«ابن تيمية».. شخصية تتنازعها الجماعات الإسلامية

يُعد أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام النميري، المعروف بـ"ابن تيمية"،
شخصية تتنازعها وتتخاصم فيها جميع الجماعات الإسلامية، وتيارات "الإسلام الحركي"،
فكل فصيل يَدَّعِي انتماءه وانتسابه لابن تيمية، ويلقبه بـ"شيخ الإسلام"؛
فالتكفيريون يستدلون بفتاواه في قتل الأبرياء واستباحة دمائهم وأموالهم، والسلفيون
يردون عليهم –أيضًا- بفتاواه التي تُحرِّم الاعتداء على المال، وتُبيِّن حرمة الدماء
المعصومة.
أرادوه جهاديًّا يقتل المدنيين بغير ذنب، وروَّجوا لفتاواه التي فسروها
خطأ بأفهامهم؛ رغم أنه لم يثبت عنه قتل مدني في حياته، ولم يشارك إلا في حروب التحرير
والمقاومة ضد بعض الخارجين على إجماع الأمة والمساندين لعدوها، أو المستهدفين لحرماتها
في حياته، من المغول والصليبيين والتتار، التي تُعد من الفرق الضالة عنده في ذلك الوقت.
واعتبر الصوفية ابن تيمية سفيهًا كارهًا للصحابة وآل البيت، عدوًا لله
ورسوله (صلى الله عليه وسلم)؛ لرفضه بعض ممارسات الطرق الصوفية في التعامل مع أولياء
الله الصالحين، وألَّفوا فيه كتبًا، من بينها "فتاوى ابن تيمية في الميزان"،
لمحمد بن أحمد مسكة بن العتيق اليعقوبي، وكتاب "ابن تيمية ليس سلفيًّا"،
للدكتور عويس محمد محمد عويس، مبعوث الأزهر إلى الجمهورية الليبية الأسبق، رغم أن ابن
تيمية ألَّف كتاب "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان"، أوجب فيه
الإيمان بكرامات الأولياء، وله ثناء على التصوف في بعض كتبه؛ حتى نسبه بعضهم إلى الصوفية.
أما الإرهابيون فقد جعلوه جانيًا قاتلًا سافكًا للدماء، عنيفًا مع المخالفين له؛ بينما جعله السلفيون مجنيًّا عليه مظلومًا، ولقَّبوه بـ"شيخ الإسلام"، واستدلوا بفتاواه دون التفريق بينها وبين الأحكام؛ لأن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال والأشخاص، بينما يظل الحكم ثابتًا؛ فلم يفرقوا بين الفتوى والحكم من جهة، ولم يراعوا أن ابن تيمية بشر، يعلم ويجهل، ويُصيب ويُخطئ، وله وعليه من ناحية أخرى.

قتال الطائفة
الممتنعة
ولأن كلام العلماء يحتمل أكثر من وجه،
فيحمله كل فريق على الوجه الذي يريده؛ فأدعياء الجهاد -الذين أصَّلوا لفكرة تكفير الحكام
والحكومات ومحاربتهم؛ باعتبارهم خارجين عن الملة بسبب حكمهم بغير ما أنزل الله، واستبدالهم
القوانين الوضعية بحكم الله، وعدم تطبيقهم الشريعة الإسلامية في بلادهم- استدلوا بفتاوى
منسوبة لابن تيمية في الحاكمية.
ولم يكتفوا بذلك؛ بل كفَّروا المعاونين
للحاكم من رجال الجيش والشرطة والموظفين الحكوميين، واعتبروهم الطائفة المرتدة، ثم
انتقل تكفيرهم لعموم المواطنين الذين يعيشون في بلد هذا الحاكم ولا يواجهونه؛ باعتبارهم
الطائفة الممتنعة، قائلين إن "ابن تيمية" أجاز قتالها حينما سُئِل عن التتار
المعتدين على "أهل ماردين" في الشام، وهم يظهرون الإسلام ولا يلتزمون بكثير
من شرائعه؛ فأسقطوا هذه الفتوى على أهل الإسلام، وهذا ما فعله محمد عبدالسلام فرج أحد
مؤسسي تنظيم الجهاد المصري، في بحث "الفريضة الغائبة".
