ad a b
ad ad ad

المنشاوي.. قلب متعلق بالقرآن وصوت موصول بالسماء

الأربعاء 20/يونيو/2018 - 09:55 م
محمد صديق المنشاوي
محمد صديق المنشاوي
عبدالهادي ربيع
طباعة
صاحب صوت ندي، يشعر السامعون له بسكينة تُهدهد قلوبهم وترقى بأفئدتهم؛ خشعت جوارحه للقرآن، ومنه اكتسب صفات حسناوات كُثر، فكان ممن زُينت آيات الله بأصواتهم، مصداقًا لقول رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ»؛ إنه الشيخ محمد صديق المنشاوي، أو «الصوت الباكي» كما يلقبه محبوه.

ولد «المنشاوي» في 20 يناير من العام 1920، بقرية «البواريك» بمدينة المنشأة، التابعة لـمحافظة سوهاج، ونبت في «المدرسة المنشاوية» التي أسسها والده الشيخ صديق المنشاوي، الذي حفظ على يديه القرآن الكريم، ودرس علم التجويد وفن المقامات.

بدأ «المنشاوي» طريقه نحو أسر قلوب الملايين مبكرًا، إذ أخذ يقرأ القرآن في المحافل التي كانت تُقام بصعيد مصر، ولما ذاع صيته ولمع نجمه تلقى العديد من الدعاوى لتلاوة آيات الله في مختلف محافظات الدلتا، ومن هذه المحافل وتلك الليالي أصبح اسم الشيخ محمد صديق المنشاوي محفورًا في قلوب آلاف المصريين.

انضم «المنشاوي»، إلى الإذاعة المصرية متأخرًا، إذ كان أول تسجيل إذاعي له عام 1953 خلال جولة الإذاعة المصرية بأقاليم مصر أثناء شهر رمضان؛ لتكون بذلك الخطوة الأولى في مشوار اعتماده قارئًا بالإذاعة في العام التالي مباشرة.

وتكشف مجلة الإذاعة والتليفزيون في أحد أعدادها الصادرة سنة 1953، قصة انضمام «المنشاوي» إلى الإذاعة المصرية؛ موضحةً أنه رفض هو ووالده الشيخ صديق المنشاوي في البداية الانضمام إلى الإذاعة، مشيرةً إلى أن الشيخ محمد صديق كان أول قارئ تذهب إليه الإذاعة لاعتماده، وذلك بسبب أن صيته قد وصل إلى أعلى مدى، وعندما وصلت الأحاديث إلى أروقة ردهات مبنى الإذاعة المصرية، أرسل مسؤولوها إليه يطلبون منه أن يتقدم بطلب ليُعقد له اختبار، فإن اجتازه يُعتمد مقرئًا بها؛ إلا أن الشيخ رفض قائلًا: «لا أريد القراءة بالإذاعة، فلست في حاجة إلى شهرتها، ولا أقبل أن يُعقد لي هذا الامتحان أبدًا».

وأمام رفضه الذهاب إلى اختبار الإذاعة، لم يجد مديرها حلًّا إلا أن يأمر رجاله بأن تنتقل الإذاعة إلى حيث يقرأ الشيخ، وبالفعل فوجئ «المنشاوي»، وكان يُحيي حفلًا رمضانيًّا بمنزل أحد الأثرياء في مدينة إسنا التابعة لمحافظة الأقصر، حين وجد الإذاعة قد أرسلت مندوبها لتسجل قراءته وتلاوته.

وبرفقة الفريق الإذاعي الذي ذهب إلى مدينة إسنا، توجّه فريق آخر إلى قرية العسيرات التابعة لمحافظة قنا؛ حيث كان الأب «صديق المنشاوي» يقرأ هناك، ليتم تسجيل قراءة الأب والابن في فترة متقاربة، ويكون الاثنان أول من انتقلت إليهما الإذاعة لـ«تقييم الموهبة».

