الدور التركي في الصومال.. إمبريالية عثمانية جديدة

عقب فشل محاولات تركيا العديدة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وجهت سياستها
الخارجية نحو منطقة الشرق الأوسط والقارة السمراء، لتجد لها دورًا إقليميًّا تتفاوض به مع
أوروبا؛ من أجل عودة النظر بشأن عضويتها.
وإبان وصول حزب العدالة والتنمية للحكم عام 2002، وإعلان سياسته الجديدة
نحو قيادة المجتمع الإسلامي، وإعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية، اتجه بالتوازي نحو
القارة الأفريقية لتقاسم ثرواتها مع الدول الاستعمارية، وبخاصة منطقة القرن الأفريقي
التي تطل على مضيق باب المندب؛ الذي يحوز على ميزة جيواستراتيجية؛ حيث يمر به أكثر
من 60% من التجارة العالمية، وهو ما جعله مصب اهتمامات وصراعات الدول.
وعقب هذا التوجه اتخذت العلاقات بين تركيا ودول أفريقيا، منحنى جديدًا، بعد أن حصلت الأولى على صفة مراقب في الاتحاد الأفريقي عام 2005، واعتبرته أنقرة عام
القارة الأفريقية، وبداية من 2008، توسعت تركيا داخل المؤسسات الأفريقية، وأقامت العديد
من العلاقات الاقتصادية معاها؛ إذ حصلت على عضوية بنك التنمية الأفريقي، وأقيمت خلاله
أول قمة «تركية - أفريقية» باسطنبول، لتشهد السنوات التالية شتى أشكال التعاون التركي
الأفريقي.
وحظيت منطقة القرن الأفريقي على اهتمام أنقرة؛ إذ سعت لبناء أكبر قاعدة
عسكرية في الصومال؛ لتمارس بها نفوذًا دوليًّا في المجتمع العالمي، ولخلق دور تأثيري على
دول منطقة الشرق الأوسط التي تعتمد تجارتها النفطية (بالنسبة للخليج العربي) ومصادر
دخلها (قناة السويس بالنسبة لمصر) على خليج عدن، ومضيق باب المندب.

دوافع
تركيا لعلاقتها بالصومال
تتسارع أنقرة ليكون لها النفوذ الأول في
الصومال؛ لما للأخيرة من مكانة استراتيجية عالمية لربطها بين الممرات التجارية الدولية،
إضافةً إلى حيازتها أكبر منفذ أفريقي ساحلي، وكذلك تمركزها على بوابة البحر الأحمر الجنوبية،
وحيازتها لمقدرات طبيعية، ووقوعها ضمن الدول الغير مستقرة سياسيًّا جعلها مطمعًا للدول
للسيطرة عليها، ومن أسباب الاهتمام التركي بالصومال:
(1) بوابة الدول الأفريقية:
استغلت تركيا الوضع السياسي الحرج للدولة الصومالية، وتدخلت بحجة تقديم المساعدات الإنسانية والاقتصادية، باعتبارها إحدى دول العالم الإسلامي، بينما كان الدافع الحقيقي وراء هذه المساعدات كون الصومال مدخل الدول الأفريقية، وفي الوقت ذاته هي سوق مفتوح للمنتجات الأفريقية؛ ما دفع أنقرة للتفكير في إيجاد موطئ قدم لها للاستثمار في القارة الأفريقية (دافع اقتصادي).
(2) بناء مجد الخلافة العثمانية الجديدة:
بعد فشل حلمها لتكون عضوًا في الاتحاد
الأوروبي، توجهت تركيا نحو مستعمراتها القديمة لتعيد أمجاد عثمانيتها، ولتعويض فشلها
في عضوية أوروبا؛ ولذا عملت على التمدد في الدول النامية ذات الميزة الاستراتيجية،
والقاسم المشترك كإحدى دول العالم الإسلامي.
وكما كتب أحمد داود أوغلو في نظرية العمق الاستراتيجي: «إن قيمة الدولة في السياسات الدولية تعتمد على موقعها الجيواستراتيجي وعمقها التاريخ»؛ ولذلك تسعى تركيا لمنافسة الدول الكبرى (الصين، والولايات المتحدة)؛ ليكون لها حضور اقتصادي قوي بأفريقيا ( دافع إمبريالي).
(3) إقامة علاقات جيدة بدول القرن الأفريقي:
ترى تركيا أن علاقتها بالصومال الجيدة، ستسمح لها بالتوسع في إقامة علاقات استثمارية في دول الجوار بالقرن الأفريقي، ومنها إثيوبيا، واستخدامها كورقة رابحة للتأثير على ملف الصراع المائي مع دول حوض النيل، وبخاصة مصر (بين الطرفين خلافات سياسية بعد ثورة 30 يونيو) والسودان (دافع سياسي).
