زيادة أوروبا للمبادرات العسكرية.. بين متطلبات الحماية والخوف من التفكك
الأحد 22/يوليو/2018 - 03:48 م
محمد عمر
اتفقت 9 دول أوروبية، في الخامس والعشرين من يونيو الماضي، على إنشاء «مبادرة التدخل الأوروبية»، وهي عبارة عن قوة تدخل سريع، تضم قوات من الدول التسع، وستكون مستقلة عن الاتحاد الأوروبي، وكذلك حلف شمال الأطلسي الـ«ناتو».
تلك المبادرة التي جاءت من قِبل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لإقامة تعاون قوي بين جيوش الدول الأوروبية القادرة والراغبة في العمل معًا، وهي بمثابة نواة لقوة أوروبية موحدة، لم تخرج إلى النور، في ظلِّ دخول الاتحاد الأوروبي طور التفكك مع خروج بريطانيا منه، وظهور نوايا لدى آخرون للخروج منه.
أولًا- ما هي مبادرة التدخل الأوروبية؟
أدرك القادة الأوروبيون ضعف إمكاناتهم العسكرية سواء الفردية أو الجماعية، مقارنة بغيرهم، خاصة روسيا والصين، إلى جانب وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب -ذي النزعة الانعزالية- إلى البيت الأبيض، رافعًا شعار «أمريكا أولًا»، ومطالبًا حلفاءه بالاعتماد على أنفسهم، بما يعني عمليًّا ضعف الحماية الأمريكية المتوفرة لأوربا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية في عام 1945، وهو ما دفع دول الاتحاد الأوروبي إلى العمل على تشكيل كيانات ومؤسسات أمنية وعسكرية بشكل سريع دون الدخول في مفاوضات طويلة ونظرية، لا تتوافق وطبيعة التغيرات الاستراتيجية التي لحقت النظام الدولي وكذلك القارة الأوروبية.
ومن بين المبادرات السريعة التي اتخذتها القارة الأوروبية، تشكيل «قوة التدخل السريع» أو «مبادرة التدخل الأوروبية»، ويشارك فيها حتى الآن 9 دول أوروبية وهي «فرنسا، وألمانيا، وإسبانيا، وهولندا، وبلجيكا، والبرتغال، والدنمارك، وإستونيا»، إضافة إلى بريطانيا التي خرجت من الاتحاد الأوروبي، إلا أنها لا يمكنها إهمال التعاون الأمني والعسكري مع أبناء قارتها (1).
ورغم ذلك فإن هناك رافضين ومشككين في التشكيلات العسكرية الأوروبية، التي تتم بخُطى متسارعة ولا تلبي مطالب جميع المشاركين، ومن بين هذه الدول «إيطاليا»، التي وافقت في البداية على المشاركة، لكنها مازالت مترددة حتى الآن.
ومن ضمن مهام القوة الأوروبية الجديدة، نشر قوات عسكرية ومواجهة التهديدات التي من المحتمل أن تتعرض لها الدول الأوروبية، مثل الكوارث الطبيعية، لكن الأهم والغرض الأساسي هو التدخل العسكري في الأزمات الطارئة، فقد ثبت ضعف دول الاتحاد الأوروبي بشكل كبير سواء في حماية الحدود والسواحل الأوروبية من موجات اللاجئين غير الشرعيين، بخلاف كشف قدراتها خلال تدخلها في ليبيا عام 2011 للإطاحة بمعمر القذافي، فقد احتاجت إلى دعم أمريكي سواء بالطائرات أو الذخائر لتنفيذ عملياتها.
وجاءت هذه المبادرة بشكل أساسي من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون؛ لتعزيز التعاون الأوروبي الدفاعي، وإقامة تعاون بين جيوش الدول الأوروبية «القادرة والراغبة»، للعمل والرد بشكل سريع وفوري بعيدًا عن حلف شمال الأطلسي، وكذلك الاتحاد الأوروبي الذي لا يمتلك حتى الآن قوة عسكرية موحدة، رغم أنها في طريقها للتنفيذ منذ سنوات، إلا أن كثيرين يشككون في سرعة إتمام هذا الأمر، في ظلِّ بروز خلافات جوهرية بين أعضاء الاتحاد، دفع إحدى أهم الأعضاء للخروج منه، بخلاف ظهور نزعة شعبوية لدى الأوربيين تشكك في جدوى الاتحاد.
وجاء الطرح من قبل فرنسا؛ لأنها الآن تحمل عبء الدفاع عن الاتحاد الأوروبي، خاصة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد، وبالتالي لا يوجد له مظلة نووية أوروبية سوى فرنسا، بخلاف قدراتها التقليدية العسكرية، مقارنة بغيرها من دول الاتحاد مثل ألمانيا صاحبة القدرات العسكرية الضعيفة، وغير القادرة على مجابهة تحدٍ حقيقي من خصم مثل روسيا، أو القدرة على حماية المصالح الأوروبية في الخارج مثل مشاركتها في العمليات العسكرية في سوريا والعراق وليبيا وبعض الدول الأفريقية.
