تحولات القرن الماضي.. مصالح مزدوجة بين الغرب والإسلاميين

شهدت حقبة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، عدة تحولات كبرى في المجتمع المصري، خاصة عقب هزيمة 1967، والتي تبعها انتصار حرب أكتوبر المجيدة في عام 1973، ليس فقط على مستوى السياسة الداخلية، لكنها كانت الفترة الأهم في تاريخ الجماعات الإسلاموية.

كان للغرب أيضًا دور في تحركات وأيديولوجيات جماعات الإسلام السياسي، التي سعت لتحقيق أهداف سياسية تحت شعارات دينية، فكانت تربطها علاقات مصلحة مزدوجة بالغرب، الذي كان يرى في تلك الجماعات بديلا للأنظمة في الشرق الأوسط.
ووفقًا لوثيقة أمريكية رفعت المخابرات الأمريكية CIA السرية عنها مؤخرًا، كان الغرب يرى منذ عام 1986 أن الإخوان كجماعة ستكون قوة فاعلة في العقد المقبل على تلك الفترة.
ولم يختلف الموقف الأمريكي أو البريطاني من جماعات الإسلام السياسي خاصة جماعة الإخوان كثيرًا، لكن الثابت أن كل دولة حددت موقفها تبعًا لعدد من الاعتبارات التاريخية والجيوسياسية لها، وإن كانت بعض الدول تميل إلى سياسة تبديل الجلد، وفقًا لمقتضى المصلحة.
مواقف متغيرة وسياسات متطورة تجاه الجماعات
في دراسة بعنوان «الإخوان والغرب بعد الربيع العربي»، يقول الكاتب ليرونزو فيلدينو: إن البلدان ذات الماضي الاستعماري في منطقة الشرق الأوسط مثل بريطانيا متورطة بشكل عميق على مدى العقود الماضية مع تلك الجماعات، مشيرا إلى أن الولايات المتحدة لديها سياسة متطورة بشكل جيد –رغم من أنها ليست واضحة ومتماسكة ودائمة– مع تلك الجماعات، إلا أن هناك أوجه تشابه مدهشة وموضوعات متكررة توحد نظرة جميع الدول الغربية للجماعات الإسلامية.
ويمكن اعتبار فترة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، بداية محاولة إشراك الجماعات الإسلامية المتمثلة في ذلك الوقت في الإخوان، في الصراع ضد الشيوعية، حيث افترضت الدول الغربية أنها يمكن أن تكون شريكا، لكن لم تكن لديها سياسات راسخة تجاه الإسلاميين حينذاك.
ومع انتهاء الحرب الباردة، توقفت معظم الدول الغربية عن هذا المنهج، وتنخرط جميع البلدان الغربية الآن وبشكل علني مع القوى الإسلامية في المنطقة، وربما يكون بعضها أكثر حذرًا وأقل حماسًا من الآخرين، لكن المشاركة هي الموقف الغربي القياسي، بحسب الدراسة.
وتفند الدراسة التي اشترك في إعدادها مركز أبحاث «المسبار» ومجلة «فورين بوليسي»، أن تراجع الدعم الغربي للجماعات الإسلامية علنًا قبل ذلك –وإن كان يتم سريًّا– كان يعود لثلاثة أسباب متداخلة، أولها المخاوف الخطيرة التي أثارتها الثورة الإيرانية، وأعمال العنف التي قامت بها الجماعات المتطرفة، في جميع أنحاء العالم في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، بالإضافة إلى الالتباس بين مفاهيم الجماعات المسماة «جهادية» والإخوانية.
كما كانت مواقف الإسلاميين حول قضايا مثل التوافق بين الديمقراطية والإسلام، والحرية الدينية وحقوق المرأة وموقفهم من إسرائيل، تثير حذر صانعي القرار الغربيين، كما كانت الأنظمة في جميع أنحاء المنطقة حازمة جدًّا في مطالبة حلفائهم الغربيين بتجنب التعامل مع الإسلاميين.
ومع إدراك البلدان الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، أنهم لا يستطيعون التأثير على التطورات التي تشهدها المنطقة، ولم يعد لديها قدرة لاختيار حكام المنطقة، فعلى مدار التسعينيات وعقد الألفين، كانت هناك العديد من المشاركات وراء الكواليس، وأطراف ثالثة مثل المؤسسات ومراكز الفكر، لكن أحداث ما عُرف بـ«الربيع العربي» وما تلاه أوضحت أن الإسلاميين سيلعبون دورًا حاسمًا في تشكيل الشرق الأوسط، وفقًا للدراسة.

