برعاية الميليشيات الإرهابية.. ليبيا تتحول لأفغانستان جديدة
باتت ليبيا تسير على الخط الأفغاني في التعامل مع الشعب وتصنفيهم، ولا سيما من قبل الفصيل الأكبر بداخلها المتمثل في الإسلاميين وتحديدًا الجماعات والميليشيات الموالية لهم، إذ يبدو استهداف الإسلاميين في طرابلس وبنغازي لأغلب الفئات من النساء والأمازيغ والعلمانيين ونشطاء العمل المدني كان استهدافًا ممنهجًا، حيث يحظى هؤلاء بدعم سياسي من السلطات الليبية المتنافسة على السلطة منذ عام 2021، وبتمويل من الخزانة العامة لثلاث جهات بشكل محدد وهي هيئة الأوقاف الإسلامية في بنغازي ودار الإفتاء وهيئة الأوقاف في طرابلس، ونستطيع إضافة الأمن الداخلي كذراع تنفيذية للمؤسستين الأولى والثانية؛ الأمر الذي يشير وفق مراقبين في الشأن الليبي، إلى أن ليبيا باتت قريبة جدًا من استنساخ الطالباني بالداخل بعد استيلاء الحركة على أفغانستان وتصنيف عامة الشعب واستهداف المعارضين لهم.
السير على خطى أفغانستان
أثناء محاولة رئيس حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها «عبدالحميد الدبيبة»، تجديد شرعيته خارج المؤسسات المتنافسة بما في ذلك مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، لجأ إلى الاستعانة بالنفوذ الديني الصادق الغرياني كرئيس لدار الإفتاء وحصل على مباركته للاستمرار كرئيس للوزراء - وهي خطوة سمحت له باستعادة بعض نفوذه في طرابلس دون تقديم تنازلات سياسية.
ويمكن إرجاع حركة الأسلمة الحثيثة التي تحدث في ليبيا إلى: قرار سحب الثقة من رئيس الحكومة «الدبيبة» في عام 2021، الذى قاد بعد ذلك مظاهرة لإسقاط البرلمان في شرق ليبيا. حينذاك، تابع الزعيم الديني البارز -«الصادق الغرياني» أو خميني ليبيا كما يسمونه البعض، والذى دعا في السابق للجهاد الإسلامي ضد الأمريكيين والفرنسيين- خطوات الدبيبة المناوئة للبرلمان بارتياح شديد، وقرر البرلمان الليبي عزل المفتي من منصبه عام 2014 لكن الأخير استمر بسلطة المسلحين في طرابلس.
كان هذا التحالف غير مسبوق في ليبيا، حيث لم يكن الغرياني صاحب المواقف الدينية المتطرفة قريبًا من الحكومات السابقة المتنافسة مثل حكومة الوفاق برئاسة فائز السراج أو الحكومة المؤقتة برئاسة عبدالله الثني المقرب من العسكريين، ومع ذلك فإن تأييد الدبيبة للغرياني كـ "شيخ ومعلم" فتح الباب أمام حملة قمع ثقافية إسلامية واسعة.
وأعطت حكومة الدبيبة للغرياني الضوء الأخضر الذى كان ينتظره للبدء في تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، فانطلق المفتي في حملة دينية تحريضية متشددة ضد المرأة الليبية، حيث أصدر فتوى دينية تمنع سفر المرأة دون مرافق. استجاب "الأمن الداخلي" لتلك الفتوى المتطرفة، وقام بفرض نموذج إذلالي مُهين قائم على التمييز الجنسي يقيد حرية الليبيات في السفر من مطار معيتيقة، وأثار بطبيعة الحال جدلًا وغضبًا بين مناصري حقوق الإنسان ونسويات ليبيا. وبعد إصدار هذه الفتوى، أجبرت النساء اللاتي يسافرن بمفردهن على توفير تفاصيل حول رحلاتهن وأسباب عدم وجود "مرافق ذكر".