وتؤكد تصريحات وزيرة الدفاع الفرنسية «فلورنس بارلي»، أن «الأوروبيين ينبغي أن يكونوا أقوياء وأكثر قدرة على حماية أنفسهم وسيادتهم»، وأنهم لم يعد لديهم ثقة في أن واشنطن ستوفر لهم الحماية بشكل كامل، حيث سبق وتم اختبار هذا الأمر، إزاء التدخل الروسي في أوكرانيا وضم جزيرة القرم، فاقتصر التحرك الأمريكي وقتها على المفاوضات وفرض العقوبات على موسكو، ولم تستطع أن تأخذ خطوات أبعد من ذلك، مشيرة إلى أنهم يريدون أوروبا قادرة أكثر على ضمان أمنها الخاص.
ولمحاولة التخفيف من خطورة هذه المبادرة، اعتبرت فرنسا أنها «تتكامل» مع حلف الأطلسي، ولن تؤثر عليه، ففي حال تشكيل قوة أوروبية أو جيش أوروبي فاعل لن يكون لـ«ناتو»، أهمية كبيرة مثلما كان عليه منذ تأسيسه، وهو ما يجعل واشنطن تحرض بعض الأعضاء على رفض هذه التحركات؛ لأنه سيضعف موقفها، فهي مازالت تريد أن تكون التحركات العسكرية الأوروبية من خلالها، وليس بعيدًا عنها، رغم انتقادها لضعف الإنفاق الأوروبي العسكري.
ثانيا- لماذا تزيد أوروبا من ترتيباتها العسكرية؟
أجبرت التغيرات الاستراتيجية سواء في النظام الدولي أو النظم الإقليمية، القوى الكبرى على تغيير سياستها سواء الاقتصادية أو العسكرية، وسياسة تحالفاتها، فالصين تخطط للسيطرة الاقتصادية مدفوعة بقوى عسكرية ضاربة قيد التأسيس، بخلاف روسيا التي زادت أطماعها وطموحاتها في عهد الرئيس فلاديمير بوتين، الذي لم يكتف بالتحركات العسكرية، وإنما وصل الأمر للتدخل في الانتخابات والاستفتاءات التي تجري داخل أوروبا، ودعم تيارات سياسية مثل اليمين المتطرف، والتي تشكل خطرًا على وحدة الاتحاد الأوروبي.
وعندما طرح الرئيس الفرنسي «ماكرون» فكرة «مبادرة التدخل السريع» لأول مرة في سبتمبر 2017، قوبل الأمر بتشكك من قبل الكثيرين؛ لأن الاتحاد الأوروبي طرح قبلها مبادرات لتشكيل قوة دفاع أوروبية، حيث رفضت ألمانيا فكرة المهام العسكرية لمبادرة ماكرون، ففرنسا دخلت في عدة أزمات عسكرية منها التدخل في مالي عام 2012 وقبلها في ليبيا، ولم يكن لديها استعداد كامل في الحربين، وكانت بحاجة إلى دعم من أصدقائها غير المستدعين بالأساس.
وسبق لـ23 دولة من دول الاتحاد الأوروبي، التوقيع على اتفاق «Pesco» (التعاون الهيكلي الدائم في الأمن والدفاع بيسكو) لإقامة «اتحاد دفاعي» أوروبي مشترك في نوفمبر 2017، وهو الأول من نوعه منذ إنشاء الاتحاد، (2) الذي اعتبره الكثيرون معاهدة لإنشاء جيش أوروبي موحد سيهدد بقاء حلف الناتو.
ويشير القرار إلى تحرك أوروبا باتجاه اكتفاء ذاتي في مجال الدفاع، وليس الاعتماد على حلف شمال الأطلسي (ناتو)، فالمشاركة في الكيان الدفاعي طواعية للدول الأعضاء بالاتحاد، حيث لا تزال إيرلندا والبرتغال ومالطا دول غير منضمة للاتفاق وتفكر في اللحاق بهم، بينما رفضت الدنمارك وبريطانيا فكرة الانضمام كلية.
ولعدم تنفيذ اتفاق «بيسكو» حتى الآن، نتيجة للصعوبات العملية التي توجهه وحتى في حال إتمامه سيأخذ وقتًا طويلًا، وهو ما لا يتوافق وطبيعة المرحلة الحالية ذات الارتدادات السريعة، لذا أرتأت فرنسا تنفيذ مبادرة التدخل السريع، على عجالة؛ لأنها تواجه تحديات كبيرة في مالي، ولم تستطع حسم الأمور حتى الآن لصالحها، بخلاف عدم استقرار الأوضاع لصالحها في ليبيا أيضًا التي تمثل تهديدًا مباشرًا ليس لمصالح فرنسا فقط، وإنما أوروبا.
ويضاف إلى ذلك موجات اللاجئين التي ضربت أوروبا، بخلاف العمليات الإرهابية التي طالت دول الاتحاد الأوروبي، وهو ما لم تستطع التعامل معه بالقضاء على جماعات التطرف في منابعها بسرعة؛ ما كبدها الكثير اقتصاديًّا وسياسيًّا وأمنيًّا.