الولايات المتحدة والإسلاميون
خلال الأربعينيات من القرن الماضي، وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، نشأ صراع مستتر بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، سُمي بـ«الحرب الباردة» فاتجهت واشنطن إلى تنحية النقاش حول مدى التزام الجماعات الإسلامية بالحريات والاتجاه للعنف، لصالح المناقشات حول كيف يمكن أن يكون الإسلاميون سبيلًا لإضعاف المعسكر الشيوعي.
وفي ورقة بحثية بعنوان «سياسة الولايات المتحدة والإخوان المسلمين» للكاتب ستيفن بروك، يقول إن علاقات الولايات المتحدة الأولى بالإسلام السياسي كانت «ضرورية» وقت الحرب الباردة.
وفي وثيقة أمريكية رفعت الولايات المتحدة السرية عنها العام الحالي -رغم أن معلوماتها متاحة للاستخدام منذ 21 أبريل 1986– كان الغرب يرى جماعة الإخوان بأنها ستكون قوة فاعلة في العقد المقبل من ذلك العام.
وتقول الوثيقة المعنونة «جماعة الإخوان المصرية: قواعد البناء والدعم» والصادرة عن المخابرات الأمريكية CIA، إنه على الرغم من أن جماعة الإخوان تأسست عام 1928، على يد حسن البنا، فإن الفترة من 1952 وحتى 1985 كانت هي الأبرز في تاريخ الجماعة، قبل اندلاع ثورات الربيع العربي.
وبحسب الوثيقة، اقتصر نشاط الجماعة في الفترة من 1928 حتى 1936 على العمل الديني الدعوي، والتواصل من خلال الدروس الدينية، وبناء المساجد، وإقامة مشروعات صغيرة تُسهم في تمويل الجماعة، لتبدأ فيما بعد مرحلة زيادة النشاط السياسي للجماعة في الفترة بين 1936 و1952، تلك الفترة التي وصفتها الوثيقة بأنها مرحلة «العلاقة المضطربة مع الحكومة»، والتي استمرت حتى مقتل حسن البنا عام 1948.
ومع قيام ثورة يوليو 1952، دخلت جماعة الإخوان مرحلة جديدة في العمل السياسي أكثر انفتاحًا، فاندمجت به، وربطت علاقة -وصفتها الوثيقة الأمريكية بأنها علاقة صداقة- بين الضباط الأحرار والجماعة، وكان بين الضباط الأحرار أعضاء في الإخوان، كما كان الرئيس الراحل أنور السادات وسيطًا بين الطرفين، بحسب الوثيقة.
ولم تستمر تلك الصداقة طويلًا، فتدهورت العلاقة بين الإخوان وحكومة الثورة، فيما بلغت التدهورات ذروتها مع محاولة الجماعة اغتيال الرئيس الراحل جمال عبدالناصر عام 1954، فيما عُرف بحادث المنشية، مع تكرار الجماعة محاولة اغتيال عبدالناصر عام 1965، وهي المؤامرة التي ردت عليها الحكومة بحملة واسعة من الاعتقالات الجماعية للجماعة، وفقًا للوثيقة.
وألقت الورقة البحثية لـ«بروك» الضوء على هذه الفترة، فذكرت أنه في عام 1952، أطاح زواج المصلحة بين الإخوان والضباط الأحرار بملك مصر، وقُذف البريطانيون بالخارج، وظهر جمال عبدالناصر كزعيم لمصر الجديدة، وحاولت كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي جذبه إلى معسكراتهم، لكن ناصر أثبت أنه رجل الدولة، وبدأ في إصدار مذهب حزبي للقومية العربية.
ويضيف، أن الولايات المتحدة سعت لتقييد نفوذ «عبدالناصر»، واستكشاف إمكانية استخدام الدين لتسليط الضوء على كلٍّ من الإلحاد الشيوعي والتقارب بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط، بالإضافة إلى التحالفات مع «سماسرة الفكر الأصولي» فبدأت الحكومة الأمريكية في النظر في العلاقة مع الحركات الإسلامية مثل جماعة الإخوان.
وتقول الورقة، إنه من المحتمل أن هناك اتصالات بين مسؤولين أمريكيين وجماعة الإخوان في مصر -في ذلك الوقت- لكن هناك القليل من الأدلة للإشارة إلى مدى عمق هذه العلاقة.
وفي دراسة أعدها «لورينزو فيدينو»، معنونة «الإخوان المسلمون في الغرب.. التطور والسياسات»، فإن أعضاء جماعة الإخوان استغلت التقارب مع أمريكا في الوقت الذي شنَّت حكومة «ناصر» حملة ضدهم في فترة الخمسينيات والستينيات للسفر إلى الولايات المتحدة وأوروبا، وهي التي تحولت فيما بعد إلى سبب لوجود الجماعة في الغرب.