ولأنها موهبة كبيرة، كان الرفض قائمًا حتى بعد اعتماد صوت الأب والابن من جانب المسؤولين؛ حيث اتضح أن الشيخين «صديق» وابنه «محمد»، رفضا الذهاب إلى الإذاعة لإنهاء إجراءات اعتمادهما، لولا تدخل أحد المقربين من الشيخ محمد، وأقنعه بأن رفضه ليس له أي مبرر ولا يليق به، خاصة أن الإذاعة قد أرسلت مهندسيها وفنييها لتسجل لهُ بعد رفضه.

وبعد إلحاح شديد، وافق الابن محمد صديق المنشاوي، بينما رفض الأب قائلًا: «كفى الإذاعة المصرية من عائلة المنشاوي ولدي محمد».

نُقل الشيخ محمد صديق المنشاوي، منذ أول يوم بدأت الإذاعة المصرية في بث المحافل التي يقرأ فيها «المدرسة المنشاوية» إلى العالمية، وذلك بما تميز به من أسلوب فريد في القراءة، غلبت عليه نغمة حزن دفينة، أضفت على صوت الشيخ خشوعًا تملك كل سامعيه، إلى أن لقب بـ«الصوت الباكي».

اشترك «المنشاوي» مع أبرز القراء العالميين وقتها أمثال: كامل البهتيمي، وفؤاد العروسي، في تسجيل القرآن الكريم كاملًا برواية «الدُّوُري عن أبي عمرو البصري»، ثم سجل القرآن الكريم كاملًا بصوته، إضافةً إلى رحلاته العالمية لإحياء الليالي المباركة من المسجد الأقصى ومساجد سوريا والعراق وغيرها من البلدان التي رافق فيها صديقه المقرب صاحب الصوت الملائكي الشيخ عبدالباسط عبدالصمد.

ترك «المنشاوي» أكثر من 150 تسجيلًا بالإذاعة المصرية والإذاعات الأخرى، كما سجَّل ختمة قرآنية مرتلة كاملة تُذاع بصفة دائمة بإذاعة القرآن الكريم بالقاهرة، وعينته وزارة الأوقاف قارئًا بمسجد الزمالك.

عزة القرآن
عاش «المنشاوي» بالقرآن في كل سكناته وحركاته؛ فأعزه الله وصار يطلبه الأمراء والملوك لإحياء الليالي القرآنية، ونذكر هنا حادثتين شهيرتين إحداهما في «مصر الملكية»، والثانية بعد قيام ثورة يوليو وإعلان الجمهورية؛ إذ انبهر الملك فؤاد بصوت الشيخ، وطلب منه أن يكون قارئ القصر الملكي؛ إلا أن «المنشاوي» اشترط أن تُغلَق المقاهي وتتوقف عن تقديم المشروبات، وقت إذاعة القرآن الكريم في القصر الملكي، ووجد الملك صعوبة في تنفيذ هذا الأمر، فردَّ على المنشاوي قائلًا: «ذلك يعني أن نكلِّف حارسًا على كل مقهى! وهذا أمر يتعذر علينا»، فرفض الشيخ طلب «فؤاد» قائلًا: «كذلك فهذا أمر يتعذر علينا أيضًا»، ثم تلا قول الله تعالى: «وإذا قُرِئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون».

وعقب ثورة 23 يوليو عام 1952 والإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية التي رسمت هالة خاصة من القداسة على قيادة الثورة، ممثلة في شخص الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، أرسل الرئيس أحد وزرائه لـ«المنشاوي» يدعوه لإحياء مناسبة دينية في القصر الرئاسي، ولم يُحسن الوزير الحديث قائلًا: «سيكون لك الشرف الكبير بحضورك هذا الحفل الذي يحضره الرئيس عبدالناصر»؛ فما كان من الشيخ إلا أن لاذ بـ«عزة القرآن» ورفض طلب الوزير، قائلًا: «ولماذا لا يكون هذا الشرف لعبدالناصر نفسه أن يستمع القرآن بصوت المنشاوي؟ لقد أخطأ عبدالناصر حين أرسل إليَّ أسوأَ رسله».

