أدوار استخبارات إندونيسيا في مكافحة الإرهاب بجنوب شرق آسيا
الجمعة 05/أكتوبر/2018 - 11:18 م
هشام النجار
اشتركتُ على مدى أربع سنوات )2012 – 2016(، في رحلات متعاقبة ضمن برنامج الهيئة الوطنية لمكافحة الإرهاب بإندونيسيا؛ لمحاورة أعضاء الجماعات المتطرفة وتأهيلهم فكريًّا، بجانب مجموعة من المفكرين والمتخصصين من الشرق الأوسط، في مقدمتهم ناجح إبراهيم، القيادي المؤسس للجماعة الإسلامية المصرية، وواضع منهج مراجعاتها الفكرية.
وتَشَكَّل لديَّ انطباعٌ في أثناء فعاليات التجربة متعلق بأداء الاستخبارات الإندونيسية؛ كونها حريصة على عدم تأثر الحالة الإندونيسية بأفكار وافدة من الخارج، وهذا ما خدم آنيًا ولاحقًا هدف الحيلولة دون نشوء روابط تنظيمية وثيقة بين إسلاميي الداخل والتنظيمات في البلاد المحيطة، أو تلك الناشطة بالمنطقة العربية.
يرجع نجاح تجربة المراجعات الفكرية في إندونيسيا في جزء منه -خاصة مع المجموعات المحلية المنتمية للجماعة الإسلامية الإندونيسية بخلاف المنتمين لـ«القاعدة» ولاحقًا «داعش»- إلى الارتباط صعودًا ونزولًا بالتجربة المصرية، لذا فكر المسؤولون الإندونيسيون في أن يكون المدخل الرئيسي في إقناع أتباع هذا الفصيل بالتحولات الفكرية عبر نفس القادة المنتجين لمنهج العنف القديم بالنموذج المصري، ولهذا استعانوا بمنظري المراجعات الفكرية بالنسخة المصرية.
تأسيسًا على أن الجماعة الإسلامية الإندونيسية قد استقت أيديولوجيتها الموضوعة بعنوان: «المبادئ التوجيهية لتطبيق الإسلام وفقًا للقرآن والسنة»[1]، والتي تبلورت لاحقًا تحت عنوان «الإرشادات العامة لنضال الجماعة الإسلامية»، من كتاب «ميثاق العمل الإسلامي»، الذي يحوي منهج عمل الجماعة الإسلامية المصرية، والذي صاغه قادتها في السجن عام 1985 تحت إشراف زعيمها الروحي عمر عبدالرحمن، نظرًا لتأثر «باعشير» بالأخير، ونتيجة انبهار الجهاديين الإندونيسيين بقادة الجماعة المصرية في أثناء اختلاطهم بهم في معسكر الجماعة بولاية «خوست» في أثناء الحرب الأفغانية[2].
أسهمت التجربة في توبة غالبية تيار ما عُرِف بالجماعة الإسلامية الإندونيسية، الذي كان يسعى لإقامة الدولة الإسلامية بإندونيسيا باستخدام القوة المسلحة[3]، وتُشير الأرقام إلى نجاحات ملحوظة، فمن بين ثلاثة آلاف عضو تحول ألفان وسبعمائة وخمسون إلى التوجه الوطني ونبذ العنف والتطرف[4].
لم تتحقق هذه المحصلة من فراغ، إنما سبقها على مدى سنوات جهد أمني واستخباراتي احترافي، نتج عنه عزل الحالة المتطرفة في إندونيسيا عن ارتباطاتها الخارجية بتنظيم القاعدة في دول جنوب شرق آسيا، ومن ثَمَّ التفرغ لتفكيك الحالة الداخلية عبر تصحيح الأفكار والرؤى والتأهيل الاجتماعي[5].