وبالنظر للتطبيق العملي لفتاوى ابن تيمية؛
سنجد أنه رغم إقراره بوجوب قتال الطائفة الممتنعة عن تطبيق شرائع الله؛ فإنه في الوقت
نفسه يؤكد في فتاواه أن الذي يقوم بهذا الواجب إنما هو ولي الأمر -أي الحاكم- وليس
آحاد الرعية، أما الواقع الذي سار عليه أعضاء هذه الجماعات فأنهم نَصَّبوا أنفسهم حكامًا،
لهم صلاحيات تطبيق الشريعة وإقامة الحدود.
ومن أشهر الفتاوى المثيرة للجدل عند ابن تيمية، فتوى "أهل ماردين" التي احتلَّها التتار، وكان أهلها مسلمين؛ بينما جمع التتار بين الكفر في نظر ابن تيمية والبغي والعدوان، وقد أباح فيها أن "يعامل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه"، ولكن المتطرفين حرَّفوا كلمة "يعامل" واستبدلوها بكلمة "يقاتل"؛ ليستبيحوا دماء الأبرياء، وقد برَّأت دار الإفتاء المصرية ابن تيمية في شرحها لهذه الفتوى عبر الموقع الرسمي للدار في إجابتها عن فتوى برقم (2425) بتاريخ 14 أغسطس 2011م.
ومما يؤكد هذا الفهم من قِبَل ابن تيمية،
ما فعله من المشاركة في قتال التتار وجهادهم ضمن جيش مصر تحت راية السلطان، بعد أن
أقنعه شيخه بالخروج لقتالهم، والتقى الجيشان في ساحة "شقحب" في الثاني من
رمضان عام 702هـ، وقُتِل من التتار خلق كثير، مع الأخذ في الاعتبار أن التتار كانوا
معتدين، يسعون لاحتلال البلاد، وهو أمر يختلف عمَّا تقوم به التنظيمات الإرهابية التي
تقتل المواطنين المسلمين الآمنين.

البتر
عن السياق
أما عن فتاوى التكفير التي يتغنَّى بها
المتطرفون، ويحفظونها عن ظهر قلب؛ فهي فتاوى موجودة بالفعل في كُتُب ابن تيمية؛ ولكنهم
يقومون ببترها عن سياقها على طريقة "لا تقربوا الصلاة"، و"ويل للمصلين"؛
فيأخذون من هذه الفتاوى المقاطع التي تؤيد جرائمهم وتكفيرهم دون مقاطع أخرى فيها نسف
لمعتقداتهم وأفكارهم؛ فيسقطون الفتاوى التي تتحدث عن الأفعال الكفرية على أشخاص ليسوا
كفارًا.
ومما يكشف كذبهم وجود فتاوى أخرى لابن
تيمية قال فيها بعدم جواز تكفير المسلمين، محذرًا من ذلك بشدة؛ إذ يقول في مجموع الفتاوى
(3/ 282): "ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله، ولا بخطأ أخطأ فيه، كالمسائل التي
تنازع فيها أهل القبلة".
وذكر عددًا من الأمور التي يُطلق عليها
الكفر، ويُكَفَّر مرتكبها بعد توافر الشروط وانتفاء الموانع، منها أن يجعل الإنسان
بينه وبين الله وسائط يدعوها، والذي يترك أركان الإسلام بالكلية، أو يرد شرع الله أو
بعضه، أو سبَّ الله تعالى أو استهزأ به أو بآياته، ومن سب أحد الأنبياء، أو استهزأ
به أو كفره، أو قذف إحدى زوجاته.
وأكد ضرورة توافر عدد من الشروط، وانتفاء
عدد من الموانع، قبل الحكم على من ارتكب الكفر بالكفر؛ بحيث إذا لم يتوافر شرط من هذه
الشروط، أو وُجِد مانع من موانع التكفير لا يُكَفَّر الإنسان حينها.
وحَرَّف تنظيم "داعش" إحدى فتاوى
ابن تيمية لتبرير جريمة إعدام الطيار الأردني معاذ الكساسبة حرقًا في يناير 2015، واستبدلوا
كلمة "السائغ" بـ"الشائع"، في قوله: "فإن كان في التمثيل
الشائع لهم دعاء إلى الإيمان وحرز لهم عن العدوان؛ فإنه هنا من إقامة الحدود والجهاد
المشروع"، كما أنهم قطعوها من سياقها؛ لأنهم لو قرؤوا تكملة الفتوى لوجدوا أنها
لا تبرر أفعالهم بحال من الأحوال.
