التأثيرات المستقبلية للقبض على هشام العشماوي في قدرات القاعدة القتالية
تأسس تيار الإسلام السياسي والحركي على قاعدة العداء لمشروعات ونظم الحكم القائمة في الشرق أو الغرب، سواء المستفادة من التجربة الليبرالية أو الاشتراكية، ولم تشهد مرحلة ما توافقًا مع ما هو قائم من أفكار ومناهج حكم، أو محاولة للتوفيق والتواصل(1).
عبرت كلمات لسيد قطب في كتابه السري «خيوط خطة»، عن مفاصلة هذا التيار لما هو قائم ومتعارف عليه ثقافيًّا ودينيًّا واجتماعيًّا أدق تعبير، وفيه يقول: «جماعتنا ليست قطاعًا من الشعب، ولا قطاعًا من المجتمع العربي أو العالمي، وليست من رعايا الحكومة المحلية، إنها كينونة جديدة تنشأ منفصلة عن هذه التشكيلات الوطنية والقومية والعالمية؛ ومن ثم، فمعنى بيعة الإخوان للمرشد هو أننا نقيم لنا قيادة غير قيادة الشعب، وإمارة غير إمارته، وأننا نخلع طاعتنا وولاءنا لمحكومية هذا الشعب لنسلمها إلى أميرنا»(2).
لكي يتحقق هذا التغيير الضخم المتمثل في نزع السلطة من الدولة وأجهزتها ومؤسساتها وتسليمها للجماعة بما تخلقه من بدائل في كل المجالات وعلى مختلف المستويات، يلزم وجود قوة مادية، مهمتها أولًا حماية الحركة الناشئة خلال أطوار نموها، وقادرة ثانيًا، حين تكتمل الحركة عتادًا وعدة وقوة عسكرية، على القيام بالمهمة الكبرى وإحراز الهدف المرتقب(3).
يعتبر منظرو الإسلام السياسي والحركي مهمة التغيير شاقة ومعقدة، لأن «الكيانات القائمة في العالم الإسلامي والقابضة على الزمام تعمق بمرور الوقت لونها العقائدي المناهض للإسلام والمرتبط بأعدائه»، ومن ثم فلا حل ولا توصل لهدف التغيير الإسلامي وفق رؤيتهم «بدون صياغة جيل مجاهد وإقامة تنظيم جهادي»(4).
من هذا المنطلق، ظلَّت الوسيلة المفضلة لهذا التيار في تجلياته الحركية على مختلف المراحل هي السعي لاختراق جيش الدولة، واستقطاب البعض من عناصره، بغرض توظيف خبراتهم وإمكانياتهم والأسرار العسكرية التي أطلعوا عليها في أثناء سابق خدمتهم، ضمن محاولات خلخلة القوة العسكرية القائمة، ومسعى تشكيل كيانات عسكرية موازية تدعم تلك الجماعات في مناهضتها للدول طمعًا في السيطرة النهائية على السلطة.
الجيش كهدف استراتيجي للجماعات
خططت جماعة الإخوان للتغيير الكبير من خلال التغلغل في الجيش، وحدث أن أنهى الرئيس عبدالناصر أي حضور لجماعة الإخوان بالجيش، ذلك الذي سمحت به ظروف المرحلة والتحضير للثورة، عندما فكك تشكيلات الجماعة داخل القوات المسلحة والشرطة في منتصف الخمسينيات.
كانت البداية عندما رفضت قيادات جماعة الإخوان ما عُرِف باتفاق البندين الذي عرضه عليهم الرئيس عبدالناصر، عن طريق القيادي بالجماعة محمد فرغلي، ويقضي بإقرار الإخوان بشرعية ثورة يوليو 1952م، مقابل إطلاق نشاط الجماعة في الدعوة والتربية وعدم التدخل في الشأن السياسي لمدة 5 سنوات.
