جدلية السينما الإيرانية.. تنفيس سياسي أم تقليم لأظافر الولي الفقيه؟ (2ـ2)
السبت 04/أغسطس/2018 - 05:34 م
السينما الإيرانية
محمد الدابولي
للسينما الإيرانية حضور طاغٍ في المهرجانات الدولية، نظرًا لتميزها الشديد، الأمر الذي فتح الباب أمام العديد من التساؤلات حول كيفية بزوغ نجمها في ظل النظام الشمولي الإيراني الحالي؟ وما المتغيرات التي أثرت في مسيرة تطورها؟ وما المغزى من وراء تساهل النظام الإيراني مع العديد من الأفلام التي تناولت الواقع بالنقد الشديد، وأبرزت بعض ملامح فساد النظام؟ وهو ما ستتولى الدراسة الإجابة عنه.
عباس كيارستمي المخرج الإيراني
أولًا: المتغيرات المؤثرة في توجهات السينما الإيرانية
واجه تطور السينما الإيرانية خلال العقود الثلاثة الأخيرة متغيرين سياسيين كان لهما الأثر في تشكيلها، هما الثورة الثقافية الإيرانية التي ابتدعها الخميني للسيطرة على الحياة الثقافية، وصعود الإصلاحيين (1989 - 2005) إلى سدة الرئاسة الإيرانية؛ حيث تزامن مع نهضة سينمائية متمثلة في الصعود الفني لعدد من المخرجين الإيرانيين البارزين مثل عباس كيارستمي.
الثورة الثقافية الإيرانية «انقلاب فرهنجي»:
السينما الإيرانية في عهد الشاه تميزت بالانفتاح، فالأفلام القديمة كانت الممثلات فيها أكثر جرأة، سواء في الظهور بملابس عصرية وأيضًا في أداء المشاهد العاطفية، فضلًا عن ذلك كانت الموضوعات تتسم بالجرأة الاجتماعية، كما أولى الشاه عناية فائقة بالسينما، تلك العناية كانت سببًا في معاداة الثورة لها منذ بدايتها، فخلال الشهور الأولى للثورة لم تسلم دور السينما من الغضب الثوري، فمثلًا تم حرق دار سينما «ريكس» في مدينة «عبدان» في 18 أغسطس 1978، ما أدى إلى مقتل 400 شخص(1).
أصبحت المرجعيات الدينية مطالبةً بتحقيق مقولاتها الأخلاقية والثقافية التي نادت بها في خضم الزخم الثوري، لذا هدف الولي الفقيه إلى إحداث انقلاب وثورة في قيم المجتمع الثقافية والاجتماعية، فكانت الثورة الثقافية الإيرانية، وهو ما جعل «الخميني» يصدر عدة قرارات لتطبيق ثورة ثقافية داخل المجتمع الإيراني.
«الخميني»
طالب «الخميني»، في 21 مارس من العام 1980 بضرورة القيام بثورة ثقافية لإبعاد كل مظاهر التغريب في المجتمع الإيراني، وأصدر في 13 يونيو عام 1980 مرسومًا بإنشاء لجنة خاصة بالثورة الثقافية(2)، كما أصدر كتاب تحرير الوسيلة الذي أوضح فيه موقف الثورة من الإذاعة والتلفزيون والسينما، وهذا الموقف يتمثل في:
(1) لكل شيء منافع شرعية ومنافع محرمة؛ لذا يجب على المرء تعظيم انتفاعه من المنافع المشرعة، وترك المنافع الحرام، فمثلًا السينما إذا التزمت بالمعايير الشرعية، سواء في الموضوعات أو لبس الممثلات فتصبح منافعها شرعية والعكس صحيح» (3).
(2) تحريم استماع الغناء نهائيًّا(4).
(3) منع السفور والالتزام بالزي الإسلامي الإيراني «الشادور».
(4) تحريم كل المشاهد العاطفية بين الرجل والمرأة كلمس اليد والقبلات والأحضان.
(5) تشجيع ما يُسمى السينما الهادفة التي تقوم على توعية المجتمع بالدين الإسلامي ومواجهة التغريب.
ونتيجة الثورة الثقافية تراجعت الكوادر الأولى للسينما الإيرانية، كما أصبحت الكوادر السينمائية المتبقية تعمل تحت إشراف وتوجيه من قبل المرجعيات الدينية والمؤسسات التي تم تدشينها لمراقبة العمل الثقافي مثل المجلس الأعلى للثورة الثقافية.
«أكبر هاشمي رفسنجاني»
الصعود الإصلاحي في إيران:
بزغ التيار الإصلاحي في إيران بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية (1980 - 1988)، وصعود «أكبر هاشمي رافسنجاني»، إلى منصب رئاسة الجمهورية (1989 - 1997)، ومن بعده «محمد خاتمي» «1997 - 2005»؛ حيث جرت محاولات ،وإن كانت على استحياء لإصلاح الحياة السياسية والاجتماعية الإيرانية(5).