محاولة اغتيال فاشلة
نجا «المنشاوي» من محاولة اغتيال دبرها له أحد الحقادين عليه، وذلك حين حاول دس السم له في الطعام، وقد روى الشيخ القصة بنفسه، قائلًا: «كنت مدعوًا لقراءة القرآن في إحدى الليالي، وبعد انتهاء السهرة، أصر مشرف الحفل على ضيافتي في منزله، وأرسل أقاربه ليتوسطوا عندي لأقبل طلبه؛ فوافقت، وقبل أن أبدأ في تناول الطعام، أخبرني طباخ المنزل أن أصحاب المنزل طلبوا منه أن يدس لي السم في أحد أطباق الطعام، وقد أأتمر الطباخ لما طلب منه، إلا أنّ ضميره استيقظ حين سمعني أقرأ القرآن، فوصف لي الطبق المسمم، وعندما جيء بالطبق المسمم اعتذرت لأصحاب المنزل عن تناول المزيد من الطعام، الذين أقسموا عليّ أن آكل المزيد فأخذت قطعة من الخبز وأكلتها، وقلت: هذا يبر قسمكم فنجاني الله من هذه المحاولة الخبيثة».

وفي 20 من يونيو عام 1969، توفي الشيخ محمد صديق المنشاوي، بعد إصابته بمرض دوالي المريء.

قالوا عن المنشاوي
سُئِلَ الشيخ محمد متولي الشعراوي عن رأيه في صوت المنشاوي، فقال: «من أراد أن يستمع إلى خشوع القرآن فليستمع لصوت المنشاوي، إنه ورفاقه الأربعة (مصطفى إسماعيل، وعبدالباسط، والبنَّا، والحصري) يركبون مركبًا، ويُبحرون في بحار القرآن الزاخرة، ولنْ تتوقف هذه المركب عن الإبحار حتى يرث الله ومن عليها».

وقال خبراء الأصوات: «إذا كان الشيخ مصطفى إسماعيل أعظم من جوّد القرآن، فإنَّ المنشاوي أعظم من رتَّله! لِتميزه بعذوبة صوته، وخشوعه في القراءة، وانفعاله بجلال القرآن ورهبته، وإجادة المقامات، لاسيما مقام «النهاوند» الذي أبهر المستمعين! حتى لُقِّبَ بصاحب الصوت الباكي».

قال عنه الموسيقار محمد عبدالوهاب: «في تقديري، إنه يمكن التعليق على أيّ قارئ من القرَّاء، إلاَّ المنشاوي الذي يُمثِّل حالة استثنائية، يحار أمامها الذائق الفَهِمِ! فمن يتأمَّل مخارج الحروف عنده يصعب أنْ يجد لها وصفًا، وذلك لِمَا منحه الله من حنجرة رخيمة، ونبرة شجية تلين لها القلوب والجلود معًا، ويتجلَّى ذلك عند ختامه للتلاوة، فتراه يستجمع كل إبداع التلاوة في آخر آيتيْن، بحيث يجعلك تعيش معه أشدّ لحظات الخشوع على الإطلاق! وما عليك إلَّا أن تتأمل استرساله ما بين السرعة والتلقائية العجيبة، كما في سورة الإسراء، وبين الهدوء وخفض الصوت كما في سورة العلق، عند قراءته: (كلاَّ إنَّ الإنسان ليطغى أنْ رآه استغنى، إنَّ إلى ربك الرجعى...)».

وقال عنه الأديب محمد القوصي: «إنَّ الشيخ المنشاوي أغلقَ بابَ تلاوة القرآن من بعده، فلا يستطيع أحدٌ من القُرّاء أن يقتربَ من أدائه الفريد، ومن صوته الملائكي».
"