اختفاء قيادات الجماعة في ذلك الحين وعدم مجيء فرغلي بالرد أوعز للقيادة السياسية بأن هناك تدبيرًا يُعد في الخفاء، وهو ما دفع الرئيس عبدالناصر؛ لتكثيف البحث للوقوف على حقائق ما يجري، الأمر الذي أوصل لاكتشاف تشكيلات موالية لجماعة الإخوان داخل الجيش في أكتوبر عام 1954م، تلك التي فككها «ناصر» قبل أن تمضي قدمًا في مخطط القيام بحركة عسكرية مضادة(5).
جاءت المحاولة الثانية لاختراق الجيش من قِبَل تيار الإسلام الحركي كردِّ فعل على تفكيك التنظيم السري للإخوان الذي قاد محاولة لقلب نظام الحكم عبر اغتيال قادة عسكريين وسياسيين والقيام بتفجيرات موسعة في منتصف الستينيات من القرن الماضي بقيادة سيد قطب، فقد تشكلت مجموعة تطلب الثأر وتسعى للتغيير الفوقي عبر انقلاب عسكري.
تمكن أحد أفراد المجموعة وهو علوي مصطفى من تجنيد عدد من ضباط الجيش، ومن بينهم عصام القمري وعبدالعزيز الجمل وسيد موسى، ومع انضمام هذه المجموعة من الضباط للجماعة جرى الاختراق الثاني للجيش في العام 1966م، قبل أن تجهضه الأجهزة المصرية بالقبض على القمري ومجموعته(6).
وهو ما دفع تنظيم الجهاد لتعويض تلك الضربة بالتحالف مع الجماعة الإسلامية، مرورًا بأحداث عام 1981م، التي أثمرت النجاح الأهم لهذا التيار في سياق محاولات الاختراق عبر اغتيال الرئيس السادات بجهود مجموعة يقودها ضابط المدرعات خالد الإسلامبولي وبتعاون مع مقدم بالمخابرات الحربية تم تجنيده عن طريق ابن عمه وهو عبود الزمر.
تطوير أداء الإرهابيين القتالي
ظلَّ أداء العسكريين السابقين ممن انضموا للتنظيمات الإرهابية جامدًا عند هذا التصور الذي يُعدُّ أقرب إلى الأمنيات منه إلى التكتيك الواقعي، والذي يدور حول فكرة تجنيد بعض الضباط والزج بهم في خطط حماسية، تتوهم إمكانية إحداث تغيير ما عبر استهداف رأس الدولة وقادة مؤسساتها استنادًا لهذا الاستقطاب المحدود، وهو ما تم تتويجه بفشل الضابط الفلسطيني صالح سرية عبر استقطابه لبعض طلبة الكليات العسكرية، عندما تم إجهاض عملية الفنية العسكرية في العام 1974م.
لم يرقَ هذا النشاط لمستوى إحداث تغيير كان قد راهن عليه غالبية منظري الإسلام الحركي منذ نشأته، وهذا يرجع لأنه ظلَّ محدودًا في نطاق النجاح في تجنيد عدد قليل جدًّا من الضباط للاستفادة بخبراتهم العسكرية، أو لتوظيفهم للقيام بعمليات في أثناء خدمتهم، كما حدث في عملية اغتيال الرئيس السادات، وهو النهج الذي لم يؤثر سلبًا في المؤسسة العسكرية بإضعافها أو باستنزافها بشريًّا، علاوة على أنه لم ينجح في تأسيس كيان عسكري مناهض لمؤسسات الدولة القائمة، إلى جانب فشله لأسباب كثيرة في تحقيق الانقلاب الفوقي عبر اغتيال رأس الدولة، ومن ثم الانطلاق في مسار ثورة إسلامية شاملة.
جاء تطوير هذا النوع من النشاط لتيار الإسلام الحركي عبر رائدين سابقين بسلاح الصاعقة المصرية وهما؛ عبدالعزيز الجمل الذي أسهم في تطوير أداء فرع القاعدة بسوريا «جبهة النصرة- هيئة تحرير الشام»، بالتعاون مع أحمد سلامة مبروك أحد مؤسسي تنظيم الجهاد بمصر، علاوة على الإشراف على عمل المجموعات التابعة للقاعدة بمصر(7).