تزامن مع صعود الإصلاحيين بزوغ اتجاه سينمائي قوي تحت مسمى «أفلام التسعينيات» أو أفلام الجيل الثاني من المخرجين الإيرانيين(6) التي نجحت في تكريس الواقعية الجديدة، لتصبح إحدى السمات المميزة للسينما الإيرانية الجديدة، والوصول بها إلى العالمية، من خلال حصدها العديد من الجوائز في المهرجانات السينمائية الدولية، كمهرجان كان، ومهرجان برلين الدولي السينمائي، فمن المؤكد أن السينما الايرانية استفادت من هامش الحرية الذي وفره الإصلاحيون حينما وصلوا للسلطة(7).
المرشد الحالي خامنئي
ثانيًا: المسكوت عنه في السينما الإيرانية:
بعد استعراض أهم الموضوعات التي تناولتها السينما الإيرانية، سواء التي كانت مؤيدة لخط الإمام أو الأفلام الاجتماعية (أفلام التسعينيات)، نجد السينما الإيرانية عمومًا تجاهلت العديد من الموضوعات التي تخص الجانب الاجتماعي والسياسي الإيراني، ومنها على سبيل المثال:
- ممارسات الحرس الثوري: الأفلام الإيرانية عمومًا مقلة في مسألة تناول الاضطهاد السياسي في المجتمع الإيراني، فالفيلم الأكثر وضوحًا في هذا المجال كان «مخطوطات لا تحرق» لـ«محمد رسولوف»، ومن هنا نجد أن ممارسات الحرس الثورى القمعية غائبة تمامًا عن الأفلام الإيرانية.
- فساد السلطة الدينية: عادة ما يتم تناول فساد المؤسسة الدينية الإيرانية على المستويات الدنيا، فمثلًا فيلم «رجم ثريا» تناول فساد الشيخ أو الملا المسؤول عن إحدى القرى، أما القيادات الدينية في المستويات العليا فلم يتم الاقتراب منها رغم ما تشغله من أهمية سياسية في المجتمع الإيراني.
- تجسيد الشخصيات السياسية المهمة: السينما الإيرانية أكثر جرأة من نظيرتها العربية في تجسيد الشخصيات الدينية، مثل الأنبياء مثل نبي الله يوسف وسليمان وإبراهيم الخليل؛ إلا أنها لم تجسد الشخصيات السياسية المهمة كالإمام الخميني، والمرشد الحالي خامنئي، والشخصيات السياسية البارزة كقاسم سليماني.
- حقوق الأقليات: السينما الإيرانية تجاهلت تمامًا مسألة حقوق الأقليات، خاصة السنة والبلوش؛ فالسينما الإيرانية فارسية الهوى، كما تعرض باللغة الفارسية وأي لغة أجنبية دون الاعتداد باللغات المحلية الأخرى، وهو ما قد يسبب انقطاعًا بين شرائح كبيرة في المجتمع الإيراني والسينما.
المخرج الإيراني «محمد رسولوف»
وختامًا، خلصت الدراسة بعد استعراض اتجاهات السينما الإيرانية وأبرز القضايا التي تناولتها والقضايا المسكوت عنها، إلى أن النظام الإيراني استغل السينما الإيرانية لتحقيق الغرضين التاليين وهما:
الغرض الأول: الدعاية السياسية والسينمائية لمقولات نظام الولي الفقيه من خلال الأفلام المؤيدة لخط الإمام والمعبرة عنه، ونجحت تلك الأفلام في إيصال مفاهيم الثورة الإيرانية لكل من الداخل الإيراني من ناحية، ومن ناحية أخرى إلى المجتمعات العربية عبر دبلجة تلك الأفلام.
الغرض الثاني: نجاح النظام في إيجاد متنفس سياسي للقوى الاجتماعية المعارضة عبر التغاضي عن بعض الأفلام، فمثلًا المخرج «جعفر بناهي» ممنوع من ممارسة المهنة؛ نظرًا لاشتراكه في الحركة الخضراء 2009، لكنه نجح في تصوير ثلاثة أفلام سرًّا خلال فترة الحظر المفروض عليه، وهو الأمر المثير للاستغراب، كذلك المخرج الأكثر جرأة «محمد رسولوف» يُمارس عمله سرا داخل إيران رغم وجود أحكام قضائية ضده بالسجن لكنها غير مفعلة.
النظام الإيراني معروف بقوة وبأس أجهزته الأمنية، وبالتالي فكرة تصوير أفلام سرًّا داخل إيران أمر مشكوك فيه حتمًا، فالنظام يتعمد التغاضي عن تلك الأفلام، من أجل تحقيق بعض التنفيس السياسي حتى لا يتعرض المجتمع لحالة الانفجار الثوري.
