثية.
بمعنى أنه كان من الأحرى،
أنْ تُحذِّر تلك الجهات واشنطن من مَغبّة مواصلة التحالف مع تركيا على شروطها
المتعلقة بتوظيف جماعة الإخوان؛ كونه يمنع الولايات المتحدة التعامل بحسم وصرامة
مع أنشطة الجماعة المُهدِّدة لأمن واستقرار المجتمع الأمريكيّ.
وهذا عكس ما يطرحه خبراء
غربيُّون، عبْرَ التعلُّل بالحرص على علاقات واشنطن مع تركيا؛ لتبرير ترْك جماعة
الإخوان تُواصِل مشروع تمكينها الكارثي في قلب القارة الأمريكيَّة؛ حيث ينبغي
العلم بأن من يتعاطى مع الإسلام الحركي، والجماعات المتطرفة يناله منها نصيبًا، وتركيا
-تحديدًا- لكي تقنع جماهير هذا التيار بها كقائدة للإخوان في العالم؛ تحوَّلت
-أخيرًا- لنظام الفرد الواحد، ولدولة راديكاليَّة تسعى لاستعادة الحُكْم العثماني.
ويُقاس على ذلك طبيعة
المعالجة؛ كونها تكامليَّة هي الأخرى؛ فاستعادة المنطقة العربيَّة المُختطَفة من
الإسلام الحركي؛ يتطلب -أيضًا- حظْر أنشطة جماعاته في الولايات المتحدة، كما أنَّ
هذا الحظر يُمَكِّن القوى المُحارِبة للإرهاب والتطرف -في الشرق الأوسط- من تحقيق
أهدافها.
وتتحجَّج بعض الدراسات
بأن حظْر جماعة الإخوان في الولايات المتحدة، سيؤدي لانضمام أعضائها للجماعات
الجهادِيَّة التكفيريَّة، وهو التصوُّر الذي ثبت عكسه عن طريق اختبار مسار الأحداث
في مصر، وسوريا، وليبيا، وغيرها من الدول.
توهَّمت إدارة «أوباما»
أن التحالف مع جماعة الإخوان، سيمتص عُنْف الجماعات الأخرى، بينما كانت جماعة
الإخوان على الأرض تُطبِّق نظريتها القديمة المُتعلِّقة بأنها ينبغي أن تتقوى
بأذرع وأجنحة مُسلَّحة، تُسهِم في ترجيح كفتها في الصراع ضد الدول وأجهزتها
الأمنيَّة والعسكريَّة، وهو الوهم الذي قاد لخسائر الولايات المتحدة في
سوريا (عندما أطلقت المدمرتان USS ROSS وUSS PORTER، الأمريكيتان اللتان
كانتا متمركزتين شرق المتوسط، قُرب الساحل السوري الغربي، في أبريل 2017، نحو 59
صاروخ «توماهوك» على قاعدة «الشُّعَيْرات» العسكرية بِحِمْص السورية، وقُدِّرَتْ
تكلفتها بنحو 100 مليون دولار)، بداية من الثقة بتيار الإخوان الذي ثبت أن
أيديولوجيته وممارساته لا تختلف عن غيره من الفصائل المُنتمِية للتيار التكفيريّ
والجهاديّ؛ بل هي أكثر قابلية عن غيرها في الانخراط في الفساد والانقسامات
والتناحر.
كما دلَّت سهولة دمج
الفصائل المتطرفة بعضها ببعض، وتغيير أسماء بعضها، ووضعها تحت عنوان «المُعارَضة
المُعتدِلة»، رغم اعتناقها لأيديولوجيَّة مُتطرِّفة، على أنَّ مصطلح «الاعتدال»
مجرد عنوان وهميّ يتم توظيفه في المناورات السياسيَّة، ولا يدل على حقيقة قناعات
تلك التنظيمات، تلك التي تنهل من المنهج الفكري التأسيسيّ لجماعة الإخوان.