طلب المفتي الغرياني من حكومة الدبيبة ميزانيات مالية خاصة لمحاربة الذين يغيرون دينهم إلى المسيحية، كما طلب تمكينه من المدارس والجامعات والمؤسسات التعليمية. وفي الواقع كانت دار الإفتاء تتحصل شهريًّا على تمويل تخصصه وزارة المالية من المصرف المركزي الليبي، ويأتي هذا التمويل متزامنًا مع استضافة ذبيح الله مجاهد، المتحدث الرسمي باسم حركة طالبان الأفغانية، لعضو دار الإفتاء الليبية سامي الساعدي في إطار سياسة التطبيع التي ينتهجها الغرياني مع حركة طالبان.
استطاع تيار السلفية الجهادية الذي يمثله الغرياني، والممول من قبل الدولة والمؤثر سياسيًّا، إعادة سيطرته على عدد لا بأس به من مساجد طرابلس التي فقدها لصالح التيار السلفي الممثل في هيئة الأوقاف، وبعد فتاوى وهجوم مستمرين من المفتي ضد منظمات العمل المدني الليبية، أصدرت إدارة القانون بالمجلس الأعلى للقضاء في مارس 2023 فتوى تنص على: «عدم شرعية الجمعيات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني» التي أنشئت بعد عام 2011 ولا يمكن للمصادفة أن تلعب هنا دورها في تطابق الفتوى القانونية مع فتوى دينية سابقة، وهو مؤشر واضح على نفوذ التيار الديني داخل مؤسسة القضاء.
وشهدت الشهور الماضية مزايدة بين التيارين لإثبات الأصولية الإسلامية المتشددة، مما أدى إلى تعرض غير المسلمين والنساء والفئات الضعيفة الأخرى للمعاملة القاسية بشكل متزايد، حيث اتجهت أوقاف طرابلس إلى إنشاء جهاز أمني بوليسي تحت اسم "حراس الفضيلة" لتطهير البلاد من العلمانية ومحاربة الملحدين والذين يغيرون دينهم إلى المسيحية والصوفيين والعلمانيين، في نسخة مرعبة مشابهة للباسيج الإيراني.
ومثلما يحدث في أفغانستان، تم استهداف الصوفيين على وجه الخصوص في شرق ليبيا، حيث اتسعت صلاحيات السلفيين فتمكنوا من قمع أنصار ورموز المذهب الصوفي وسجنوا أتباعهم ومنعوهم من الخطابة في الجوامع، وكذلك تمكنوا من مطاردة المثقفين والكتّاب والتضييق على جمعياتهم، مثل الهجوم الشهير على تجمع "تاناروت" في بنغازي وتكفير روّاده واتهامه بنشر المسيحية والإلحاد والماسونية، مما جعل مثقفي التجمع في خطر حقيقي اضطروا بسببه إلى إغلاق تجمع تاناروت الرائد.
في الجهة المقابلة، أكد الباحث في الشأن الليبي، محمد قشوط، أن الشعب الليبي الآن بات يعاني مما كان يعاني منه الشعب الأفغاني من صراع على السلطة ووجود المحتل الأمريكي، إلى استيلاء الحركة الأفغانية على الحكم، ومشروع أسلمة ليبيا، في ظل وجود قيادات دينية غير منتخبة تسعى للظهور دائمًا على السطح وتقود بذاتها مشروع الأسلمة المعادي للمرأة وللحريات الدينية وعزل الليبيين عبر سياسات حكومية وأمنية.
وأوضح الباحث في الشأن الليبي، في تصريحات خاصة لـ«المرجع»، أنه في ظل الوضع المتشرذم في الداخل الليبي، يعيش الليبيون حقيقة تجربة الشعب الأفغاني في مواجهة الدولة الدينية عقب صعود طالبان إلى الحكم، وهذا ما تفعله الجماعات في الداخل الليبي من استهداف لكل ما هو معارض لهم وحتى في الرأي، مؤكدًا أن قضية تحقيق الحرية الدينية في ليبيا ستظل مرهونة بالتوصل إلى تسوية سياسية فعالة بين الأطراف المتحاربة في ليبيا وتشكيل حكومة موحدة تعمل على إنشاء نظام ديمقراطي حقيقي يحترم جميع الحريات ويضمن مبدأ المواطنة والمساواة.