وبحسب الدراسة، سافر سعيد رمضان، صهر حسن البنا، ووالد الداعية الإخواني طارق رمضان، ويوسف ندا رجل الأعمال الإخواني، وعدد من الأعضاء الذين بدأوا في بناء قاعدة مجتمعية لهم، من خلال نشر أفكارهم، وإشباع العاطفة والاحتياجات الدينية لدى المسلمين.
استخدام الولايات المتحدة الأمريكية للجماعات الإسلامية لمحاربة الاتحاد السوفييتي، لم يقتصر على جماعة الإخوان، فشمل أيضًا الجماعات الإسلامية التي ظهرت بعدها.
ومع حلول التسعينيات، حاولت إدارة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون في الفترة 1995 – 2000، صياغة رؤية عامة تجاه الجماعات الإسلامية، لكن تصريحات الحكومة السياسية بدت غامضة ومتناقضة، رغم أنها أكدت أن واشنطن لا ترى الإسلام كعدو، وأن الإرهاب ظاهرة متطرفة، وليست إسلامية، لكن المعايير أصبحت أكثر ضبابية بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، خلال فترة حكم الرئيس جورج دبليو بوش.

بريطانيا والإخوان
باختلاف ميولها وأهدافها ما بين استمرار تمتعها بالدور الاستعماري وإيجاد ذراع للتدخل في دول الشرق الأوسط، ومحاولة استخدام الجماعات الإسلامية لمواجهة التيار الشيوعي للاتحاد السوفييتي، كانت بريطانيا داعمًا بل حاضنًا للحركات الإسلامية، وذلك وفق ورقة بحثية أعدها «مارتين فرامبتون» و«شيراز ماهر»، عنوانها «بين التفاعل ونهج قيادة القيم.. بريطانيا والإخوان المسلمين من 9/11 إلى الربيع العربي».
وفي حين كانت جماعة الإخوان أبرز الجماعات الإسلامية، الموجودة في فترة السبعينيات، وبسعيها خلف أي وسيلة لتحقيق غايتها الكبرى وهي إعادة الخلافة –وفق ما تروجه– والاستعانة بدول الغرب، سواء كان استقواءً أو مساعدة أجانب على حساب المصلحة الوطنية، تأسست العلاقة بالبريطانيين.
ويرصد فؤاد علام، في كتابه «الإخوان وأنا.. من المنشية إلى المنصة» علاقة الإخوان والبريطانيين، من خلال اتصالات سرية تناولت موضوعات مثل معاهدة 1936، وموقف الإخوان في أمور لا تصح أن تكون محل مفاوضات إلا مع السلطة الشرعية للبلاد.
ويشير «علام»، إلى أن علاقة بريطانيا والإخوان كانت تقوم على مبدأ ألا يتعرض طرف لآخر، بالإضافة إلى دعم بريطانيا للجماعة التي تأسست في 1928؛ حيث سمحت لها بالانتشار والتصدي للحركات الوطنية التي كانت سائدة في الشارع المصري ضد الاحتلال البريطاني خاصة عام 1951.
وفي كتابه، يقول مؤلف «الإخوان وأنا»، إن ما يؤكد اتصال الإخوان مع بريطانيا، أنها لم تتورط في أي أعمال من المقاومة السرية ضد الإنجليز أثناء الحرب العالمية الثانية، كما أن حسن البنا رفض المشاركة في أي خطة عمل ضدهم.
ويقول: إن الإخوان بحثوا عن قنوات للاتصال مع البريطانيين، من خلال ارتباطهم بالقصر الملكي، وذلك عندما عقد الإخوان المؤتمر الخامس للجماعة عام 1932، وقرروا الدخول في السياسة، وبحثوا أفضل السبل لذلك فكان الاختيار «الملك».
وظلت علاقة الإخوان والبريطانيين مستترة ومحل تكهنات، حتى اضطرت الجماعة في 1946، لنشر مقال في جريدتها «الإخوان المسلمون» يزعم أن الإنجليز هم من بادروا بالاتصال بالجماعة، وعرضوا عليها أموالًا نظير الاتفاق على تعاون بينهما، وأن حسن البنا رفض تلك الأموال.
وبحسب وثيقة بريطانية تعود لعام 1951، أشار إليها «فؤاد علام»، كانت تربط القيادي الإخواني حسن الهضيبي علاقة وطيدة بالملك فاروق، أكد خلالها «الهضيبي» دائمًا أن الجماعة تعادي الشيوعية، وتدخر قوتها لتأييد الملك.