ثم هشام عشماوي الذي وجد في بعض الإجراءات الإدارية حياله إهانة لكبريائه، فلجأ لاعتناق الأفكار التكفيرية والتي ترجمها لاحقًا لإرهاب مسلح ضد الجيش سبيلًا للثأر لنفسه، وكلاهما «الجمل، وعشماوي» كان لهما دور ملحوظ في تطوير أداء القاعدة العسكري والقتالي، مستفيدين من المتغيرات التي خلقت ساحات خارجية للصراع، مكنتهما من إظهار قدرات وإحراز مكانة لم تتح لسابقيهم، بالمقارنة بين مستوى وعدد ونوعية العمليات التي نفذت في بدايات ظهور هذا النوع من الإرهابيين، ومستوى ونوعية ما تم تنفيذه خلال السنوات القليلة الماضية.
فقد أشرف كلاهما على معسكرات تدريب للقاعدة تباعًا في أفغانستان وسوريا وسيناء وليبيا، وتخرج على أيديهما أعداد ممن تم تدريبهم على الأعمال القتالية وإعداد المتفجرات والاغتيالات والقنص والاشتراك في هجمات مباغتة على دوريات وكمائن عسكرية ثابتة ومتحركة، اعتمادًا على الخبرات والمهارات القتالية والميدانية التي اكتسباها من فترة دراستهما بالكلية الحربية المصرية.
هناك متغير حيوي سمح بتطوير أداء العسكريين السابقين المنضوين داخل التنظيمات الإرهابية من مجرد هوس التخلص المتعجل من رأس الدولة دون امتلاك أي تصور لما يمكن فعله عقب ذلك، إلى حضور تصورات وخطط وامتدادات خارجية ومعسكرات تدريب ومساحات تمركز على الأرض تنطلق منها ما يُشبه حرب العصابات الاستنزافية ضد مؤسسات وأجهزة الدولة العسكرية والشرطية.
مرد ذلك يعود إلى أنه كانت هناك بالماضي دول قائمة بكامل مؤسساتها وجاهزيتها للدفاع عن نفسها، فاقتصرت التصورات لدى العسكريين المتمردين على العيش في وهم التغيير الأقرب للأمنيات والأحلام بإزاحة رأس القيادة السياسية باغتياله، الأمر الذي حدث في العام 1974م عبر عملية الفنية العسكرية، وتكرر ونجح جزئيًا في أكتوبر من العام 1981م.
ودلالة ذلك أنه لم تنفذ جماعة الجهاد المصرية التي تزعمها أيمن الظواهري وانضوى تحت لوائها 12 عسكريًّا سابقًا -كان من بينهم عبدالعزيز الجمل نفسه- سوى عمليتين فقط داخل مصر ضد رموز الدولة، فاستهدفت في العام 1993م رئيس الوزراء عاطف صدقي، ووزير الداخلية اللواء حسن الألفي(8).
وعلى الرغم من رمزية اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات، فإن عملية الاغتيال كانت بمثابة الحدث الاستثنائي، والذي عدَّه هذا التيار إنجازًا تاريخيًّا بالنسبة له، على الرغم من أن الأوضاع السياسية والأمنية والحالة العربية والمحلية وتعاون جماعة الإخوان وغيرها هو ما هيأ لنجاح عملية اعتبرها البعض «فلتة»(9) لا تتكرر إلا نادرًا، بالرغم من اشتراك عسكريين متمرسين أصابهم الانحراف الفكري في التخطيط لها وتنفيذها.
الجديد الذي واكب نجاحات عبدالعزيز الجمل في سوريا وهشام العشماوي في ليبيا هو المشهد الفوضوي، وانهيار مؤسسات الدول، وتفكك الجيوش، أو على أقل تقدير ضعفها –كما في الحالة السورية- مع وجود فراغ أمني يسمح بتمدد وتمركز التنظيمات الإسلاموية الإرهابية وإقامة معسكرات تدريب.
