تقارير

«الجراحية الهلفيتية».. التصوف كما يعشقه الغرب

الخميس 01/نوفمبر/2018 - 01:34 م

إفطار رمضان لـ«الجراحية الهلفيتية»

نهلة عبدالمنعم

يُمكنك أن تأتي ويزداد وصالك؛ لتصبح صديقًا وتتخطى حواجز المعرفة والجهل مهما أثقلتك الذنوب ولطختك الخطايا.. بذلك المنهاج شقت «الجراحية الهلفيتية» طريق الوصال الصوفي من تركيا حتى المجتمع المتعدد بأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.

إحدى الفعاليات بمركز الطريقة بالولايات المتحدة

وفي منحى خاص، انتشرت الجراحية بشكل أوسع بين أطياف المجتمع الأمريكي؛ لتكاد تكون الطريقة الأكثر قبولًا بين المريدين، كما تتعدد مراكزها وأنشطتها داخل الولايات المختلفة؛ لتمتد فروعها بين كاليفورنيا، ونيويورك، وشيكاغو، ولوس أنجلوس، وبينسلفينيا.

ولادتها الأولى

«الجراحية الهلفيتية»، هي إحدى الطرق الصوفية ذائعة الصيت في الغرب، وتعود جذورها التاريخية والجغرافية إلى تركيا؛ حيث أسسها الشيخ محمد نورالدين الجراحي (1678- 1720)، وأخذت في التوسع والاعتماد وإنشاء التكايا الخاصة بها إبان حكم الدولة العثمانية (1299- 1923)، وعلى الرغم من انتشار العديد من التيارات الصوفية خلال الفترة العثمانية، كالمولوية مثلًا، فإن المريدين آنذاك قد وثقوا بنورالدين الجراحي كأحد العارفين؛ حيث إن قصته مع التصوف يعتريها الكثير من الزهد والمصادفة والدراما.

للمزيد: العارف بالله.. قمة الهرم الصوفي

نورالدين الجراحي

ولد «الجراحي»، بإسطنبول عام 1678، لأب من سلالة الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب، وهو (سيد عبدالله بن محمد حسام الدين)، وأم من سلالة الصحابي أبوعبيدة بن الجراح، وكان يتأهب في 1696؛ للسفر إلى مصر (كانت حينها ولاية عثمانية) لتسلم مهام عمله كقاضٍ، ولكن أثناء وجوده على متن السفينة هبَّت عاصفة عاتية أجبرتهم على الاحتماء بأقرب شط.

وهناك وجد الرجل ضالته؛ حيث شهد الحضرة الصوفية، ثم اندفع ليتحول من زائر وشاهد عابر إلى راقص متعبد وسط صفوف الدراويش؛ ليسقط مغشيًّا عليه لفترة غير محددة، فاق بعدها وقرر أن يكتب للسلطان العثماني عن رفضه للوظيفة، ومن ثم خلع رداء الدنيا وارتدى لباس الدراويش واعتزل العالم للصيام والصلاة والعبادة.

وأخذ يؤسس للمنهج الجراحي الخاص به بعد معايشته للطريقة الخلوتية (يرجع تأسيسها إلى محمد بن أحمد بن محمد كريم الدين الخلوتي)، ولذلك يتجه البعض للقول بتقارب التيارين، أو باعتبارهم أصلًا نبت عنه فرع.

ويعد مرقد نورالدين الجراحي من أهم المزارات الصوفية بتركيا؛ حيث لا يقتصر ارتياده على المواطنين المحليين فقط بل تزوره أيضًا أفواج مُتعاقبة من مريديه من الجنسيات الأخرى.

حضرة بمركز إيطاليا

منهج متنوع

وتعتمد الطريقة الجراحية -كسائر الطرق الصوفية- على ممارسات عدة تميزها عن غيرها كتفاصيل، ولكن الظواهر واحدة، فعلى سبيل المثال تعقد الطريقة حلقات الذكر والحضرة الصوفية، وتتميز الحضرة خاصتها بامتدادها منذ غروب الشمس إلى منتصف الليل.