(4) القضاء على أنشطة جماعة فتح الله جولن:
تسعى تركيا من خلال علاقاتها مع الدول الأفريقية لملاحقة نشاط جماعة فتح الله جولن، التي تتهمها الحكومة بالسعي لتنفيذ انقلاب على النظام الحاكم، وتسعى لاستمرار التنسيق مع أفريقيا لتضييق الخناق على أنشطة فتح الله (دافع سلطوي).

أبعاد
الدور التركي
تمارس
تركيا أدوارًا عدة بالصومال، منها:
(1) البعد السياسي:
بدأ التقارب التركي الصومالي عقب أزمة
المجاعة، واستغل أردوغان التقارب الديني، وتدخل بذريعة الإغاثات الإنسانية، ودعم الحكومة
في مقديشو ضد الجماعات الإرهابية متمثلة في حركة شباب المجاهدين، كما افتتحت تركيا
سفارة لها في مقديشو عام 2015، أثناء زيارة أردوغان للصومال بعد الأحداث الارهابية
التي وقعت بها، بجانب عدد من الزيارات المتبادلة المكثفة بين البلدين لفتح ملف الاقتصاد
والتعاون الأمني في الفترة ما بين 2015 و2017.
(2) البعد الاقتصادي:
من أكبر دوافع الوجود التركي بالصومال،
هو فتح أسواق تركية لها، وتوسيع الاستثمارات بها، والدخول عبرها للدول الأفريقية، فيوجد
عدد كبير من الشركات التركية بالصومال، منها شركة «البيريك» التي استحوذت على تطوير
وبناء ميناء مقديشو لمدة 20 عامًا، كما بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين أكثر
من 70 مليون دولار في 2015، وزادت النسبة لـ80 مليون دولار في 2016، علاوة على ذلك
وقع كلا الطرفين ما يقارب من 14 اتفاقية اقتصادية في الفترة ما بين 2013 وحتى 2018.
(3) البعد العسكرى:
من أهم تجليات الدور التركي العسكرى في
الصومال هو افتتاحها لأكبر قاعدة عسكرية خارج أراضيها في 2017، لرغبة تركيا في التحكم
بباب المندب، كما تسعى أنقرة لتسويق منتجاتها العسكرية من خلال التعاون العسكرى الصومالي،
فقد تسملت الصومال سلاح مدفعية يسمي بـ«أم بي تي -76»، وتجدر الإشارة هنا بتزايد الصناعات
العسكرية التركية عام 2015 لتصل إلى أكثر من 4 مليار دولار، صدرت منها حوالي 1.5 مليار
دولار من نفس العام وهي نسبة كبيرة مقارنة بغيرها من الأعوام.
وحاولت تركيا احتكار التعاون الصومالي
في المجال العسكرى والأمني، ولذا رفضت بقوة إنشاء القاعدة العسكرية الإماراتية في صومالي
«لاند» (تتمتع بحكم ذاتي) وسعت بالتعاون مع قطر في تشديد الخناق على التواجد الإماراتي
إلا أنه تم وقف القاعدة العسكرية الإماراتية.
(4) البعد الثقافي:
ويمكن أن نطلق عليه «القوى الناعمة التركية»؛
إذ تبنت تركيا تطوير منظومة التعليم الصومالية وافتتحت عددًا من المدارس، لنشر اللغة
التركية، إضافة لمحاربة المدارس التي أنشأتها مؤسسة «جولن»، كما افتتحت عددًا من الحسابات
البنكية لصالح الأزمات الإنسانية بالصومال.
تداعيات
الوجود التركي بالصومال
لطالما كانت الطبيعة الإمبريالية للدول
الرأسمالية تصب في مصلحتها في غالب الأمور، وأن التعاون الدولي ما بين الدول النامية
والدول المتقدمة يقع معظمه لحساب الأخيرة، ولا تنال الدول النامية إلا الفتات، وتسير
العلاقة ما بين تركيا والصومال في ركاب الإمبريالية في ظل العثمانية الجديدة التي دشنها
أردوغان منذ وصوله للسلطة، وعلى الرغم من أن ظاهر العلاقة بين البلدين يوحى بمبدأ التعاون
والتنسيق، إلا أن الصورة الحقيقة لهذه العلاقة هو في الحقيقة استغلال لضعف الصومال
في مرحلة تعافيها.
مسعى إمبريالي
بيد أن الصومال دولة مازالت تعاني من أزمات
سياسية وإنسانية حادة، ولكنها اتخذت خطوات جادة على طريق المؤسساتية وإجراء انتخابات
تشريعية، بالموزانة مع توافر مقومات اقتصادية لم تستغل بعد، وهو ما تحاول أنقرة احتكاره؛
إذ إنها تمتلك مخزونًا نفطيًّا لم يستخرج، وتحاول تركيا أن تبرم اتفاقات اقتصادية لمدى طويل
يتيح لها امتلاك اليد العليا للموارد الصومالية، ومنها اتفاقية تطوير وبناء ميناء مقديشو
لمدة 20 عامًا.