السينما الإيرانية
وأخيرًا، ما مستقبل السينما الإيرانية؟ في ضوء المتغيرات السابقة يتضح أن صانعي السينما الإيرانية سوف ينتهجون عدة أمور، منها الاستمرار في الابتعاد عن المناطق الشائكة بين السنة والشيعة فكريًّا ومذهبيًّا، تجنبًا للصدام مع الجمهور العربي السني المتابع للسينما الإيرانية، هذا إضافة إلى استمرار المدلولات المذهبية الشيعية في الأفلام الإيرانية القادمة ستحاول التركيز على تضمين تلك المدلولات بأي شكل حتى ولو كان الفيلم غير ديني.
لتفعيل التواصل مع الجمهور العربي من الممكن أن يلجأ صناع السينما الإيرانية إلى استقطاب النجوم العرب في العديد من الأفلام الإيرانية لعدد من الأسباب؛ أهمها على الإطلاق تحقيق هيمنة للسينما الايرانية على العربية وتحقيق أكبر مصداقية للسينما الايرانية في الوطن العربي.
أما فيما يخص الغرب فمن المؤكد أن تستمر إيران في التغاضي عن الأفلام الحائزة على جوائز المهرجانات العالمية لسببين، أولهما: محاولة تحسين صورة النظام الإيراني في الخارج على أنه يسمح لتلك الأفلام بالظهور ولا يمانعها ويتبلور هذا السبب في فترات حكم الإصلاحيين، أما السبب الثاني فهو تحقيق التنفيس السياسي للمجتمع.
أما فيما يخص السياسات الايرانية في منطقة الشرق الأوسط، فقد تلجأ السينما في المستقبل القريب إلى تجسيد الدور الإيراني في سوريا والعراق من منظور يتماشي مع السياسات الإيرانية أي إبراز دورها في حماية المنطقة من التفكك.
الهوامش:
1 ـ حريق سينما ريكس، المعرفة، متاح على الرابط التالي:
https:www.marefa.orgحريق_سينما_ركس
2 ـ اتسمت اللجنة بالطابع الديني حيث جري تشكيلها من المرجعيات الدينية في الحوزة العلمية بمدينة قم، وأنيطت بمحاربة التغريب في المجتمع الإيراني سواء كان ذلك في التعليم أو المؤسسات الثقافية أو السينما، وفي مرحلة لاحقة أضيف لعضويتها رئيس الوزراء ووزراء الثقافة والتعليم العالي والثقافة والإرشاد الإسلامي وطالبين جامعيين جري انتقاءهم من قبل الجهاد الجامعي، وفي نوفمبر 1984 تم تأسيس المجلس الأعلى للثورة الثقافية، وللمزيد تابع:
http:ar.farhangoelm.irالتعريفنبذة-عن-تاريخ-المجلس-الاعلى-للثورة-الثقافية
3 ـ فهمى هويدي، إيران من الداخل (القاهرة: الأهرام، الطبعة الأولي، 1998) ص ص 283 ـ 288.
4 ـ الإمام روح الله الموسوي الخميني، تحرير الوسيلة (دمشق: السفارة الإيرانية بدمشق، الجزء الثاني، 1998) ص ص 569 ـ 571.
5 ـ رفسنجاني.. ورحل “رمز التيار الإصلاحي” في إيران، موقع رأي اليوم، متاح على الرابط التالي:
https:www.raialyoum.comindex.phpرفسنجاني-ورحل-رمز-التيار-الإصلاحي-في
6 ـ تعد فترة التسعينات فترة النضوج الفني لعدد من المخرجين الإيرانيين البارزين مثل محسن مخملباف، وعباس كياروستمي وجعفر بناهي، فخلال تلك الفترة نجحت السينما الإيرانية في الوصول إلى العالمية والحصول على جوائز في المهرجانات العالمية على سبيل المثال فيلم طعم الكرز لكيارستمي نجح في الحصول على السعفة الذهبية في مهرجان كان 1997، كما تم ترشيح فيلم "أطفال الجنة" لمجيد مجيدي لجائزة الأوسكار عام 1998، وفي مرحلة لاحقة تألق المخرج الإيراني أصغر فرهادي حيث نجح في قنص جائزة (الأوسكار) لأفضل فيلم أجنبي مرتين الأولي في عام 2012 عن فيلمه "انفصال نادر وسيمين"، والمرة الثانية في عام 2017 عن فيلمه "البائع"، كما نجح فرهادي في قنص جائزة الدب الفضي في مهرجان برلين السينمائي الدولي عن فيلم "انفصال نادر وسيمين"
7 ـ السينما الإيرانية.. تاريخ وجرأة وهم إنساني، صحيفة الشرق الأوسط، العدد 10468، 27 يوليو 2007، متاح على الرابط التالي: http:archive.aawsat.comdetails.asp?issueno=10261&article=429828#.WsIGmC5uaM8