هنا يظهر الفارق بين أداء عسكريين عمدوا لاستثمار الفوضى وتعزيز حالة اللادولة واللامؤسسات بهدف السيطرة على السلطة، عندما لا يجد رأسها ما يسنده ويحميه، وآخرين قديمًا وإن نجحوا في إزاحة رأس الحكم عبر عملية «فلتة»، لكن سرعان ما يصطدمون بالعوائق الصلبة التي تحطمت عليها جميع الخطط المشابهة، من مؤسسات قائمة وأجهزة لاتزال بعافيتها، وشعب قد تكون لدى قطاعات منه بعض الانتقادات للحكومات لكن لديه ثقافة الدولة والانتماء الوطني.
على ضوء هذا التطور، صرنا إزاء تنظيمات إرهابية تتحدى الدولة(10) وتشنّ عمليات نوعية كبرى مثل الهجوم على كمين كرم القواديس بالعريش في أكتوبر 2014م، وقوات الدعم التي حاولت نجدة الكمين، والتي أسفرت عن مقتل 30 من عناصر الجيش والشرطة، وإصابة العشرات في مقدمتهم قائد الجيش الثاني اللواء خالد توفيق، والاستيلاء على أسلحة أفراد الكمين بالكامل، علاوة على عملية كمين الفرافرة في العام 2014م والتي استشهد فيها 22 مجندًا وضابطًا بالقوات المسلحة، والعديد من التفجيرات التي استهدفت قوات الجيش وتمركزاته بالعريش ورفح أشهرها الكتيبة101 في شهر فبراير 2015م.
امتلكت هذه التنظيمات أيضًا، بفضل أساليب تفكير هؤلاء «العسكريين الخائنين»، خطط وقدرات تطوير هجماتها عبر استهداف مراكز السيطرة والقيادة، وهو ما تمت ترجمته في عمليات تفجير مديريات الأمن(11) ومقرات المخابرات الحربية ومعسكرات قوات الأمن والأمن المركزي، علاوة على استهداف الشخصيات المؤثرة في الأجهزة الأمنية(12).
نموذج «داعش» المُلهِم
أغرى نجاح عسكريين سابقين بالجيش العراقي في السيطرة على مساحات واسعة من الأرض، وإعلان قيام «دولة إسلامية» بعض المصريين من الخلفية نفسها في استنساخ التجربة، مستفيدين من تطوير أبوبكر البغدادي بإسهامات رئيسية من حجي بكر الضابط السابق بالجيش العراقي للهيكلية التي وضعها سابقًا أبوعمر البغدادي للتنظيم، عبر المزج بين إسلامويين لديهم خبرات تنظيمية سابقة وقادة عسكريين سابقين لينشأ من هذا الخليط الهجين أسلوب عمل يجمع بين مناهج الجيوش النظامية وأساليب التنظيمات السرية المسلحة(13).
تصور «العشماوي» أنه قادر على خلق حالة من التماسك التنظيمي عبر ضبط هيكلي مصغر ومشابه لنموذج «داعش» في العراق، ورأى أن المزاوجة بين الفكر الاستراتيجي والخبرة العسكرية مع الزعامة الدينية الممثلة في حجي بكر عقيد العمليات الخاصة السابق بالجيش العراقي وأبوبكر البغدادي كمرشد ديني، يمكن صياغتها في قيادته التي تجسد البُعد العسكري بجانب عمر رفاعي سرور الذي يُمثل الغطاء الشرعي والفقهي.
اجتذب هذا الخليط أعدادًا من الهاربين عقب فض اعتصام رابعة العدوية الخاص بجماعة الإخوان في العام 2013م، عبر جهود جماعة «حازمون» (المنسوبة للقيادي القطبي حازم صلاح أبو إسماعيل) وأبناء المنظر القطبي رفاعي سرور بالتعاون مع فصائل أخرى، علاوة على اجتذاب البعض من الضباط المفصولين من المنحرفين فكريًّا عبر جهود العشماوي، وكان على رأسهم عماد عبدالحميد ويوسف سليمان محمد.