مظلة جامعة
جرى نقاش خلال المؤتمر الأول لمجلس المجاهدين الإندونيسي حول المبادئ العامة وخطة العمل، وتم تثبيت أفكار الخلافة الإسلامية والجهاد لإقامتها، وانبثق منه «ميثاق يوجياكرتا» الذي ينصّ في بنوده على رفض كل أيديولوجية مناقضة للإسلام، وجاء خلال كلمة أبي بكر باعشير (أحد رموز التيار الجهادي في جنوب شرق آسيا) أن مَن يرفض تطبيق الشريعة يُعلن الجهاد ضده.[6]
عمَّمت الجماعة الإسلامية الإندونيسية هذا المنهج بهدف إقامة دولة إسلامية موازية، تشمل فروعها بجنوب شرق آسيا، وهو ما عبر عنه الاجتماع الأول لأبي بكر باعشير بعد وفاة رفيقه عبدالله سونكار مباشرة، تحت عنوان: «رابطة المجاهدين»، والذي عُقد في «سوبانج سيلانغور» على مقربة من العاصمة الماليزية كوالالمبور في العام 1999م، في بيت أبي بكر بافانا، فقد حضر هذا الاجتماع ممثلٌ عن جبهة تحرير مورو بالفلبين، وممثل من شبكة الجهاد بجنوب تايلاند، وممثل عن زعيم الروهينجا ببورما، وممثل عن جهاديي سنغافورة[7].
اعتنقت الجماعة منهج الوصول بالقوة[8] للهيمنة الكاملة للعالم الإسلامي، مستمدة جذورها من فكرة العداء التاريخي والوجودي بين الغرب والعالم الإسلامي[9]، فقد سعت للتمدد وتشبيك دول جنوب شرق آسيا؛ لتصبح منتظمة داخل خلافة دينية مصغرة كبداية لتحقيق الحلم الأكبر[10]، ومن هنا ظهر التحدي الأهم أمام الجهاز الأمني، فهو يتعامل مع تنظيمات متمددة، ولها حضور ونشاط ومركز عمل داخل دول عدة.
أبي بكر باعشير
هيكل الجماعة الإسلامية
لكي تَسْهُل قيادة هذا الكيان المتمدد تم توزيع القيادة مناطقيًّا؛ فمنطقة بعنوان «القطاع الأول الإقليمي» تحت رئاسة أبي بكر باعشير، وتغطي مساحة من ماليزيا الغربية وسنغافورة، وهي التي انتقلت قيادتها من باعشير إلى حنبلي «رضوان عصام الدين»، الذي صار الشخصية المحورية لاحقًا بعد تصعيد باعشير كعضو بمجلس الفتوى، ليصبح للقطاع الأول دورٌ استثنائيٌّ بالتعاون مع تنظيم القاعدة تحت زعامة حنبلي.
ويتركز القطاع الثاني في سومطرة، وجاوة، وبالي، ونوسانتجارا الغربية، ونوساتنجارا الشرقية، وقادها أبو فاتح قبل أن يصعد لقيادته نعيم في العام 2001م، أما القطاع الثالث فيحتل مساحة من ماليزيا الشرقية، وكاليمانتان الشرقية، وسولاديس الوسطى، ومينداناو الفلبينية، وقاد هذا القطاع القيادي الميداني الذي راجع أفكاره المتطرفة لاحقًا ناصر عباس[11].
وقاد القطاع الرابع أستاذ باعشير المقرب منه عبدالرحمن أيوب، (وهو أحد من راجعوا أفكارهم بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، معلنًا توبته عن الفكر التكفيري وانضوائه تحت المظلة الوطنية[12])، ويشمل أراضي بابوا، وأستراليا، وقد أقام أيوب بأستراليا وأجاد اللغة الإنجليزية، وكان بمثابة ممثل باعشير في الخارج.
الانقسام وانكشاف نشاط القاعدة
جاءت استجابة الجماعة الإسلامية في عمومها أقل حماسة لتوجهات وخدمة أهداف القاعدة في جنوب شرق آسيا، وتحركًا لتطبيق استراتيجية بن لادن، وعلى الرغم من عدم إعلان الرفض الصريح لفتوى[13] قتال اليهود والنصارى من قِبَل قادة الجماعة الإسلامية، فإنهم قد ترددوا في المشاركة في تحالف تُصرف خلاله الجهود والأموال والموارد البشرية، وهو ما مِنْ شأنه إضعاف مساعي الجماعة نحو هدفها الرئيسي، وهو إقامة دولة متشعبة في جنوب شرق آسيا.
رغم ذلك ظهرت هناك نزعة انحياز لخيارات وأهداف تنظيم «القاعدة» من قِبَل أحد الأجنحة داخل الجماعة الإسلامية، ووضح التمايز منذ البدايات عندما وقع خلاف بين حنبلي الذي وَجَّه أعضاء القطاع الأول للجماعة الذي يقوده لتنفيذ عمليات انتقامية على خلفية أحداث أمبون الطائفية[14]، وذلك بترتيب خطة الهجوم المتزامن على الكنائس في جميع أنحاء إندونيسيا، فيما عُرف إعلاميًّا بتفجيرات أعياد الميلاد في ديسمبر من العام 2000م، وفي المقابل رأى أبوبكر باعشير أن المشكلة محلية الطابع، خاصة بمنطقة أمبون، ولا تستدعي التوسع في القيام بأعمال ثأرية طائفية تشمل جميع أنحاء إندونيسيا.
