الخطاب الداعشي.. استغلال أزمات الهوية والعَوز في استقطاب الشباب
أصبحت مهارة التنظيمات الإرهابية في تجنيد الشباب حول العالم، على اختلاف الخلفيات الثقافية والدينة والاجتماعية لهؤلاء الشباب الذين ينتمون إلى بقاع جغرافية متباعدة ومختلفة، بمثابة الهاجس الذي يطارد العديد من الدوائر الأمنية والسياسية في مختلف البلدان المستهدفة من هذه التنظيمات.
وعملت تلك التنظيمات على تنويع آلياتها في التجنيد طبقًا لاختلاف الفئة الموجهة إليها تلك العمليات، وكان أخطرها تنظيم «داعش»؛ إذ يستخدم خطاباته لأغراض عدة، مثل الدعاية والترويج لأفكار التنظيم والمبادئ التي يقوم عليها، والهدف الذي يسعى لتحقيقه؛ ولهذا يُعتبر الخطاب الداعشي خطابًا تواصليًّا لا يعتمد في المقام الأول على المهارات اللفظية فقط، بل تُستخدم فيه التكنولوجيا والأدوات التقنية لصياغة هذا الخطاب، الذي نجح في تجنيد بعض الشباب العربي والغربي.
وعلى الرغم من اختلافهم، فإنه نجح في صياغة خطابين يحتويان على العناصر التي يفتقدها الشباب في منطقة
الوطن العربي، سواء الوعود التي تتضمن مستوى عاليًا من الرفاهية، أو الحصول على
الاحتياجات التي عجز هؤلاء الشباب عن إشباعها داخل بلادهم.
وعلى مستوى الشباب
الغربي، اعتمد الخطاب المُوَجَّه لهم على العناصر التي يفتقدها الشباب الغربي من مشكلات الهوية والاندماج؛ حيث استطاع «داعش» بَلورة هوية جديدة وشَكَّلت من نفسها
مجتمعًا مندمجًا ومتعاونًا لهؤلاء الشباب.
واعتماد الخطاب الداعشي
على العناصر السابقة أفسح الطريق أمام ظاهرة الإرهاب، وجعل منها موجة عاتية تنمو
وتتطور بشكل سريع يفوق القدرة الأمنية والعسكرية للدول التي تستهدفها هذه الموجة؛ إذ فاقت في كثير من الأحيان حملات مكافحتها؛ وسببت الذعر للمدنيين، وهددت سيادات
الدول وأمنها ومصالحها على المستويين الداخلي والخارجي، كل هذه الأحداث تثير
تساؤلات عديدة أهمها كيف استطاعت التنظيمات الإرهابية جذب الشباب من بيئاتهم
مباشرةً دون مرورهم بمحطات لها علاقة بأنشطة هذه التنظيمات، مثل انتمائهم إلى الحركات
الإسلامية، أو الطوائف المتشددة، أو غيرها من المحطات التي من الممكن أن تكون مهمةً في تكوين توجهات معينة تدفعهم للانضمام إلى مثل هذه التنظيمات؟ وكيف وصل هؤلاء
الشباب لهذ المرحلة التي دفعتهم إلى الانضمام لهم؟
لماذا؟
يقول
«كروكاشنك»، أحد أبرز محللي شؤون الحركات الإرهابية، في محاولة لإعطاء إجابة
على التساؤل المطروح: لماذا ينضم الشباب إلى «داعش»؟ مجيبًا بأن انضمام الشباب
إلى «داعش» يعود إلى نجاح التنظيم في خلق صورة نمطية سهلة عملت على جذب
الشباب لها، في ظلِّ غفلة العديد من الدول، واندماجها في الصراعات والمشكلات الإقليمية
التى تواجهها، وعلى الجانب الآخر تمكن التنظيم من الترويج لنفسه وأفكاره وخلق صورة
في أذهان الشباب دفعتهم إلى الإعجاب والرغبة في الانضمام إلى كيان يمنحهم الهوية
والانتماء الذي يفتقدونه في مجتمعاتهم الأصلية، مقابل القيام بمجموعة من
المهام، وهذا ما أشار له «ماثيو أولسن» -مدير المركز القومي لمكافحة
الإرهاب في الولايات المتحدة- حيث أوضح أن الصورة النمطية التي يركز التنظيم على
الترويج لها تعتبر من أشد الأدوات تأثيرًا وجذبًا للشباب؛ لأنها نجحت في جعل
الشباب يتخلون عن حياتهم والسفر لمناطق تسفك فيها الدماء، ويُقتل فيها الناس دون أي
حق.