تمكن تنظيم داعش، والذي صار رموزه العسكريون هم أقوى دعائمه أمثال العقيد سمير بن حمد الخلفاوي والعميد عدنان إسماعيل الببلاوي، «واضع خطة الاستيلاء على الموصل» والعقيد عدنان نجم والعقيد فاضل العفري والعقيد مهند لطيف والمقدم ميسرا الجبوري وغيرهم، من السيطرة على مشهد الفوضى السياسي والأمني بالعراق، ومن ثم التمدد وإحكام السيطرة على مساحات واسعة من العراق وسوريا(14).
فيمَ تعثر هشام عشماوي في سيناء وقت شراكته مع فرع تنظيم القاعدة هناك، بالنظر لتطوير الجيش المصري لعملياته ومستويات حضوره وتوسيعه لنطاق الحرب على الإرهاب تدريجيًّا، الأمر الذي دفعه لاستنساخ فكرة حجي بكر، التي تُمكن عبر تنفيذها من امتلاك القوة في المشهد العراقي عقب مرحلة من التعثر والضعف، وذلك بالانتقال إلى سوريا، واستغلال الفوضى والمتناقضات في المشهد السوري لتأسيس كيان جديد قوي تحت إمرة قيادة عراقية، ومن ثم العودة بقوة ونفوذ أكبر إلى العراق(15).
استنسخ عشماوي استراتيجية حجي بكر، الذي تمكن من بناء التنظيم، انطلاقًا من المشهد السوري بداية من جهود خلية سرية صغيرة انتقلت تحت قيادته إلى سوريا في العام 2010م، ولذا فكر عشماوي في الانتقال إلى ليبيا؛ لتوظيف السيولة والفراغ الأمني هناك لصالحه لاكتساب القوة والنفوذ والتمدد في الداخل الليبي، ومن ثم الانتقال والعودة لتهديد العمق المصري، متخيلًا أنه عندما يرجع من ليبيا أكثر قوة سيصبح بمقدوره اجتياح المدن الحدودية الغربية والشرقية، غانمًا أسلحة الوحدات المصرية المتمركزة هناك، مستوحيًا عودة داعش القوية إلى العراق عقب اكتساب النفوذ والقوة في سوريا.
تكتيك «العشماوي» القتالي
أسهم التحاق عسكريين متمرسين «غير وطنيين ومنحرفي الفكر» بالتنظيمات التكفيرية المسلحة، والذي توج بانضمام هشام عشماوي رائد سلاح الصاعقة المفصول، في صياغة منهج قتالي مختلف داخل التنظيمات الراديكالية المسلحة، عبر الدمج بين أساليب ومهارات وتكتيكات العسكريين السابقين مع أساليب الجماعات التقليدية، منتجًا حالة أقرب ما تكون للجيوش الصغيرة(16)، وهو ما عدَّ تطويرًا ملحوظًا لحرب العصابات التي تخوضها تلك التنظيمات ضد الجيوش والأجهزة الأمنية.
استفاد العشماوي في عملياته بمصر وليبيا من تكتيكات «داعش» والمقاتلين الشيشانيين، وعادة ما كان يحرك قوة مهاجمة مزودة بالقواذف الصاروخية والرشاشات الثقيلة ومدافع الهاون بخطة هجوم مسبقة إلى أقرب نقطة من خط الاشتباك، وفي وقت واحد يستخدم المهاجمون قذائف الهاون وال «آر بي جي»، ويمطرون القوات المتمركزة بنيران كثيفة بالتزامن مع فتح قوات الإسناد كل الآليات النارية البعيدة مثل مدافع الميدان وغيرها على المواقع الخلفية؛ لمنع الدعم والمؤازرة، فيمَ يصطاد القناصة المدافعين أثناء فورة الهجوم، وهو ما يفسر غزارة القوة النارية التي اتبعها العشماوي في عملياته النوعية ضد تمركزات الجيش(17).