رهن «حنبلي» الفصيل الذي يقوده داخل الجماعة الإسلامية لإرادة قادة القاعدة، وأشرف على تنفيذ عمليات تفجير خارج حدود منطقة سيطرته الخاصة «القطاع الأول»، ومن أشهر تلك العمليات تفجير أعياد الميلاد في الرابع والعشرين من ديسمبر عام 2000م، في كل من باتام، وبيكانبارو، وجاكرتا، وميدان، وباندونج، وموجوكرتووماتارا عبر استهداف عدد من الكنائس في وقت متزامن، ثم تبعته عملية تفجيرات بالي في الثاني عشر من أكتوبر عام 2002م، والتي أسفرت عن مقتل أكثر من مائتي شخص، ولم يعرف مسؤولو الجماعة الإسلامية الإندونيسية من داخل القطاعات الثلاثة الأخرى بما قام به «حنبلي» بالتعاون مع القاعدة، وبتمويل مباشر منها، وبعيدًا عن علم قادة جماعته الإندونيسية الذين جاءتهم أخبار التفجيرات بعد وقوعها[15].
خالد شيخ محمد
موقع إندونيسيا من نشاط القاعدة بجنوب شرق آسيا
نفَّذَت مجموعة «حنبلي» بالتنسيق مع تنظيم القاعدة عدة عمليات؛ غرضها الرئيسي استهداف رمزية مصالح الولايات المتحدة الأمريكية والمصالح الغربية بداية من العام 2000م إلى العام 2009م، وكان خالد شيخ محمد الذي كان مسؤولًا عن عمليات القاعدة بجنوب شرق آسيا هو المشرف المباشر على نشاط «حنبلي» ومجموعته من قِبَل القاعدة، وقد تم إعداد مخطط مشترك بينهما لتنفيذ تفجير سفارة الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل في مانيلا وسنغافورة، وتم إسناد المهمة لفتح الرحمن الغازي، أحد كوادر الجبهة الإسلامية لتحرير مورو[16].
بدأ هذا التوجه مع نهاية الحرب في أفغانستان، فقد وقع اختيار جناح «حنبلي» بالجماعة الإسلامية الإندونيسية «القطاع الأول» على مينداناو بجنوب الفلبين، وهي المنطقة التي سيطرت عليها جبهة تحرير مورو الإسلامية، خاصة مجموعة أبي سياف، وبالتنسيق معها، تم إنشاء معسكر الحديبية الذي انطلق العمل به في العام 1997م، وضمَّ متطوعين من العرب وإندونيسيين وفلبينيين، وبعد افتتاح المعسكر بعام واحد أعلن «بن لادن» تأسيس الجبهة الإسلامية العالمية في العام 1998م في قندهار[17].
اضطرت الأجنحة المشاركة في الخطة للتراجع، وهبط مستوى نشاطهم إلى ردِّ الفعل الثأري بعدما نجحت الاستخبارات الإندونيسية في تحذير السلطات المحلية بالفلبين من معسكرات جبهة مورو التي تضم متطوعين عربًا، ومن مختلف بلدان جنوب شرق آسيا، ومنها يتم الإعداد لتنفيذ عمليات إرهابية كبرى، وهي الإشارة التي دفعت الجيش الفلبيني لهدم معسكري الحديبية وأبي بكر في مينداناو[18].
لجأ التحالف الإرهابي المرتبط بالقاعدة للثأر، وكان الردُّ متمثلًا في عملية تفجير منزل السفير الفلبيني بجاكرتا، في الأول من أغسطس عام 2000م، والتي نفَّذَها جناح القاعدة داخل الجماعة الإسلامية الإندونيسية تحت إشراف «حنبلي»، والتي نُوقشت في الاجتماع الثاني لرابطة المجاهدين في شقة قمباك كوالامبور ماليزيا.