ونرى أنَّ ما تُروِّجه
بعض المراكز البحثيَّة؛ بأنَّ فشل الإخوان في الصعود للحكم عبْرَ الانتخابات
يُقوِّي وجهة نظر «القاعدة» بشأن حتميَّة العُنف، ما هي إلا فزاعة روَّجتها جماعة
الإخوان؛ لفرض قبولها على ما هي عليه من تصورات ومناهج مُتطرِّفة في المشهد
السياسي، وفي الفضاء العام.
وتدعم جماعة الإخوان نشْر
الفكر المُتطرِّف، في المساجد التي تُسيطر عليها وعبْرَ كُتبها ومنشوراتها،
وتُحرِّض ضد الغرب والولايات المتحدة؛ بوصفها مجتمعات كافرة وفاسدة تخوض حربًا ضد
الإسلام ؛ كونها حريصةً على أن يُصَبَّ جهادها «الحضاريّ»، في تنشئة مَنْ يحمل
راية الجهاد العنيف؛ دفاعًا عن كيانها الذي ظلَّتْ تبنيه طوال عقود.
كما أنَّ زعم بعض
المُحلِّلين بأنَّ تسمية جماعة الإخوان كمنظمة إرهابيَّة؛ إنما يستهدف مسلمي
أمريكا، وينتقص من حقوقهم، ويهدد مكتسباتهم كمواطنين أمريكيين، لا يتماسك أمام
حقيقة كون المجتمعات المسلمة شديدة التنوع، ولا يعني علو صوت الإخوان وإجادتهم
تنظيم أنفسهم كونهم ممثلي المسلمين أو المعبرين عنهم؛ بل يصبُّ حظْر جماعة الإخوان
في صُلْب مصلحة المسلمين الأمريكيين؛ من جهة إبقائهم كمكون طبيعي مندمج داخل
مجتمعهم دون نزعات عزلة أو انفصال، ومن جهة إقصاء عوامل تنفير الآخرين منهم
وكراهيتهم لهم؛ بسبب ارتكاب أعمال عنف وإرهاب.

الخلاصة
يترقَّب المجتمع الأمريكي
موعد الحسم مع جماعة الإخوان؛ بعد أن استخفَّت حكومات، ومراكز قوى بالإدارة
الأمريكية، ومراكز بحثية، وجهات استخبارية بتبعات التَّسامُح مع التنظيم الأخطر في
العالم، وتركوه ينشر أيديولوجيَّته، ويُمهِّد لمشروعه الخاص بأمريكا.
ولا يكفي ما قررته
الإدارة الحاليَّة بشأن اعتبار بعض أذرع الجماعة المُسلَّحة، مثل: خلية «حسم»،
و«لواء الثورة» جماعتين إرهابيتين، فالجماعة بطبيعة الحال لم تصل بعد لمرحلة
الجهاد العنيف بالولايات المتحدة، وهي حالة مُؤجَّلة هناك لحين اكتمال بناء
الجماعة في الداخل الأمريكي.
وكانت إدارة ترامب قد
استقرت على مقاربة؛ مؤداها تصنيف خلايا مُسلَّحة محسوبة على الإخوان كمنظمات
إرهابيَّة؛ لكن «دون ملاحقة المُنظَّمة بأكملها»؛ بحسب ما صرَّح «إتش إم
ماكماستر»، مستشار الأمن القومي السابق، في ديسمبر 2017: «سنقوم بتقييم كل منظمة؛
وفقًا لشروطها الخاصة؛ فجماعة الإخوان ليست مُتجانِسة».
أما الإجراء الذي يُناسِب
طبيعة نشاطات الجماعة حاليًّا بالولايات المتحدة؛ فهو تسمية الجماعة ذاتها كمنظمة
إرهابيَّة؛ فهذا من شأنه حرمانها من استكمال مشروعها القائم الآن، وهو مشروع
«الجهاد الحضاريّ».
وإذا سمَّت واشنطن جماعة
الإخوان «منظمة إرهابيَّة»؛ فإنها ستجعل تمويل أمريكيين للجماعة جريمة يُعاقَبون
عليها، وسيحظر على أعضاء الجماعة التعاملات البنكيَّة، وسيمنع من له صلة بالجماعة
القدوم للولايات المتحدة الأمريكيَّة، وسيكون على السلطات ترحيل من ثبت عمله مع
الجماعة، أو عضويته بها.
