بإعادة انتخابات إسطنبول.. هل يؤسس «أردوغان» للأحادية السياسية؟
السبت 18/مايو/2019 - 08:33 م
إيمان زهران
للمرة الأولى منذ العام 2002 تراجعت شعبية حزب العدالة والتنمية، وتداعت تنظيماته السياسية أمام قوى المعارضة بالانتخابات المحلية الأخيرة، والتي أُجريت في مارس الماضي، وذلك رغم التحالفات السياسية التي عقدها الحزب الحاكم ورئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان مع أحزاب أخرى، والتعديلات الأخيرة بقانون الانتخابات، كي تتوافق مع رؤيته التوسعية نحو الهيمنة داخليًّا وإنجاز استحقاقات استراتيجية «العثمانية الجديدة» إقليميًّا.
وبالنظر لما أسفرت عنه نتائج الانتخابات المحلية، وخسارة الحزب الحاكم لصالح المعارضة بلديتي أنقرة وإسطنبول إلى جانب عدد آخر من المدن الرئيسية أهمها أنطاليا، فقد أصبح من الواضح أن «العدالة والتنمية» يراهن على «إعادة» انتخابات إسطنبول بالتحرك نحو الحشد والتعبئة، وإقناع شرائح المقاطعة، وتعديل رأي المتحفظين من أنصاره، وهو ما انعكس على تصريحات «أردوغان» وغيره من قيادات الحزب بأنهم «فهموا رسالة الناخب»، وسيعملون على أساسها، مرتكزين في ذلك الرهان على نموذج «إعادة الانتخابات البرلمانية في 2015»، إذ تمت الإعادة وحصد الأغلبية البرلمانية بعد حوالي 5 أشهر من الانتخابات؛ حيث خاف أنصاره من فوز المعارضة وعودة تركيا لما قبل العدالة والتنمية، ليضعنا أمام عدد من التساؤلات أولها ما يتعلق بمدى مصداقية التوافق لتيارات الإسلام السياسي مع النهج الديمقراطي، لاسيما حين تفرز صناديق الاقتراع نتائج تتعارض مع مصالحهم ورؤيتهم حول «الأحادية السياسية»، كذلك ما هي السياقات الداعمة لعملية الإعادة والتحركات المحتملة لمختلف فواعل وأطراف العملية الانتخابية؟
سياقات الإعادة:
أعلنت لجنة الانتخابات العليا فى تركيا إعادة الانتخابات فى البلديات الكبرى فى 23 يونيو المُقبل، لتضعنا أمام عدد من المؤشرات والسياقات الداعمة لذلك القرار، والمحفزة للتوجهات الأردوغانية نحو استكمال متطلبات «الأحادية السياسية»، وذلك من خلال:
- سياقات قانونية: فقد استند قرار اللجنة العليا للانتخابات وبالتوازي مع خطاب «أردوغان» على نقطتين، الأولى تتمثل في مخالفات تتعلق برؤساء صناديق الاقتراع، والثانية مخالفات تقنية تتعلق بالأظرف واللوائح.
والجدير بالذكر، أن مثل هذه الانتهاكات ليست استثنائية، إذ إن أغلب الانتخابات التركية دائمًا ما يصاحبها شكاوى حول هاتين النقطتين، ولكن كان دائما ما يتم إهمالها لعددة أسباب، أهمها: أن مَن يتقدم بتلك الشكاوى هى المعارضة وليس الحزب الحاكم، وثانيًا أن الفارق عادة ما يكون كبيرًا، فلا يؤثر على النتيجة، مثال: حالة الاستفتاء الذي جرى في عام 2017، وانتقال الدولة إلى النظام الرئاسي.
وبالنظر إلى ذلك، فيعتبر ذلك السياق القانوني يحمل في تناوله نوعًا من «الازدواجية المعيارية»؛ ما يدفع بالحديث عن احتمالية ممارسة ضغوط سياسية على اللجنة العليا للانتخابات لإعلان حالة «إعادة الانتخابات»؛ حيث دائمًا ما كان ليلتفت لتلك الشكاوى، إلا أنه الآن تم الأخذ بتلك الخروقات المتكررة، والاستناد عليها لإعادة الانتخابات.