اتفق المجتمعون على الانتقام، وأن يكون الردُّ على الحكومة الفلبينية خارج الفلبين باستهداف مصالحها ورموزها في الخارج، وألا يقتصر الرد على عملية يتم تنفيذها بالداخل، وتم تحديد منزل السفير الفلبيني في جاكرتا، وتم تنفيذها عن طريق فتح الرحمن غازي، وعبدالجبار، وإيدي سيتيونو الملقب بعثمان في الأول أغسطس عام 2000م، وأسفرت العملية عن مقتل شخص، وإصابة عشرين بينهم السفير[19].
العقبة أمام المخابرات الإندونيسية
لم يكن نشاط تنظيم القاعدة أصيلًا داخل إندونيسيا، إنما وُضعت كسند لنشاط عام، يستهدف المصالح الغربية والأمريكية في دول جنوب شرق آسيا، ولذا فضلت في هذا السياق سنغافورة وتايلاند والفلبين بشكل أكبر؛ لأن التأثير والدويَّ في هذه الحالة سيكون أضخم، ولتوفر عوامل داعمة، على رأسها الاستفادة من مساندة ودعم الحركات الانفصالية الأيديولوجية، كما في نموذج جبهة تحرير مورو الإسلامية[20].
جاء تمويل عمليات إرهابية في إندونيسيا والإشراف عليها من قبل القاعدة محدودًا؛ لكونها لا تحمل رمزية مباشرة ضد المصالح الأمريكية والغربية، وتحمست القاعدة لرعاية وتمويل عمليات في إندونيسيا عبر مجموعة «حنبلي» بداية من منتصف عام 1999م، عندما انطلقت شرارة الأحداث الطائفية في أمبون؛ حيث انتهى النقاش بشأنها لضرورة توظيفها لصالح التنظيم.
وأشرف على مجمل هذا النشاط الذي وضع إندونيسيا كمحطة داعمة تأتي في المرتبة الثانية من أولويات القاعدة كلٌّ من: خالد شيخ محمد، وأسامة أبي زبيدة، وأبي عبيدة، وعمر الفاروق، وتم تكليف «حنبلي» بالإشراف الميداني المباشر على تنفيذ العمليات، وأسندت مهام إعداد المعسكرات والتنسيق والدعم المعلوماتي والدعاية لعمر الفاروق[21].
أدى هذا الترتيب لأولويات القاعدة بجنوب شرق آسيا لتعقيد مهمة الاستخبارات الإندونيسية؛ نظرًا لندرة وجود قادة القاعدة بإندونيسيا، فزيارة خالد شيخ محمد حدثت لمرة واحدة ولفترة وجيزة، لذا لم تسنح فرص التعرف على تحركاته واتصالاته، فقد جعل هو وابن أخيه أحمد رمزي يوسف مانيلا قاعدة ومركزًا لأنشطته.
تمحورت أدوار من لبث من قادة القاعدة في إندونيسيا لفترات أطول نسبيًّا تزيد على شهر واحد حول المشاركة المحدودة والمحسوبة في تنفيذ عمليات إرهابية داخل إندونيسيا، والإسهام في إنجازها على الوجه المطلوب، وإعداد وبناء معسكرات تدريب خاصة بالفلبين، وجمع المعلومات والدعاية وتوفير ملاذات لاختباء الفارين من ملاحقات الاستخبارات الأمريكية والغربية في كلِّ دول جنوب شرق آسيا[22].
«حنبلي» وعمليات «القاعدة» بإندونيسيا
كان «حنبلي»[23] رجل القاعدة الأول داخل الجماعة الإسلامية الإندونيسية عبر تعاون وثيق مع محمد عاطف وخالد شيخ محمد، الذي قدَّم الدعم المالي لمجمل عمليات وتفجيرات جنوب شرق آسيا، وقد بدأ هذا النشاط منذ العام 1999م، عندما زار عدة مرات كراتشي وقندهار، واجتمع مع خالد شيخ محمد، ومحمد عاطف.
ناقش «حنبلي» في ماليزيا بعد عودته من أفغانستان خطط مجموعته «القطاع الأول» على خلفية ما اعتبره اضطهادًا يتعرض له المسلمون في أمبون، وحضر هذا الاجتماع التنظيمي من كوادر القطاع الأول أبو اليزيد، وأبو ياسر، وإمام سامودرا، وانمن ونمات، وفائز بافانا، ويزيد شفاعة، وأوفد خالد شيخ محمد ممثلًا عن القاعدة، وهو عيسى الهندي (بريطاني الجنسية من أصل باكستاني)، وتم وضع اللمسات النهائية للهجوم الثأري، فكانت تفجيرات عيد الميلاد المتزامنة ضد كنائس في سبع مدن متباعدة عام 2000م[24].