وفي تلك الأثناء يتعبد الدراويش بالصلاة جماعة وبعد الانتهاء يشكلون حلقات دائرية يذكرون فيها اسم الله، ويطلبون منه المدد، وبعدها تتم قراءة سور القرآن، وفي الغالب يختارون سورة «الملك» ويتابعون ذكر الله والصلاة على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-.

فيما تتميز الطريقة الجراحية بامتلاكها أناشيد ومقطوعات دعائية وابتهالات خاصة بها، وتوجد تلك الابتهالات على الموقع الرسمي للطريقة بصورة صوتية مع كتابة النوتة الموسيقية والكلمات الخاصة بكل ترنيمة، وذلك حتى يتحضر المريدون لحلقات الذكر، وتعتمد أكثر المقطوعات على ابتهال «لبيك اللهم لبيك» الذي يدعو به حجاج بيت الله الحرام.

علاوةً على ذلك، تتشارك الجراحية مع باقي الطرق في طلب التسامح والعفو والاتصال مع الله والزهد في ملاذات الدنيا؛ ما جعلها أكثر رسوخًا حتى في فترات حظر التصوف والتي أعقبت انهيار الدولة العثمانية.

نهار العيد في الولايات المتحدة

العمق الجراحي

ولدت الجراحية بإسطنبول، ولكن إنسانيتها المجردة وزهدها قد فتحا لها الباب للانتشار عالميًّا، وإلى جانب ذلك قام الشيخ التاسع عشر للطريقة «مظفر أوزاك» بترجمة كتب الصوفية وتوزيعها بالولايات المتحدة الأمريكية.

للمزيد: الصوفي مظفر أوزاك.. مئذنة المحبة وطريق الوصال

كما يعود إلى «أوزاك»، تأسيس أول مركز للطريقة بأمريكا، والذي اختار له نيويورك موقعًا؛ حيث أشار كتاب «The Cambridge Companion to American Islam»، والذي صاغه أوميد صافي، وجوليان هامر، إلى أن أوزاك قد استطاع بلغته وصوته العذب وخطبه الرنانة من نشر تلك الطريقة بالبلاد منذ السبعينيات.

ثم اختار لها التركي طوسون بايرك (1926- فبراير 2018) كقائد للتيار وللمراكز بالولايات المتحدة، إلى جانب إدارة شؤون المسجد الممثل للجراحية، والذي أسسه شيوخ الطريقة في نيويورك أيضًا بمنطقة وادي الربيع، ويعرف المسجد في الأوساط الأمريكية باسم مسجد الجراحية، وتقام فيه حلقات الذكر الصوفي وقراءة الأوراد الخاصة بالطريقة.

وإضافة إلى مركز نيويورك، يوجد أيضًا مواقع أخرى داخل البلاد في كلٍ من كاليفورنيا ولوس أنجلوس وغيرهما من الولايات الأمريكية، وتتسم تلك المراكز بتبني جداول أسبوعية للأنشطة والفعاليات التي ينتوي المريدون إقامتها كحلقات الذكر أو الأمسيات الشعرية والثقافية.

علاوة على ذلك، تشارك تلك المراكز -عن طريق المسجد الممثل للطريقة- في جمع التبرعات وإرسال الإعانات إلى المحتاجين في أفغانستان، وباكستان، وبنجلادش، وتركيا وفلسطين والعراق وسوريا والبوسنة وكوسوفو.

وتجدر الإشارة إلى أن الطريقة الجراحية تمتلك أيضًا عددًا من المراكز في دول أخرى خارج الولايات المتحدة، أهمها إيطاليا، وكندا، والأرجنتين وتشيلي، وأسبانيا، والبرازيل، واستراليا، وترتبط ببعضها البعض بشكل فكري واقتصادي.