وفي حال الهجوم من مسافات بعيدة مكشوفة كانت تستخدم سيارات وشاحنات مفخخة مع إرسال انغماسيين بأحزمة ناسفة لإحداث نوع من الصدمة والمفاجأة، وكمقدمة لهجوم لاحق واشتباك بالأسلحة والرشاشات المتوسطة والثقيلة(18).
خلاصة
الكيانات والتنظيمات الإسلاموية تعتقد أن مهمتها هي «القضاء على منابع الشر والعدوان، وقطع دابر الجور والفساد في الأرض، والاستغلال الممقوت، وكبح جماح الآلهة الكاذبة الذين تكبروا في أرض الله بغير حق، وجعلوا أنفسهم أربابًا، واستئصال شأفة ألوهيتهم، وإقامة النظام الإسلامي العادل»(19).
لا يمكن تصور تحقق أهداف بهذا المستوى بمجرد الوعظ والدعوة بالمساجد، بل يلزمها امتلاك ناصية الأمر، والقبض على زمام الحكم بعد انتزاعه بالقوة من «الطغاة المفسدين؛ عبر تشكيل جبهة إسلامية مسلحة مدربة»، وهو ما يدفعها دائمًا لإضعاف وتفكيك جيش الدولة واستنزافه، مقابل تشكيل قوتها العسكرية البديلة.
العسكريون السابقون ممن أصيبوا بانحراف فكري وخلل في ولائهم الوطني هم كلمة السر في تطوير أداء التنظيمات المتطرفة والتكفيرية الميداني والقتالي في العراق وسوريا وليبيا ومصر، مستفيدين من طبيعة المرحلة والضعف الطارئ الذي أصاب المؤسسات العسكرية والأمنية العربية عقب انتفاضات ما عُرف بالربيع العربي.
طور تنظيم القاعدة عبر عسكرييه السابقين نهجه القتالي من حرب عصابات، وصولًا إلى محاولات أولية من مواجهات الحرب النظامية، في محاولة لتجاوز مرحلة مجرد الإرباك إلى مستويات الإنهاك والاستنزاف للجيوش والأجهزة الأمنية المستهدفة، وتمكن من تشكيل جيوش صغيرة متنقلة عابرة للحدود.
طمع القاعدة عبر البعض من العسكريين المتمردين، وفي مقدمتهم ضابط العمليات الخاصة المصرية المفصول هشام العشماوي في التوصل لإنجاز ما أنجزه عسكريو داعش في العراق، عندما أسهموا بجهد تكتيكي رئيسي في السيطرة على مساحة أرض بين العراق وسوريا توازي مساحة بريطانيا.
دعمت الدولة المصرية ليبيا بكل أشكال الدعم لتجاوز مرحلة الفراغ الأمني والفوضى التي مكنت التنظيمات المسلحة من التمركز على مساحات واسعة من الأرض، ومن احتلال مدن استراتيجية في العمق الليبي، وهو ما أسهم بشكل كبير في إعاقة وإجهاض تكتيك الدعم الممتد عبر الحدود المصرية الليبية لهذه التنظيمات.
الاستراتيجية التي انتهجها الجيش المصري في مكافحة الإرهاب، والمتمثلة في خوض حرب مباشرة على الأرض في مواجهة تلك التنظيمات التي تحولت فعليًّا إلى جيوش صغيرة تمتلك خططًا وعتاد وتسليح الجيوش؛ أدت لحرمان هذه التنظيمات من مساحات تمركزها ومعسكرات تدريبها ومخابئها، وهو ما طبقه الجيش الليبي في مسار تحريره لمدن بنغازي ودرنة.
ضرب تمركزات وجيوش الإرهابيين الصغيرة والمتنقلة على الأرض في سيناء وعلى الحدود الغربية وفي العمق الليبي، أفشل مخطط العشماوي ومعاونيه وحرمهم من الإبقاء على نشاطهم العسكري ككيان مُتَّحدٍ داخل نطاق مُسيطَر عليه، الأمر الذي نزع من قواته الفعالية على الأرض بعد تشتتها داخل نطاق جغرافي واسع.