أغرى نجاح عملية أعياد الميلاد المعقدة -والتي كان لها دويًّا عالميًّا واسعًا- «حنبلي» بتنفيذ ما هو أكثر إيلامًا لتثبيت نفوذه، فتم تنفيذ تفجيرات بالي الأولى في العام 2002م، والتي قُتِل فيها نحو مائتا شخص، وأصيب المئات وغالبيتهم من السياح الأجانب، وكان للعمل صدى مكافئ لتفجيرات أعياد الميلاد، وربما أكبر.
وقع أول تفجيرين في نادي باديز كلوب، ونادي ساري في شارع ليجيان كوتا، ثم وقع الانفجار الثالث في قنصلية الولايات المتحدة، ونفذ العملية المزدوجة ثلاثون كادرًا من مجموعة «حنبلي»، وبعد عشرة أشهر من تفجيرات بالي الأولى وقع في أغسطس من العام 2003م تفجير فندق ماريوت في جاكرتا، وقتل فيه اثنا عشر شخصًا، وأصيب مائة وخمسون، وفي 11 أغسطس 2003م تبنى تنظيم القاعدة العملية عبر قناة الجزيرة كردٍّ على ممارسات الولايات المتحدة[25].
تفكيك شبكة «حنبلي» و«القاعدة»
أثناء تنفيذ عملية تفجير مول أتريوم جاكرتا في مايو 2001م، أصيب داني الماليزي الملقب بحارثة، وبترت ساقه، وهو واحد من المشاركين التسعة في العملية[26]، وهو من رجال نور الدين محمد توب، الذي جنده بدوره في مجموعة «حنبلي»، وعند التحقيق مع داني اعترف بتفاصيل ومعلومات دقيقة عن تنظيم «حنبلي» المرتبط بالقاعدة، وبناءً على معلوماته تم اقتحام أحد المخابئ المهمة للتنظيم، وهو عبارة عن بيت في منطقة نائية من «بنوت قيدي» بإندونيسيا، وهناك تم القبض على أهم كوادر الخلية.
اكتشف جهاز المخابرات الإندونيسية توزيع «حنبلي» لتنظيمه القاعدي إلى مجموعات؛ الأولى مجموعة ماليزيا، ومن كوادرها مين وان مين، وروشيلمي محمد شريف، وعيدروس سالم، وعبدالله داود، وأزهري حسين، ونور الدين محمد توب، والمجموعة الثانية هي مجموعة سيراننج المؤلفة من إمام سامودرا الملقب بعبدالعزيز وعبدالرؤوف وأندي أوكتافيا، وهذه المجموعة هي مَن نفَّذَت تفجيرات بالي الأولى في العام 2002م، والثالثة هي مجموعة لامونجان التي تتألف من مخلص -الذي خلف حنبلي في القيادة بعد القبض عليه- وأمرازي، وعلي عمران الملقب ببيتيك، ومبارك، وإدريس، والرابعة هي مجموعة ماكاسار، ومن كوادرها عبدالحميد ومختار داينج[27].
اعتمد تكتيك العمل على التنسيق المسبق بين المجموعات، كما حدث في تفجير بالي 2002م؛ فقد تم بالتعاون بين مجموعتي لامونجان وسيرانج، وهو ما أطلق عليه داخل التنظيم محور «سيرانج – لامونجان»، وهي التحركات التي لا يعلم بها وبخباياها بقية أعضاء الجماعة في أنحاء إندونيسيا[28].
اتجهت أجهزة الأمن الإندونيسية لملاحقة مجموعة حنبلي «القطاع الأول»، وصار ملاحقًا من قبل جهازي المخابرات الماليزي والإندونيسي، وفي هذه الأثناء جرى القبض على شبكة «حنبلي» وقاد ذلك إلى القبض على أعضاء مختلف القطاعات ليس في إندونيسيا فحسب، بل شملت الملاحقات شبكة الجماعة بإندونيسيا وماليزيا.
القبض على «حنبلي»
كثَّفت الأجهزة الأمنية التضييق على مجموعة «حنبلي»، وصار يُلْقَى القبض على أي شخص يوفر الحماية لمجموعة «حنبلي»؛ ولذا انكشفت المجموعة بعد أن تمَّ عزلها، واضطرار بقية قطاعات الجماعة الإسلامية الثلاثة المتبقية إلى الانقلاب عليها؛ حتى لا تدفع فاتورة ممارسات «حنبلي» ومجموعته.