ومن المقرر أن يعلن الرئيس الفرنسي في شهر سبتمبر المقبل، المزيد من التفاصيل عن تكوين مبادرة التدخل السريع، التي -إن نجحت- ستكون نواة حقيقية لتحقيق وتنفيذ اتفاق «بيسكو»، فلم يتم كشف تفاصيل أو ميزانية كلا الاتفاقين، فما تم حتى الآن مجرد ترتيبات سياسية متناقضة في الكثير من محتوياتها، وإذا نجحت تجربة التدخل السريع فستدفع باقي الأعضاء أو معظمهم إلى الإسراع في تنفيذ الاتفاق الأكبر الذي سيؤسس جيشًا أوروبيًّا موحدًا لأول مرة في تاريخ الاتحاد.
ثالثًا- مستقبل التعاون العسكري بين الدول الأوروبية
يتضح أن التحولات السياسية التي فاجأت الأوروبيين، دفعتهم مجبرين إلى محاولة تشكيل كيانات عسكرية لحمايتهم، كما تم من قبل في مراحل تطور الجماعة الأوروبية، وصولًا للاتحاد الأوروبي الذي وصل لدرجة توحيد العملة والسياسات المالية والاقتصادية والتجارية، ووقف عند التكامل العسكري، معتمدين في ذلك على حلف الناتو والحماية الأمريكية، لذا خفضوا الميزانية العسكرية، وتراجع الاهتمام بتسليح وتدريب قواتهم المسلحة.
ورغم نص اتفاق حلف الناتو على إنفاق الأعضاء 2% من الناتج المحلي على القدرات الدفاعية، إلا أن الدول الأوروبية الأعضاء في الحلف تخصص سنويًا 1.2% من الناتج المحلي للنفقات العسكرية، بينما تخصص الولايات المتحدة 3.3% من ناتجها المحلي للأغراض الحربية (3)، بخلاف بريطانيا التي تحقق نسبة 2%، وهو ما دفع «ترامب» إلى مطالبة هذه الدول بزيادة إنفاقها والاعتماد على نفسها، فقد خفضت واشنطن بشكل مستمر للقوات العسكرية الأمريكية في أوروبا من 440 ألف فرد في عام 1957 إلى 67 ألف فرد في عام 2015، وهو توجه أمريكي وليس نابعًا من «ترامب» فقط، الذي زاد من سرعة التشرذم السياسي في أوروبا، وتسبب في اتساع هوة الخلاف مع دول الاتحاد.
وتُظهر العديد من البيانات مدى ضعف الجيوش الأوروبية، فمثلًا لا يمتلك 25% من أعضاء الناتو قوات جوية، ولا يمتلك 30% منهم قوات بحرية، أو لديهم قوة بحرية أقل من 600 بحار، ونصف الأعضاء يمتلكون جيشًا نشطًا قوامه أقل من 20 ألف جندي (4).
ونتيجة لهذا الضعف الذي انكشف أمام التراجع الأمريكي، وزيادة التدخلات الروسية والطموحات الصينية، رأت الدول الأوروبية أنها مجبرة ومكرهة على الدخول في ترتيبات عسكرية، ليس لزيادة النفوذ والمكانة وإنما حفاظًا على البقاء، وردعا لمحاولات روسيا تهديد أمن القارة التي بدأت بالفعل من أوكرانيا وجزيرة القرم، ومستمرة في التحرش بدول شرق القارة.
مستقبل أوروبا العسكري
ختامًا، ستكشف التحركات المقبلة بقيادة فرنسا وألمانيا، مستقبل التشكيلات العسكرية الأوروبية الدفاعية، فإن نجحت في وضع إطار تنفيذي محدد وقواعد ملزمة لمبادرة التدخل السريع، فإن هذا سيقود بشكل أسرع نحو تطبيق اتفاق «التعاون الدائم في الأمن والدفاع بيسكو»، الذي سيكون أقرب لجيش أوروبي موحد.
لكن الخلافات السياسية بين الأعضاء قد تعصف بهذا الأمر، الذي لم يعد مجرد طموح تأجل تنفيذه؛ لأن الأوضاع الدولية لم تتطلبه، وإنما ضرورة لضمان بقاء دول أوروبا الصغيرة في أمن من التهديدات الروسية المتزايدة.
المصادر:
1- فرنسا تدشن قوة عسكرية مع بريطانيا ودول أخرى لمواجهة الأزمات، وكالة رويترز، 2562018.
2- الاتحاد الأوروبي يضع حجر الأساس للوحدة الدفاعية، دويتش فيلله، 13112017.
3- آية عبدالعزيز، الخروج الآمن.. الاستراتيجية الأمنية والدفاعية المشتركة لدول الاتحاد الأوروبي بعد «البريكست»، مركز البديل للتخطيط والدراسات الاستراتيجية، 24112017.
4- ستيفان سويسانتو، أوروبا تحتاج إلى جنود أقل لكن أكثر أوروبية، مجلة الناتو.