وتمكن الجيشان المصري والليبي من حرمان التنظيمات الإرهابية من مساحات تمركزها، ومن اختراق منظومة الاتصالات الخارجية والداخلية؛ ما أفقد قادتها السيطرة وعزل مجموعاتها إحداها عن الأخرى وقطع عنها الإمداد والدعم، كما حرمهم من إعداد مراكز سيطرة وقيادة بديلة، وهو ما أدى لانكشاف قيادات التنظيم وصولًا للقبض على أهمهم وأخطرهم.
لا تنبغي الثقة في تنظيمات خارج شرعية ومظلة الدولة الوطنية، ولا تصح الاستهانة بالفراغ الأمني ومظاهر الفوضى وانعدام السيطرة الأمنية التي تجيد تلك التنظيمات توظيفها، وتسعى بالتوازي مع مواصلة ضرب القوة الصلبة للدولة ممثلة في أجهزتها الأمنية ومؤسستها العسكرية لإقامة دولة بديلة بمنهج حكم بديل وبقوة عسكرية بديلة.
يؤشر تحرير المدن وكامل الأرض من هذه التنظيمات والقضاء أو القبض على العسكريين السابقين ذوي الخبرات العسكرية الخاصة لمرحلة أفول وانحسار لممارسات تلك التنظيمات، ويشي بتراجع قدراتها على تنفيذ عمليات نوعية ضد الجيش والأجهزة الأمنية ورموز الدولة مجددًا.
المراجع:
[1] سيد قطب- معركة الإسلام والرأسمالية، ط 13- دار الشروق 1993م- صفحة 93-112.
[2] رفعت السعيد وعادل حسين- مواجهة حول الاعتدال والتطرف في الإسلام- صفحة 23.
[3] أحمد عادل كمال نائب رئيس الجهاز الخاص للإخوان- النقط فوق الحروف- صفحة 78.
[4] فتحي يكن- أبجديات التصور الحركي للعمل الإسلامي- مؤسسة الرسالة- صفحة 87.
[5] سليمان الحكيم- أسرار العلاقة بين عبدالناصر والإخوان- صفحة 38.
[6] موقع إيلاف- 11 سبتمبر 2003م- حوار مع أيمن الظواهري زعيم القاعدة لاحقًا.
[7] ماهر فرغلي- ضابط مصري سابق أخرجه مرسي من السجن.. يقود جبهة النصرة بسوريا- البوابة نيوز- 18 أغسطس 2015م.
[8] محمد مورو- تنظيم الجهاد.. أفكاره، جذوره، سياسته- صفحة 68.
[9] فؤاد زكريا- الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية المعاصرة- صفحة 92.
[10] جماعة أنصار بيت المقدس- غزوة الثأر لمسلمي مصر- 26 أكتوبر 2013م.
[11] جماعة أنصار بيت المقدس- إعلان مسؤوليتنا عن استهداف مديرية أمن القاهرة وعدة دوريات أمنية بالقاهرة الكبرى- 24 يناير 2014م.
[12] جماعة أنصار بيت المقدس- بيان مسؤوليتنا عن اغتيال ضابط الأمن الوطني محمد مبروك- 19 نوفمبر 2013م.
[13] رفعت سيد أحمد- داعش خلافة الدم والنار-صفحة 44-46.
[14] هيثم المناع- خلافة داعش من هجرات الوهم إلى بحيرات الدم- صفحة 23.
[15] هشام النجار- هشام العشماوي.. مهندس الإرهاب والمطلوب رقم واحد في مصر- العرب اللندنية- 30 يوليو 2017م.
[16] شرح أبومصعب السوري لكتاب حرب المستضعفين لروبرت تابر- صفحة 178.
[17] عبدالله بن محمد- استراتيجية المعركة الإقليمية على أرض الشام- صفحة 57.
[18] عبدالله بن محمد- المذكرة الاستراتيجية- صفحة 17.
[19] أبوالأعلى المودودي- الجهاد في سبيل الله- صفحة 11.