كما يستهدف الخطاب
الداعشي فئات وكوادر معينة تكون مؤهلة؛ على المستويين الإعلامي والعسكري؛ حيث أكد
محللوه أنه يمتلك إمكانيات تفوق إمكانيات الدول التي تكافحه، فيعمل على
نقل انتماءات الشباب له وإيمانهم بالأفكار والمبادئ التي يقوم عليها التنظيم،
من خلال تصوير بعض اللقطات لمجموعة من الشباب الغربيين وهم يقومون بحرق جوازات السفر الخاصة بهم في حالة من الفرح والابتسامة تعلو
وجوهم، فهذه الطريقة تجعل الكل يتساءل ماذا أعطى هذا التنظيم لهؤلاء الشباب؟
وما الذي وجدوه هناك، وجعلهم يتخلون عن هويتهم الأصلية؟
فيديو يوضح أساليب داعش الاستقطابية واستخدامها للأداة الإعلامية كأداة دعاية وترويج
لقد أظهر العديد من الخبراء حيرتهم أمام المقاطع التي تُنشر عبر حسابات التنظيم، وأهمها مقاطع حز الرءوس وسحل الأجساد والقتل، كيف تمكنت هذه المقاطع التي تبث أعمال تروع الناس، وتنشر الذعر، وتهدد حقوق الإنسان من الاستحواذ على إعجاب الشباب بشكل عام، والشباب الغربي بشكل خاص، فتبيّن لهم من خلال تحليل هذا الموضوع أن هذه أيضًا وسيلة دعائية لجذب الشباب الغربي، وتحديدًا بسبب رغبته في بناء شخصية قتالية ومستقلة، ومن خلال هذه المقاطع فإن التنظيم يؤكد لهم أنه سيوفر لهم المناخ المساعد على وصولهم لمبتغاهم، ليس هذا فقط، بل يعمد من خلالها التنظيم إلى إرهاب أعدائه، والظهور بشكل قوي يجبرهم على التفاوض أو الإذعان لمطالبه.
كما يرى الباحث «ماثيو جودير» في إحدى دراساته على مجموعة من الشباب الفرنسيين المتعاطفين والمنضمين إلى تنظيم «داعش»، أنهم من المثاليين المحبطين، أو من الثوار المعارضين للفكر الرأسمالي الذي تتبعه الحكومات الغربية، كما أنهم من المهاجرين من الجيلين الثاني والثالث الذين ولدوا وعاشوا في الغرب، ولكنهم أمام مشكلات الهوية والاندماج التي واجهتهم في بلدانهم، وعجزوا عن حلها، وأمام الأساليب التي يتبعها التنظيم وجدوا أنفسهم متعاطفين معه أو منضمين، وأكد «جودير» أن القدرة الإعلامية والدعائية للتنظيم، سواء من خلال مواقع التواصل الاجتماعي أو الإعلام المرئي والمقروء، ما هي إلا نتاج محاولة التنظيم الاستفادة من الخبرات السابقة للجماعات الإرهابية المسلحة.
اتجه التنظيم إلى الأساليب الوحشية نفسها للتنظيمات الإرهابية الغربية من سفك للدماء، والجرأة، وعدم الخوف، وتشابه أسلوبه مع العديد من التنظيمات مثل؛ «الألوية الحمراء» (جماعة إرهابية نشطت في ألمانيا الغربية)، كما أن الخطاب الداعشي الموجه للشباب الغربي اعتمد على معاداة الرأسمالية الغربية ونسب كل المشكلات التي يعاني منها هؤلاء الشباب لها، وإظهارها بشكل سلبي تمامًا في خطاباته بكل اللغات الأجنبية، كما أوضح «توماس هيفاهمر» -الباحث النرويجي- في محاولة منه لدراسة الإرهاب في المشرق ومقارنته بنظيره في الغرب، كما أن هناك العديد من التقارير التي تشير إلي أن جزءًا كبيرًا من مقاتلي «داعش» الذين لا ينتمون إلى أصول عربية أو إسلامية، هم في أغلب الأحيان من المتحولين عن الديانة المسيحية، وهم نسبة ليست بالقليلة، كما أن فرنسا تعتبر الأكثر تصديرًا للمقاتلين في أوروبا.
كما أن التنظيم يضم متحولين على مستوى الاهتمامات، مثل الممثلين والمغنيين وغيرهم، إضافة إلى انضمام شخصيات ناجحة وظيفيًّا على المستوى الإعلامي، وتعتبر شبكات التواصل الاجتماعي، ملعب التنظيم الأول؛ حيث يتم بث العديد من المقاطع والأغاني الموجهة لفئات معينة وبلغات متعددة.
فيديو يعرض تجربة انضمام
مغني راب تونسي اسمه ايمينيو وانضمامه إلى داعش
أما عن الخطاب الداعشي الذي يستهدف الشباب العربي، فيعتمد على تأويل النصوص الدينية ومن ذلك ما نشره في مجلته «دار الإسلام» -الناطقة بالفرنسية- ، في مقال بعنوان (إحياء الرق قبل قيام الساعة) : «أن السبي هو أمر راسخ في الشريعة الإسلامية، ومن يحاول تكذيبه أو نفيه فهو مرتد عن الإسلام، ومستهزئ بالدين الإسلامي»، وفي مقال آخر بعنوان (شريعة الله أم شريعة البشر) زعم التنظيم أنه يحكم حكمًا إسلاميًّا صحيحًا، ويؤكد أن هذا الحكم الإسلامي لا ينبغي على أي مسلم أن يعارضه، أو يشك فيه.