وعقب إنشاء القاعدة التركية بالصومال على
مقربة من مضيق باب المندب، فإن الصومال فقدت علاقاتها مع الدول العربية باستثناء قطر؛
لما لها من تداعيات خطيرة على الأمن العربي عامة، والأمن القومي المصري خاصة، بجانب
الأمن الاقتصادي لدول الخليج، والتي تمرر حاملات نفط عملاقة يوميًّا للسوق الأوروبي،
وإنشاء هذه القاعدة سيجعل تركيا تتحكم في حركة الملاحة البحرية في تلك المنطقة.
تنامي
التنظيمات الإرهابية
من المرجح، أن يزيد الوجود العسكري التركي
من تصاعد التنظيمات الإرهابية (حركة شباب المجاهدين)؛ إذ إنها لا تعترف بالحكومة الصومالية
الحالية برئاسة محمد عبدالله فروماجو الذى تدعمه أنقرة، وبالتالي ستكون القاعدة العسكرية
هدفًا لشباب المجاهدين، مثلما حدث بعام 2013؛ إذ تم تفجير السفارة التركية على يد حركة
الشباب، وترى أن الوجود التركي ما هو إلا صورة جديدة من الاستعمار الجديد بصورة إسلامية
وبدعوى إنسانية.
زيادة
التدخلات الأجنبية
سيؤدي الوجود التركي لمزيد من التدخلات
الأجنبية في الداخل الصومالي، حرصًا منها على مراقبة الدور التركي التوسعي وعدم احتكارها
للملف الصومالي وسيطرتها على منطقة القرن، ومن ناحية أخرى التسارع من أجل الحصول على
حصتها من النفوذ الدولي بالمنطقة.
وبالرغم من عضوية تركيا بحلف الناتو، فإن هذا لا يمنع من تخوف بريطانيا والولايات المتحدة من التمركز التركي بالقرن الإفريقي،
كما تسعى إيران هي الأخرى إلى الوجود داخل الصومال، وهذا ما يفسر إصرارها على فتح
سفارة لها بمقديشو.
مستقبل
الدور التركي في الصومال
ستواجه أنقرة تحديات صعبة أثناء وجودها
بالصومال، في ظل الترقب الدولي لتحركاتها في منطقة القرن الإفريقي؛ ولذا سيؤدي تعاظم
الدور التركي لإثارة غضب الدول المناهضة للمشروع التركي، وعلى رأسها الدول الأوروبية
والعربية.
ومن المرجح أن تتحول الصومال لأرض صراع
دولية، وتشبه ما تكون عليه الحالة السورية الآن؛ نظرًا لكل المقدرات الاقتصادية، وبخاصة
النفط الموجود في الأراضي الصومالي، والذي سيؤدي لاحتمالية حدوث نزاعات مسلحة ما بين
الحكومة الفيدرالية في مقديشو، والحكومة في الصومال لاند. ومن ثم ستتصارع الدول هي
الأخرى بجانب أطرافها في الصومال، والتي ستدعم بها تركيا الحكومة في مقديشو.
وعلاوة على ذلك، أن العلاقات «التركية
- الصومالية»، قد تسبب في مزيد من الانزعاج العربي من الشراكة بين الطرفين، ولذا فمن
الممكن أن يؤدء التواجد التركي لمزيد من عزلة الصومال عن محيطها العربي والاقليمي،
وستقع في الزاوية القطرية التي دعمت الجماعات الإرهابية في الوطن العربي، مما تمخض
عنه المقاطعة العربية لقطر.
إن المشروع
التركي في الصومال، سيظل محفوفًا بمخاطر عدة وتهديدات منها:
(1) تهديد حركة الشباب
المجاهدين.
(2) دويلات متحاربة،
بعضها غير راضٍ عن الوجود الأجنبي التركي بالصومال.
(3) المخاطر الجمة الناتجة
عن عدم الاستقرار السياسي.
(4) تعدد المصالح الدولية
المنافسة لتركيا.
وختامًا، فإن الدور الإمبريالي التركي
في الصومال جعلها مسرح تنافس بين الدول الكبرى والدول الإقليمية للوجود داخل الصومال؛ ما قد يؤدي لمزيد من انتشار التنظيمات الإرهابية التي تستغل تشتت السلطات الأمنية
وضعف الإرادة السياسية لصناعة عدو خارجي؛ لإعادة نشر الفوضى والقلاقل داخل البلاد.