واستمرت اتصالات الجماعة مع الإنجليز حتى بعد ثورة 1952، فبحسب وثائق بريطانية، إجتمع الإخوان مع الجانب البريطاني عام 1953، وزعم الإخوان أن الإسلام –المتمثل فيهم– يقف سدًا منيعًا ضد الشيوعية، وأن الإسلام يحتاج إلى أصدقاء ولا يوجد بين القوى المسيحية من يصلح لتلك الصداقة سوى بريطانيا، وأن الأمريكان لا نفع من ورائهم، وأن الإخوان يشكون في استمرار المصالح الأمريكية في العالم الإسلامي، نظرًا لارتباطها بمصالح إسرائيل.
ويفسر «علام»، تكتم الإخوان على الاتصالات مع البريطانيين، بأنها كانت حرصًا منهم على أن تكون للجماعة اليد العليا في التعامل مع الإنجليز عندما تتم لهم السيطرة على البلاد.

ألمانيا.. الإخوان يتسللون خفية
بدأت علاقة ألمانيا أيضًا مع الجماعات الإسلامية من خلال جماعة الإخوان، التي عملت على إقامة روابط لها داخل البلاد، مرت بثلاث مراحل، يشير إليها الكاتب «جوديدو شتاينبرج» في دراسة بعنوان «ألمانيا وجماعة الإخوان المسلمين».
يقول «شتاينبرج»: إن سياسة ألمانيا تجاه الإخوان مرت بثلاث مراحل متميزة، الأولى خلال الفترة من أواخر 1950 إلى 1979، وخلال تلك الفترة اقتصرت العلاقات مع الإخوان على أجهزة الاستخبارات، بسبب النقص العميق في فهم ظاهرة وأهمية صعود الإسلاموية بشكل عام، وظهور الإخوان على وجه الخصوص، لكن بعد الثورة الإسلامية في إيران في 1979 وحتى عام 2010، وهى المرحلة الثانية، اكتسبت الحركة الإسلامية والإخوان مزيدًا من الاهتمام من جانب الحكومة الألمانية.
وبحسب الكاتب، فإنه لا يزال ينظر إلى الإسلاموية إلى حدٍّ كبير كحركة متخلفة لا تلعب أي دور في مستقبل العرب والعالم الإسلامي، لكن على الرغم من ذلك فحتى بعد عام 1979 كانت لا تزال أجهزة الاستخبارات الألمانية هى التي اهتمت بالاتصالات القليلة لجماعة الإخوان، أما الفترة الثالثة فهي التي حلت عقب ما عُرف بأحداث الربيع العربي.
وباعتبار فترة الخمسينيات أهم تلك المراحل، بالنسبة للإخوان، ففي أواخر 1950، اكتسبت الجماعة موطئ قدم في ألمانيا لأول مرة، حيث وضع الإخواني سعيد رمضان (1926-1995) صهر البنا، أسس الجماعة في أوروبا، وأصبحت ميونيخ مركزًا مبكرًا لهذه الجهود، بحسب الدراسة.
وفي الستينيات من القرن الماضي أصبحت ألمانيا الغربية، وجهة شعبية متزايدة للطلاب العرب الذين درسوا الهندسة والطب والعلوم في جامعاتها، فرمضان نفسه درس القانون في كولونيا وحصل على درجة الدكتوراه.
ووفقًا للدراسة، فإن الحكومة الألمانية لم تكن ترتبط بصلات بالجماعة، لكنها أتاحت لهم العمل من مبدأ اللامبالاة، رغم أن الحكومات في الشرق الأوسط، نظرت لألمانيا بأنها تدعم الجماعة ضمنيًا، بتركها على أراضيها، فيقول شتاينبرج: «سمحت اللامبالاة من قبل الحكومة الألمانية لجماعة الإخوان ببناء أكبر هياكل في جميع أنحاء البلاد، والتي كانت مقسمة بين ميونخ وآخن».
وبعد تنامي التيار الإسلاموي، خاصة عقب الثورة الإيرانية، وظهور الجانب العنيف للإخوان، اتبعت الحكومة الألمانية سياسة دعم الحكومات لمواجهة الجماعات الإسلامية، لكنها لم تلتفت للإخوان على أراضيها.
وخلصت الدراسة إلى أن الحكومة الألمانية ستتعامل مع الإسلاميين كشركاء فقط عندما يُصبحون أقوياء بحيث لا يمكن تجاهلهم.