تأخَّرت مصر في التعامل
مع الجماعة بهذا المنطق، وهو ما سمح لها بالتوغل في المجتمع والمؤسسات؛ بالدرجة
التي أيقنت معها أن جهادها الحضاريّ قد اكتمل، ولم يتبقَّ غير الهيمنة على رأس
السُّلطة، وانتظرتْ القاهرة حتى بدأ تفعيل الجهاد العنيف الشامل بتنسيق بين
«الإخوان» وحلفائها الجهاديين؛ لتتَّخذ إجراء تصنيف «الجماعة» إرهابيَّة، وتشرع في
حظر أنشطتها الإعلاميَّة والخيريَّة والاجتماعيَّة، في ديسمبر 2013.
وفي الحالة المصريَّة
كانت لحظة اكتشاف وثائق التمكين التي ضُبِطَت بخط يد خيرت الشاطر في العام 1991 ،
وفي الحالة الأمريكيَّة لحظة اكتشاف خطة تمكين الجماعة بأمريكا بخط يد محمد أكرم
العدلوني في العام نفسه 1991، هما التوقيتان المناسبان لإعلان هذا الإجراء في كلا
البلدين؛ كونها تنطوي على بدء الجماعة غزو مجتمعٍ ما مِنْ قاعدته؛ تمهيدًا للسيطرة
على السُّلطة، ومن ثَمَّ حماية دولة «الإخوان» الصاعدة بالقوة المُسلَّحة.
وفي كلتا الحالتين، وفي
تجارب الجماعة في مُختلَف بلاد العالم؛ تتعامل الجماعة مع واقعها بمنطق الغزاة الفاتحين،
لا بمنطق الشريك الوطني، أو العضو في دولة العقْد الاجتماعي العصريَّة المدنيَّة.
وعندما تحظى الجماعة
بحرية، ومساحة زمنية ممتدة تُباشِر خلالها جهادها الحضاريّ؛ فهذا مؤشر على إنجاز
جهاد عنيف ناجح؛ لذلك وجدتْ مصر صعوبة في التعامل مع شبكة الإخوان الجهاديَّة
العنيفة المعقدة، سواء المنبثقة من الجماعة أو تلك التي تربطها بفصائل أخرى،
ولاتزال تتعامل معها بعد أكثر من أربع سنوات من بدء المواجهة الفعليَّة.
يتولى الآن المناصب
المهمة بالإدارة الأمريكيَّة رموز على دراية بهذه الحقائق، وتُشير مواقفهم السابقة
إلى وعي كامل بخطورة ترْك جماعة الإخوان تستكمل أطوار بناء دولتها الموازية، خاصة
«مايك بومبيو» -المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكيَّة (سي آي
أي)- الذي شارك السيناتور «تيد كروز» العام الماضي في طرح مشروع تصنيف الجماعة
كمنظمة إرهابيَّة.
وينبغي أن تستوعب
الولايات المتحدة دروس التجربة المصريَّة مع جماعة الإخوان، وهو ما يدفعها للإسراع
بتصنيف جماعة الإخوان كمنظمة إرهابيَّة، ليس -فقط- لمراعاة مصالح حلفائها
القُدامَى ؛ بل لإنقاذ مجتمعها، وهذا عائد لعاملين رئيسيين:
الأول: كون «الجهاد
الحضاريّ» مرحلة تأسيسيَّة للجهاد العنيف؛ لذا تغذَّى الأخير من المخزون البشري
الذي أعدَّته الجماعة على مدى عقود، وجميعه مؤهل فكريًّا لترجمة مناهج التكفير
لعنف ماديّ ؛ لذلك فمرحلة التمكين و«الجهاد الحضاريّ» أخطر بكثير، وينبغي التعامل
معها بعقليَّة استباقيَّة.
الثاني: كون جماعة
الإخوان هي أصل كل الجماعات الإرهابيَّة والمتطرفة في العالم ، وترْك الجذور سيمنح
شجرة الإرهاب فرص تعويض ما فُقِد منها كُلَّما قُطِع منها فرع.