والخطاب الاستقطابي لــ«داعش» والموجه لتجنيد الشباب العربي، هو خطاب تحفيزي يُثير الغرائز؛ لما فيه من تبريرات دينية وحجج قد تبدو منطقية، كما أنهم يدعمون مواقفهم ومبادئهم بمواقف لا يغفل عنها أي عربي؛ سواء أكانت سياسات الدول العربية نفسها أم سياسات الدول الكبرى داخل منطقة الوطن العربي؛ مثل الولايات المتحدة والسياسات الغربية -والأذى التي تسببت فيه هذه السياسات من إلحاق الضرر بالمدنيين وسيطرتها على السيادات الخاصة ببعض الدول في المنطقة العربية، مستغلة شعور الشباب العربي بالغضب والرغبة في الانتقام؛ من أجل تحسين الوضع.
ويُعتبر الخطاب
الداعشي خطابًا تكفيريًّا من الدرجة الأولي؛ حيث إنه يقوم على عنصر
«المظلومية»، كما أوضح تحليل نُشر في -مركز الأهرام للدراسات السياسية
والاستراتيجية- سواء أكانت مظلومية سياسية أم دينية، معتمدًا على آلية النص
الديني المقدس بتأويل يخدم مصالح وأهداف التنظيم، ويبرر عملياته، محاولًا صياغة
خطاب يشجع الانضمام إلى صفوفه.
ومثلما يفعل الخطاب الداعشي مع الشباب الغربي؛ إذ أوحي لهم بأن التنظيم سيوفر لهم البيئة المناسبة، وسيقضي على كل المشكلات التي تواجههم سواء مشكلات متعلقة بالهوية أو الانتماء أو غيرها من المشكلات، فقد لعب الخطاب الداعشي المُوَجّه للشباب العربي على الوتر نفسه؛ حيث اعتمد على إغرائهم بما يفقتقدون وجوده أو ما لا يستطيعون تحقيقه في بلادهم؛ حيث إن المشكلات التي تواجههم، والتي تشكل جزءًا مهمًّا لالتحاقهم بالتنظيم، هي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها معظم شباب الوطن العربي؛ حيث يعمد التنظيم إلى توفير مرتبات كبيرة؛ لتوفير وضع اقتصادي جيد لهؤلاء الشباب، كما أنه يعمل على تزويجهم ومنحهم فرص عمل جيدة بداخله، وتعويضهم عن حالة الفقر والعوز التي عانوا منها داخل بلادهم، ولم يكتفِ التنظيم بتجنيد الشباب، بل إنه دعا النساء أيضًا للانضمام إلى صفوفه، مستغلًّا في ذلك فكرة دور المرأة في دولة الخلافة الإسلامية، التي يزعم التنظيم أنه وجد من أجل إحيائها.
فيديو يعرض كيف يجند داعش
النساء على لسان إحدى المنشقات عن التنظيم
الآليات الاستقطابية لتنظيم داعش
استخدم التنظيم
استراتيجيات تعمد إلى حشد الشباب من كل مكان وبكل اللغات، بداية من الخطابات
الدينية أو التحفيزية؛ سواء بشكل سري أو علني، وصولًا لتسخير شبكة إنترنت وإصدار
المجلات التابعة للتنظيم، والتي توزع في أماكن سيطرته، وأهمها مجلة «دابق» التي
تصدر باللغتين «العربية والإنجليزية»، فضلًا عن وجود نسخة إلكترونية لها
بنحو 12 لغة.
ولم يكتفِ التنظيم بهذه
الأدوات، بل قام بإنشاء استديوهات لتسجيل الأناشيد الدينية والتحفيزية، وأهمها ستديو
(أجناد) والعديد من القنوات مثل؛ (الحياة والاعتصام والفرقان)، إضافة إلى إذاعة
«البيان»، وغيرها من الآليات التي اعتمد عليها التنظيم في الترويج
لأفكاره، واعتمد التنظيم أيضًا على وسائل التواصل الاجتماعي بشكل كبير؛ (فيس
بوك وتويتر) كأداتين من أدوات التنظيم؛ للترويج لأفكاره، وتجنيد الشباب من مختلف
الثقافات والجنسيات.
وبشكل عام
يمكن القول: إن «داعش» استخدم في تجنيده للشباب الغربي خطابًا تواصليًّا يعتمد
على مزاعم معادة الغرب للإنسانية، ومهاجمة الرأسمالية المتوحشة، مرتكزًا على مشكلات الجيلين الثاني والثالث من الشباب الذين يشعرون بمشكلات الهوية والاندماج،
سواء كانوا من أصول عربية أو إسلامية أو غير ذلك، كما اعتمد الخطاب الموجه
للشباب العربي على مزاعم الخلافة الضائعة، مرتكزًا على توفير حلول للمشكلات
الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه هؤلاء الشباب.