حدث انشقاق داخلي نتيجة هذه الملاحقات، وأعلنت مختلف القطاعات الإقليمية رفضها لممارسات قطاع «حنبلي»، وهو ما دفع غالبية أعضاء الجماعة للامتناع عن إيواء وحماية مجموعة «حنبلي»، وهو ما ترجمه ناصر عباس بقوله: «هم من تغوطوا، ونحن مَنْ علينا أن ننظف لهم».[29]
خلال فترة البحث عن «حنبلي» وبعد القبض عليه نفَّذ خطط التفجيرات الموضوعة مسبقًا بالتنسيق مع تنظيم القاعدة فريق له صلة قوية بـ«حنبلي» بقيادة الدكتور أزهري حسين، ونور الدين محمد توب؛ حيث تم تنفيذ خمسة تفجيرات في غيابه بدءًا من انفجار بالي 12 أكتوبر 2002م، وانفجار ماريوت 5 أغسطس 2003م، وتفجير السفارة الأسترالية 9 سبتمبر 2004م، وتفجير بالي الثاني أول أكتوبر 2005م، ثم أخيرًا انفجار ماريوت ريتز كارلتون 17 يوليو 2009م[30].
في العام 2001م كان «حنبلي» في ماليزيا لمدة أسبوعين، ثم عبر تانجونج بيانج عاصمة إقليم الأرخبيل رياو، ومنها اشترى جوازات سفر مزورة، ثم توجه إلى ميدان، ثم طار إلى ماليزيا بجواز سفر جديد، وبعدها بشهر انتقل إلى تايلاند، وتنقل مع زوجته من مكان إلى آخر، وصولًا إلى اختبائه في دولة كمبوديا باحثًا عن الهويات الجديدة والأسلحة، حتى تم القبض عليه في أغسطس 2003م في بانكوك[31].
اختبأت الشخصيات البارزة في «القطاع الأول»، كما فعل «حنبلي» في تايلاند، وكانت عملية القبض عليهم تباعًا تتم بالتعاون والتنسيق بين أجهزة مخابرات إندونيسيا وماليزيا وسنغافورة والفلبين والولايات المتحدة الأمريكية؛ بغرض الكشف عن الشبكة متشعبة النشاط، والقبض على قادتها.
كان هناك من هو مختبئ في بانكوك، مثل يزيد شفاعة، والزبير، وذو الكفل مرزوقي، بينما اختبأ في سنغافورة خمسة أعضاء، يرأسهم ماس سلامة كاستاري، وتحديدًا في منطقة يالا وناراثيواث، ثم انتقلوا إلى بانكوك التي كان يعيش بها «حنبلي» برفقة زوجته، في حين انضم مخلص ورفاقه إلى الدكتور أزهري حسين، ونور الدين محمد توب، عائدين إلى إندونيسيا لتنفيذ التفجيرات المتفق عليها[32].
تم القبض على بقايا التنظيم في أتشيه وسومطرة بين عامي 2008 و2009م[33]، ومن خلال الاعترافات تبين أن سلسلة التفجيرات التي سبقت القبض على «حنبلي» ولم تتوقف بالقبض عليه هي مشروع تنظيم القاعدة، الذي تم تفويضه بتنفيذه في الفترة من أغسطس 2001م إلى ديسمبر 2001م، عندما التقى في قندهار عدة مرات أسامة بن لادن وخالد شيخ محمد، وتم الاتفاق على التجهيز لتفجيرات تستهدف مصالح أمريكية وغربية في إندونيسيا وجنوب شرق آسيا، وأكدوا أن كل العمليات تمت تحت قيادة وإشراف حنبلي والدكتور أزهري حسين، ونور الدين محمد توب، ومخلص، وأن مجمل الأموال التي وصلت لمجموعة «حنبلي» من القاعدة عبر خالد شيخ محمد تبلغ حوالي مائة وخمسة وعشرين ألف دولار[34].
كذلك اكتشفت المخابرات كيفية تنفيذ غالبية العمليات؛ حيث يتم تجميع القنابل في مكان واحد وهو منزل في مالاكا ساري بجاكرتا الشرقية، ويحمل البعض من المشاركين القنبلة، وينقلونها بسيارة أمام أو داخل الهدف، ومن ثم يفجرها آخر عن بُعد.