- سياقات ديموغرافية: تتعلق تلك السياقات بنظرية «مراكز الثقل»، فقد أسفرت النتائج على خسارة أردوغان لمراكز ثقلة الديموغرافية، فخسارة أنقرة وإسطنبول وعدد من الولايات الأخرى، يحمل عددًا من الدلالات، أهمها: ضربة لرمزية المشروع السياسي لأردوغان الدافع نحو مزيد من مركزة سلطة حكم البلاد في قبضته، كذلك بداية لخروج مناطق الأناضول الأوسط من تحت سيطرة العدالة والتنمية وزعامة أردوغان.
الجدير بالذكر، أنه بجانب ثقل العاصمة، فالبلديات المركزية بتركيا تُعد البنية السكانية والاقتصادية التي اعتمد عليها أردوغان في صعود زعامته، إذ كان يعتبر خطه السياسي تمثيلاً للنخب الاقتصادية التجارية والصناعية المُحافظة لمنطقة الأناضول، ذات الأواصل العميقة مع العالم التركي في أوسط آسيا؛ في مواجهة النخب السياحية والبنكية في كل من إسطنبول وأزمير، المتداخلة مع أوساط الأعمال الأوروبية والأمريكية.
ومن ثم فهزيمة الحزب الحاكم في إسطنبول، إلى جانب ولايات المركز مثل: أنقرة وأزمير وأنطاليا، تعني خروج مدن الثقل الاقتصادي والسياسي والرمزي الثلاث في البلاد من تحت سيطرته.
- سياقات سياسية: بجانب لما هو مشاع بأن الانتخابات البلدية تمثل فى جوهرها تصويتًا على ثقل شعبية «أردوغان»، فكذلك يحرص الحزب الحاكم «العدالة والتنمية» بإعادة الانتخابات على الحصول على ما يزيد على 50٪ من المقاعد، لترسيخ الوصول إلى الهدف الذي رسمه رجب طيب أردوغان فيما يسميه «تأسيس الجمهورية التركية الجديدة – العثمانية الجديدة»، وهو هدف يسعى لتحقيقه على مراحل، تنتهي مرحلته الأولى عام 2023، الذي يوافق الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية.
الجدير بالذكر، أن تلك الانتخابات ستعقبها فترة طويلة تمتد إلى أربعة أعوام دون خوض انتخابات في تركيا، ومن ثم فنتائجها تمثل انعكاسًا للاستقرار الداخلي، والذي بدوره سيمنح مؤشرات إيجابية مهمة للاقتصاد الداخلي، ومدخلاً لجذب الاستثمار الأجنبي.
تحركات مُحتملة:
ثمة عدد من التحركات المُحتمل حدوثها من جانب كل حزب العدالة والتنمية «الحزب الحاكم»، وحزب الشعب الجمهوري وقوى المعارضة، وذلك قبيل انتخابات الإعادة؛ لضمان الكتل التصويتية، وذلك من خلال:
- حزب العدالة والتنمية: حيث من المُرجح الاعتماد على ثلاث تحركات لضمان النجاح باستحقاق الإعادة، وهي:
التحرك الأول- استقطاب المقاطعة: وذلك بإقناع المقاطعين من قاعدته الشعبية بالعزوف عن المقاطعة، والذهاب إلى صناديق الاقتراع للتصويت لصالح الحزب، على أن يتم ذلك من خلال اعتماد خطاب وطني يصف العملية الانتخابية من خلالها بأنها معركة مصيرية في وجه المؤامرات الداخلية والخارجية، وحرب على الاقتصاد، ومعركة لتحقيق الأمن والاستقرار.
التحرك الثاني- استقطاب الأكراد: باستمالة أكراد إسطنبول للتصويت لصالح حزب العدالة والتنمية، وهو ما يمكن ترجمته بالتحركات الأخيرة؛ حيث سمحت السلطات لمحامية زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان بلقائه في جزيرة آمرلي لأول مرة منذ عام ٢٠١١، وأعلن الأخير رسالة موجهة منه إلى قوات سوريا الديمقراطية يدعو فيها إلى تغليب الحوار والسياسة على القتال في العلاقة مع تركيا.
التحرك الثالث– استقطاب القوميين: وذلك بالتحرك نحو توحيد الناخبين واستقطاب المزيد من القوميين، وقد يأتي ذلك تحت شعار عملية عسكرية أو خطر عسكري خارجي، إذ إنه مجمل الناخبين القوميين الذي صوتوا في الانتخابات البلدية الأخيرة في إسطنبول بلغ عددهم حوالي 1.4 مليون تقريبًا ويشمل ذلك حزب الحركة القومية المتحالف مع حزب العدالة والتنمية، وحزب «إي» المتحالف مع حزب الشعب الجمهوري المعارض؛ حيث منهم حوالي 850 ألف صوت لمصلحة مرشح المعارضة.