التعصُّب
المذموم
وكان ابن تيمية يقصد بهذه الفتوى جواز
تمثيل المسلمين أثناء الحرب بجثث الكفار الذين قاموا بالتمثيل بجثث أهل الإسلام؛ عملًا
بقول الله تعالى في سورة النحل، الآية 126: "وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ
مَا عُوقِبْتُم بِهِ"، فالمثلية تقتضي فعل الشيء نفسه، ومع ذلك يُقرر في الفقرة
التي تليها أن الصبر أفضل، لقول الله تعالى في ختام الآية السابقة: "وَلَئِن صَبَرْتُمْ
لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ".
ولم يُعرَف عنه تكفير لحاكم مسلم أو الخروج
عليه، ورغم قوة محاججة "ابن تيمية" للمبتدعة والمخالفين؛ وصل لتأليف مؤلفات
خاصة منفردة للردِّ عليهم، وتفنيد أقوالهم؛ إلَّا أنَّه لم يُعرف عنه صدام مسلح مع
أي من مخالفيه أو معارضيه.
وعلى عكس ما تُشيعه الجماعات الإسلاموية
المختلفة –اليوم- من التعصب المذموم لآرائها، ونبذ آراء مخالفيها؛ فإن ابن تيمية رفض
التمذهب والتعصب للرأي الواحد، قائلًا: "ومَن تعصب لواحد بعينه من الأئمة دون
الباقين؛ فهو بمنزلة مَن تعصب لواحد بعينه من الصحابة دون الباقين؛ كالرافضي الذي يتعصب
لعلي دون الخلفاء الثلاثة وجمهور الصحابة، وكالخارجي الذي يقدح في عثمان وعلي رضي الله
عنهما؛ فهذه طرق أهل البدع والأهواء الذين ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أنهم مذمومون
خارجون عن الشريعة والمنهاج الذي بعث الله به رسوله (صلى الله عليه وسلم)؛ فمَن تعصَّب
لواحد من الأئمة بعينه ففيه شبه من هؤلاء، سواء تعصب لمالك أم الشافعي أم أبي حنيفة
أم أحمد أم غيرهم".
ولم يكن حبس ابن تيمية بسبب تكفيره للحكام،
كما يُروِّج خصومه، أو التطرف في الفتاوى الجهادية؛ وإنما حُبس بسبب عقيدته في الأسماء
والصفات التي ألَّف بسببها كتابي "الطحاوية، والواسطية"، وحرَّم ابن تيمية
الخروج على الحاكم المسلم في كتابه "السياسة الشرعية في أحوال الراعي والرعية"؛
إذ لا يجوز الخروج على الحكام بعد البيعة، وهو يستند في ذلك إلى حديث في صحيح البخاري،
يقول فيه النبي (صلى الله عليه وسلم): «اسمعوا وأطيعوا وإن اسْتُعْمِل عليكُم عبدٌ
حبشيٌّ كأنَّ رأسهُ زبيبة»، وحديث: «مَنْ يُطع الأميرَ فقد أطاعني ومَن يعصِ الأميرَ
فقد عصاني»، وكذلك حديث صحيح مسلم: «من كره من أميره شيئًا فليصبر، فإنَّهُ مَن خرج
مِنَ السُلطانِ شبرًا ماتَ ميتة جاهلية».
ويؤكد هذا المعنى في الجزء الثاني من مجموع
الفتاوى قائلًا: «إن الإسلام دين الوحدة ودين الجماعة، ولو أباح النبي (صلى الله عليه
وسلم) قتال الحاكم لفسدت الأرض، ومن عليها، وولَّى كل امرئ نفسه في عشيرته، وثارت عليه
القبيلة؛ ولكنه ألزمنا بالسمع والطاعة».
وُلد ابن تيمية -المُلقَّب بتقي الدين
الحراني- في مدينة حران ببلاد الشام، وعاش في الفترة ما بين (661هـ - 728هـ /1263م
- 1328م)، وتلقَّى العلم على المذهب الحنبلي (نسبةً إلى أحمد بن حنبل) عن أبيه وجده؛
إلا أنه رفض التقيُّد بالمذهب، واجتهد في الإفتاء بخلافه في المسائل التي خالفت الكتاب
والسنة، واعتُقل عدة مرات؛ بسبب مسائل عقيدة الأسماء والصفات عند الصوفية، وشدَّ الرِّحال
إلى قبور الأولياء الصالحين.