الخلاصة:
أولًا: سجلت الاستخبارات الإندونيسية نجاحًا ملحوظًا في تفكيك روابط المتشددين بالداخل الإندونيسي بتنظيمات ذات نشاط عولمي كـ«القاعدة»، عبر جهد امتد من عام 2000م إلى عام 2009م، نتج عنه تقويض شبكة تحالفات القاعدة مع أجنحة داخل تنظيمات إندونيسية.
ثانيًا: لوحظت بقوة مساعي احتواء المتشددين بالداخل الإندونيسي عبر معاملتهم بصورة حسنة للدرجة التي دفعت أحد أهم القادة العسكريين في الجماعة الإسلامية للتراجع عن العنف، ومناوأة الدولة، وهو ناصر عباس، معللًا ذلك بنُبل تعامل قائد الشرطة معه واحترامه له، وصولًا إلى تعاون عباس مع الأجهزة الأمنية بإندونيسيا في القبض على كبار قادة الجماعة، والتحدث نيابة عن الحكومة إلى ثلاثمائة إرهابي؛ بغرض تحييد معتقداتهم المتطرفة، وإقناعهم بالممارسة السلمية[35].
ثالثًا: أسهمت برامج تصحيح الأفكار وفتح حوارات مركزة مع المتشددين الإندونيسيين،[36] سواء عبر توظيف قادة إسلاميين سابقين من الشرق الأوسط أو من إندونيسيا ودول جنوب شرق آسيا، في تقليص أعداد المنضوين تحت راية تنظيم «داعش» من إندونيسيا، وتشير دراسة أعدتها وكالة التنمية الدولية بأمريكا، إلى أن عدد الإرهابيين الماليزيين والإندونيسيين العاملين في صفوف «داعش» في سوريا والعراق يصل إلى 450، أكثر من نصفهم ماليزيون، رغم أن مجموع مسلمي ماليزيا 18 مليونًا، بينما مسلمو إندونيسيا يصل إلى 200 مليون[37].
المراجع:
[1] واضع هذه المبادئ القيادي أبورشدان بتكليف من باعشير وسونكار، لكونه منظرًا يحترم البدائل، ولا يرى القتال الوسيلة الوحيدة لتحقيق الأهداف كحال ذي القرنين، وتم التصديق عليها خلال اجتماع عقد في ماليزيا.
[2] من لقاء الباحث بزركشي عضو الجماعة الإسلامية على هامش النقاش الفكري بسجن نوساكا مبانجان بوسط جاوة في مارس 2012م.
[3] هشام النجار- نجاح إندونيسيا في تقويض المتطرفين يفتت محاولات تكوين خلايا جديدة- العرب اللندنية - 10 سبتمبر 2018م.
[4] الملتقى الوطني بعنوان: «الحركة المدنية لمواجهة التطرف»، تحت إشراف الهيئة الوطنية لمكافحة الإرهاب بمكتبة مسجد الاستقلال بجاكرتا، بمشاركة المئات من الإرهابيين السابقين، 18 ديسمبر 2017م.
[5] أبدش كومار وماناس.ك ماندال - الانتحاريون.. دراسة نفسية حول فهم الإرهاب الانتحاري - صفحة 178.
[6] هادي حسن، عسكر جهاد.. الإسلام والقوة الجهادية وطلب الهوية في إندونيسيا بعد النظام الجديد - جاكرتا - 2002م، صفحة 102.
[7] من لقاء الباحث على هامش النقاش الفكري مع «فرحين»، عضو الجماعة الإسلامية بسجن بالوا بجزيرة سولاويزي أبريل 2012م.
[8] مارك يورجنسمير، الإرهاب باسم الله.. إحياء عالمي للعنف الديني - ميزان جاكرتا - 2000م- صفحة 27.
[9] حيدر ناصر - حركة تطبيق الشريعة وإعادة إنتاج الأيديولوجيا السلفية - جامعة جادجامادا – يوجياكارتا – إندونيسيا - صفحة 273.
[10] جون.ل. إيسبوزيتو - التهديد الإسلامي خرافة أم حقيقة؟ - 1994م- ميزان باندونج - صفحة 132.
[11] ناصر عباس - تفكيك الجماعة الإسلامية - جاكرتا.. جرافيندو - خزانة العلم - 2007م.
[12] من لقاء الباحث مع عبدالرحمن أيوب على هامش ندوة مفكري الشرق الأوسط بجامعة إندونيسيا في أكتوبر من العام 2015م.