فإذا استطاع حزب العدالة والتنمية حرمان المعارضة من شريحة منهم، أو حصل هو على شريحة إضافية، فقد يساعد ذلك في إنجاز استحقاق «الإعادة» لصالحة.
- قوى المعارضة: حيث من المُرجح الاعتماد على ثلاث تحركات لضمان تكرار النجاح باستحقاق الإعادة، وهي:
التحرك الأول- استقطاب المقاطعين من المؤيدين: وذلك باستهداف مقاطعي الانتخابات من مؤيدي قوى المعارضة وتحفيزهم من خلال الدعاية الإيجابية للعودة للمشاركة بانتخابات الإعادة، فمعظم تلك الشريحة ممن قرروا «المقاطعة» كانوا يعتقدون أن حزب العدالة والتنمية سيربح مجددًا، وأنه لا فائدة من الذهاب إلى الصناديق للتصويت.
ومن ثم، فقد أصبح لدى هذه الشريحة حافز أكبر الآن للذهاب للتصويت لصالح «قوى المعارضة» لأنّهم أدركوا أن الفوز ممكن بالفعل، وأن «العدالة والتنمية» بدأ يفقد شعبيته.
التحرك الثاني- استقطاب معارضي الحزب الحاكم: إذ إن الحزب الحاكم جعل من نفسه هدفًا «داخليا» من خلال خوضه معركة مع جميع الأطراف غير المؤيدة له، ومع شريحة من الأطراف الموالية له التي ساهمت في تحقيق النجاح للحزب سابقًا، وظلت حتى وقت قريب جزءًا منه.
وفي حال نجاح استقطاب قوى المعارضة للأطراف غير المؤيدة للحزب الحاكم، فإن ذلك التحرك من الممكن أن يجذب الأصوات الكردية المعارضة للـ«العدالة والتنمية»، وربما جزءًا من الأصوات التقليدية للحزب الحاكم، لاسيما الأصوات التي عبر عنها عبدالله غول وداود أوغلو.
التحرك الثالث- تقوية تحالف «قوى المعارضة»: يتمثل ذلك التحرك فى ضمان استمرار وتجانس تحالف قوى المعارضة الحزبية، وذلك تمهيدًا للحصول على أصوات الأحزاب المجهرية الأخرى في إسطنبول، والتي تميل فى توجهاتها إلى المعارضة، فإذا ما استطاعت المعارضة إقناعها أو بعضها بالانسحاب أو التحالف معها، فستحصل على الأرجح على معظم أصواتها.
في النهاية، من الصعب التنبؤ بالحسم عند الحديث عن إعادة الانتخابات في ظلِّ تنوع وتشعب المعطيات القانونية والسياسية والديمغرافية لسياق العملية الانتخابية، فنتائج إعادة الانتخابات تبدو مفتوحة على عدة سيناريوهات وغير مضمونة العواقب بالنسبة للعدالة والتنمية والشعب الجمهوري على حد سواء، إذ ستسعى الأحزاب بطبيعة الحال لإقناع الناخبين وخصوصًا المتحفظين أو المقاطعين منهم بالتصويت لمرشحها.
وستعمد إلى إرسال رسائل إيجابية خلال الحملة الانتخابية، وكذلك العمل على نسج تحالفات مع الأحزاب الصغيرة التي حاز مرشحيها عشرات الآلاف من الأصوات؛ حيث تبدو نسب تصويتية مؤثرة في ظلِّ معادلة الفارق الضئيل بين المرشحين، لكن كل ذلك لن يكون قادرًا على حسم النتيجة أو الجزم بتوجهات الناخب التركي، والذي سيكون أحد أهم العوامل المؤثرة في صياغة قراره هو تقييمه لأداء الأحزاب بعد إعلان نتائج الانتخابات الأخيرة، ومدى تأييده لقرار الإعادة.
ليبقى المحك الأهم والأخطر في انتخابات الإعادة هو اعتراف الجميع بنتائجها وعدم التشكيك بنزاهتها، واستقلالية اللجنة التي تديرها لما لذلك من تأثيرات سلبية مباشرة على مصداقية التجربة الديمقراطية التركية، والتي تتجه بتحركاتها الأخيرة نحو «الأحادية السياسية».





