الأزمة الليبية.. صراع مسلح تحكمه الميليشيات على حساب الوطن والشعب
عاد خطر الميليشيات الإرهابية إلى الواجهة من جديد عقب اندلاع الصراع في العاصمة طرابلس نهاية أغسطس 2022، الأمر الذي يمثل شوكة في ظهر ليبيا، إذ تعتبر معضلة الإرهاب التي لا تُعَدّ خارجة عن سلطة الدولة فقط بل ومهيمنة عليها، واحدة من أهم الأسباب التي أسهمت في تشكل الأزمة الليبية منذ بدايتها، وعطلت كل الجهود المحلية والدولية لحلها، خصوصًا مع ارتباطها مع كثير من أطراف الصراع السياسي، التي كثيرًا ما استخدمتها للبقاء في السلطة أو للوصول إليها.
شوكة في ظهر ليبيا
منذ اندلاع الصراع بين رئيس حكومة الوحدة عبدالحميد الدبيبة وخلفه المكلف فتحي باشاغا، بسبب الصراع على السلطة والنفوذ والثروة، وذلك بعد عامين من التواري عن الأنظار، في انتظار وجهة الأحداث السياسية التي ارتبط بها مصيرها، مؤثرة ومتأثرة، منذ سقوط نظام معمر القذافي في عام 2011.
بدأت الميليشيات الليبية المسلحة في الظهور والتكون في مرحلة الثورة على نظام الرئيس الراحل معمر القذافي في فبراير 2011، عندما اضطر المتظاهرون ضد النظام في مدن ليبية مختلفة إلى حمل السلاح لمواجهة قمعه، وبدأت تظهر ما عرفت بـ«كتائب الثوار» في مدن كثيرة، أبرزها بنغازي ومصراتة والزنتان، في الوقت الذي كانت فيه طرابلس في قبضة القذافي، حيث تشكلت الكتائب في تلك الفترة بشكل سريع وعشوائي، حيث تولى ما يسمى بـ«المجلس الانتقالي في بنغازي» آنذاك، دعم تلك الكتائب بالسلاح والتدريب.
ومنذ رحيل القذافي، بدأت الميليشيات تقاتل بعضها، وكثرت أعدادها بشكل كبير، حيث قدرت أعداد عناصر الميليشيات بعد عامين بأكثر من 20 ألف عنصر في طرابلس، و17 ألف عنصر في مصراتة، و12 ألفًا في بنغازي، حيث وقعت أكثر وأخطر الصدامات في تلك الفترة في طرابلس، التي تحولت إلى مركز للصراع على السلطة والثروة، خصوصًا بعد تكون تحالف ما يسمى بـ«فجر ليبيا» من كتائب مدينة مصراتة ومقاتلين من معاقل أخرى، تضم أيضًا قوى إسلامية، وتحالف يخضع لقيادة ميليشيات الزنتان، إضافة إلى الفيدراليين في الشرق، والجماعات المقربة من نظام القذافي.
وشهدت تلك الفترة أحداث خطيرة بينت سطوة الميليشيات على القرار السياسي للدولة بفرض قانون «العزل السياسي» بقوة السلاح وتحت التهديد لأعضاء البرلمان، حيث وضعت ميليشيات من مصراتة وبنغازي ومدن أخرى 200 تابوت للموتى أمام مبنى المجلس أثناء التصويت على القرار، لترهيب أعضائه وإجبارهم على الموافقة على القانون وهو ما حدث.
بعد فرض الميليشيات الإرهابية سطوتها على الدولة وتغولها على دور مؤسساتها والتحكم بكل مفاصلها جملة وتفصيلاً، سيطرت على مقدراتها وتحول قادتها إلى أثرياء في فترات وجيزة، وتفرغت بعد ذلك لبعضها البعض واندلع صراعها على النفوذ الذي ما زال مستمرًا حتى اليوم، إذ كان أشهر الصدامات التي وقعت بينها في السنوات اللاحقة حرب «المطار» كما اشتهرت في طرابلس عام 2013، والتي أدت إلى خروج قوات الزنتان من طرابلس بشكل نهائي، وأحرق بسببها أكبر مطارات البلاد الذي ما زال مدمرًا.
وعن السيطرة على الثروات الليبية، نجحت الكتائب الفيدرالية بقيادة «إبراهيم الجضران» عام 2013، في السيطرة على موانئ النفط الأكبر وسط البلاد، مما أدى إلى توقف عمليات التصدير لسنوات، في أكبر ضربة تلقاها الاقتصاد الليبي خلال العقد الأخير، حيث حولت هذه الخطوة النفط إلى الورقة الأولى في الصراع منذ ذلك الحين، وكان شرارة الصدامات بين الشرق والغرب التي احتدمت لسنوات عدة.
بعد توقيع وقف إطلاق النار في طرابلس عام 2020، شهدت ليبيا أكثر فترات الهدوء الأمني في السنوات الأخيرة، بعد إعلان موعد للانتخابات في ديسمبر 2021، لكن الإخفاق في تنفيذ الاستحقاق الانتخابي بموعده أعاد الميليشيات الإرهابية إلى المشهد، في غرب البلاد، بشكل أكبر من ذي قبل.
ومع عودة الانقسام الحكومي بتشكيل البرلمان لحكومة جديدة برئاسة فتحي باشاغا، وإقالة سابقتها التي شكلت بموجب الاتفاق السياسي في جنيف برئاسة عبدالحميد الدبيبة، الذي رفض تسليم السلطة للحكومة الجديدة، استعادت الميليشيات المسلحة نفوذها وأهميتها، بعد لجوء فتحي باشاغا المعين من قبل البرلمان والدبيبة إليها كل لمواجهة خصمه.
لكن هذه التحولات الجديدة فرضت تغييرًا لافتًا في خريطة التحالفات بين هذه التشكيلات المسلحة التي كانت قبل عامين في حلف واحد، لكنها منذ منتصف العام الحالي تواجه بعضها البعض في سياق الصراع الجديد الذي حصدت منه امتيازات جديدة أمنية ومادية، عززت من سطوتها وخطورتها على مستقبل البلاد، التي تعيش تحت تهديدها ورحمة صراعاتها التي لا تنتهي حتى تبدأ من جديد.
ويؤكد مراقبون في الشأن الليبي، أن الفوضى التي شكلت بها الكتائب المسلحة في بنغازي ومصراتة والزنتان ظهرت نتائجها، بعد سقوط نظام القذافي وتدمير قوات الناتو للجيش وبنيته التحتية تمامًا، حيث قفزت هذه الكتائب لملء هذا الفراغ، ومنحت تصريحات من الدولة الجديدة، أعطتها الشرعية، والأخطر أنها ألزمت نفسها من خلالها بتقديم الدعم المالي لكل التشكيلات المسلحة التي كانت تتوالد كالفطر، حتى بلغت أعدادها الآلاف من التشكيلات المسلحة متنوعة التوجهات، على مستوى ليبيا، منوهين إلى أن هذه الفترة التي اتسمت بالفوضى العارمة شهدت ظهور كتائب العاصمة التي كانت أعداد منتسبيها ضخمة جدًّا، رغم أن طرابلس كانت تحت سيطرة نظام القذافي قبل سقوطه، وعدد الذين انتفضوا ضده فيها بداية الأحداث الليبية لا يتجاوز المئات الذين تم قمع تمردهم بسرعة وسهولة.
للمزيد: عودة الاشتباكات.. عقبة كئود أمام الاستقرار الليبي المنشود