[13] علي مصطفى يعقوب - الاجتهاد والإرهابية والليبرالية - معهد دار السنة الدولي – جاكرتا - صفحة 35.
[14] صراع طائفي بين مسلمين ومسيحيين بدأ عام 1999م، راح ضحيته ستة آلاف شخص بجزيرتي أمبون وساباروا على بعد 2300 كيلومتر شرق جاكرتا.
[15] أسعد سعيد علي، الوكيل الأسبق للمخابرات الإندونيسية - القاعدة من المنظور الاجتماعي والسياسي والأيديولوجي والإيقاع الحركي - رابطة الجامعات النهضوية - إندونيسيا- صفحة 282.
[16] أسعد سعيد علي - حركة الإرهاب في إندونيسيا، دراسة عن التاريخ والمنهج - صفحة 64.
[17] كين كونبوي، وإينتل الثاني - المعركة الثانية – جاكرتا - مكتبة فريماتا 2008م - صفحة 80.
[18] ناصر عباس - تفكيك الجماعة الإسلامية - جاكرتا.. جرافيندو - خزانة العلم - 2007م، صفحة 52-56.
[19] أمروزي يعترف بتورط «حنبلي» بانفجار استهدف السفير الفلبيني - الجزيرة نت - 2 سبتمبر 2003م.
[20] في العام 2001م عُثِر في منزل القيادي القاعدي محمد عاطف بعد قصفه عن طريق طائرة بدون طيار على وثائق خاصة بمخطط استهداف مكتب سفارة الولايات المتحدة بسنغافورة، ولم يعثر على مخططات بشأن تفجيرات بإندونيسيا.
[21] أسعد سعيد علي الوكيل الأسبق للمخابرات الإندونيسية - القاعدة من المنظور الاجتماعي والسياسي والأيديولوجي والإيقاع الحركي - رابطة الجامعات النهضوية – إندونيسيا - صفحة 273- 275.
[22] أنشطة الجهاد في الفلبين وإندونيسيا: الخطف والتهريب والقتل المأجور - العرب اللندنية - 2 مايو 2016م.
[23] جمال الدوبحي - رؤوس الإرهاب في إندونيسيا – عكاظ - 2 مارس 2018م.
[24] أسعد سعيد علي - حركة الإرهاب في إندونيسيا، دراسة عن التاريخ والمنهج - صفحة 56-58.
[25] سيدني مورننج هيرالد - 12 أغسطس 2003م.
[26] رفعت السعيد – الإرهاب في العمق الآسيوي - البيان الإماراتية- 15 ديسمبر 2016م.
[27] ناصر عباس - تفكيك الجماعة الإسلامية - جاكرتا..جرافيندو - خزانة العلم - 2007م، صفحة 78-80.
[28] أسعد سعيد علي - أيديولوجيات الحركات في فترة ما بعد الإصلاح - رابطة الجامعات النهضوية – إندونيسيا - صفحة 134.
[29] ناصر عباس - تفكيك الجماعة الإسلامية - جاكرتا..جرافيندو - خزانة العلم - 2007م، صفحة 110-112.
[30] لوسي ويليامسون - إندونيسيا.. أيام زمان الصعبة - بي بي سي عربي - 17 يوليو 2009م.
[31] الأمريكيون يتسلمون من تايلاند حنبلي الساعد الأيمن لبن لادن جنوب شرقي آسيا - الحياة اللندنية - 16 أغسطس 2003م.
[32] من لقاء الباحث مع عبدالرحمن أيوب على هامش ندوة مفكري الشرق الأوسط بجامعة إندونيسيا في أكتوبر عام 2015م.
[33] بعد عشر سنوات مازالت حرب آسيا على الإرهاب مستمرة – إيلاف - 2 سبتمبر 2011م.
[34] أسعد سعيد علي، الوكيل الأسبق للمخابرات الإندونيسية - القاعدة من المنظور الاجتماعي والسياسي والأيديولوجي والإيقاع الحركي - رابطة الجامعات النهضوية – إندونيسيا - صفحة 291.
[35] هل نجح نهج نزع التطرف المعتمد في إندونيسيا؟ - وكالة إيرين- 15 أكتوبر 2012م.
[36] علي مصطفى يعقوب - الإسلام بين الحرب والسلام - مكتبة دار السنة – جاكرتا - ط1 - صفحة 21.
[37] رفعت السعيد - «داعش» في ماليزيا.. دراسة مفزعة - الأهرام المصرية - 3 سبتمبر 2016م.





