«السلفية المحتسبة».. الردة على مسيرة التنوير
الخميس 12/يوليو/2018 - 10:14 م
محمد الدابولي
في البداية واجه مؤسس الدولة «عبدالعزيز آل سعود» معارضة شديدة لعملية التنوير والحداثة من قبل الجماعات المتطرفة المتمثلة في جماعة «إخوان من طاع الله»، بقيادة «فيصل الدويش»، وانتهت المواجهات بين الطرفين بانتصار الملك وانهيار الجماعة في «معركة السبلة» عام 1929.
وفي المرحلة اللاحقة شهدت المملكة عملية تحديث وتطوير تواكبت مع عملية الاكتشافات البترولية الهائلة، التي مكنتها من لعب دور محوري متميز في العالمين العربي والإسلامي، وفي الوقت ذاته شهدت الحركة الدينية في المملكة تطورات وتحولات عديدة؛ حيث خرجت العديد من الجماعات الدينية، التي كان هدفها في الأساس التمسك بتعاليم الدين الإسلامي، ومن أبرز تلك الجماعات الجماعة السلفية المحتسبة التي نشأت في أواسط ستينيات القرن العشرين.
إرهاصات النشأة
خلال فترة الستينيَّات، شهدت المملكة عملية متسارعة من النمو والتطور على يد حاكمها في ذلك الوقت الملك «فيصل بن عبدالعزيز» الذي واجه هو الآخر معارضةً شديدةً من متطرفي المملكة لعملية التطوير والتحديث في البلاد.
وخلال تلك المرحلة اندلعت بعض الاضطرابات في السعودية، التي نفذها بعض المتطرفين المعارضين لعملية التنوير والتحديث في المملكة؛ ففي 8 سبتمبر 1965 حاول بعض المتطرفين اقتحام مبنى الإذاعة والتليفزيون في الرياض؛ لاعتقادهم بحرمانية التليفزيون، وأنه يُمثل ردة على الإسلام، ونجحت القيادة السعودية في السيطرة على الموقف، ووقف عملية التطرف بعض الوقت.
ورغم فشل محاولة اقتحام التليفزيون في الستينيَّات فإنها مثلت الشرارة الأولى لظهور الجماعات المتطرفة والإرهابية في المملكة، وخلال تلك الفترة تقريبًا عام 1965 نشأت جماعة «السلفية المحتسبة» على يد «جهيمان العتيبي».
الشطط والغلو الفكري
«الجماعة السلفية المحتسبة»، أو يسمي بـ«الجهيمانية»، مثلها مثل غيرها من الجماعات السلفية في المملكة، شهدت بعض الترحيب من قِبَل القيادات الدينية الكبرى في المملكة، مثل الشيخ «عبدالعزيز بن باز» مفتي المملكة الراحل، وأيضًا من خارج المملكة الشيخ «أبوبكر الجزائري»، فالجماعة كغيرها من الجماعات السلفية تزعم أن هدفها محاربة البدع والمنكرات وتطبيق الشريعة الإسلاميَّة.
سرعان ما اكتشف الشيخان غلو وتطرف الجهيمانية، وحاولا إثناء أعضاء الجماعة عن تطرفهم، إلا أن جهودهما باءت بالفشل؛ حيث استحكمت مقادير التطرف والإرهاب في عقولهم، ما أدى إلى انشقاق الشيخ أبي بكر الجزائري عن الجماعة، وتهديد ابن باز للجماعة بإصدار فتوى تُجرم نشاط الجماعة.
وفي إطار الحرب الفقهية المكتومة بين جهيمان العتيبي والمؤسسات الدينية السعودية التي تيقنت من غلوه وتطرفه، لجأ «جهيمان» إلى محاولة التنظير الديني لجماعته؛ فأصدر عددًا من الكتب التي تحدد منهاج جماعته، مثل كتاب «رفع الالتباس عن ملة من جعله الله إمامًا للناس»، وأيضًا أصدر «الرسائل السبع»، ففي تلك الرسائل حدد «جهيمان» معظم أفكاره التي تتمثل في:
1- «رفض الحداثة»، إذ يرفض «جهيمان» كل أشكال الحداثة التي تمر بها الدولة والانفتاح على العالم، ويرى أن محاولات التقدم والتحديث تعتبر كفرًا وردة عن تعاليم الإسلام، ويجب العمل على العودة إلى سيرة المسلمين الأولى وتطبيق الشريعة الإسلامية.
2- «نظرية المُلك الجبري»؛ حيث تبنى «جهيمان» مفهوم الملك الجبري، الذي يطبق الشرع ويلتزم بالتعاليم الدينية، وبذلك نجد أن مفهوم الديمقراطية واختيار الحاكم من قبل المجتمع أمرٌ منافٍ للدين الإسلامي، فالحاكم يجب أن يكون جبريًّا، بشرط أن يطبق الشريعة الإسلاميَّة، وحاول «جهيمان» تطبيق تلك النظرية على أرض الواقع حينما قام بأحداث الحرم المكي 1979.
3- «الخلافة الإسلاميَّة»: دعا «جهيمان» إلى إقامة الخلافة الإسلامية، وحدد شروطًا خاصة يجب توافرها في الخليفة، وهي مطابقة للشروط التي حددتها المصادر الشرعية، مثل أن يكون الخليفة مسلمًا قرشيًّا ومقيمًا للدين، ويلاحظ أنه خلال احتلاله للمسجد الحرام روَّج لتطابق تلك الشروط على صهره «محمد عبدالله القحطاني» الذي ادعى أنه المهدي المنتظر.
4- «البيعة»: طالب «جهيمان» بأن تكون البيعة وفقًا للكتاب والسنة، ورأى بعدم وجود بيعة للحكام المسلمين، وضرورة الخروج عليهم لأسباب عديدة، أبرزها عدم التزامهم بالكتاب والسنة وعدم إقامتهم للدين، فضلًا عن كونهم ليسوا قرشيين.
ويلاحظ من كتابات «جهيمان» تأثره الشديد بالحركة الراديكالية الإسلامية في مصر ومفكريها، فالكثير من الكتابات تُشير بوضوح إلى تأثره بكتابات «سيد قطب» وأفكار «شكري مصطفى» مؤسس «جماعة المسلمين»، لذا يمكن القول إن «جهيمان» عمل على نقل التجربة المصرية في الجماعات الإرهابية، خاصة جماعة المسلمين أو ما يُسمى إعلاميًّا «التكفير والهجرة» إلى داخل السعودية، وهو ما يدل على كثرة المكون المصري في أعضاء جماعته.
«جهيمان».. متطرف أم متسلق؟
يلاحظ من السابق أن «جهيمان» ذو شخصية متطلعة تريد السيطرة والظهور، ففي البداية لم يستسغ فكرة وجود مرجعيات دينية كبرى تتولى إدارة الجماعة، كالشيخ الجزائري أو الشيخ ابن باز، وعمل على إخراج العالمين من الجماعة من أجل أن تبقى الجماعة جهيمانية خالصة.
وينتمي «جهيمان» إلى منطقة «ساجر» بالرياض التي كانت ضمن مناطق تمركز «جماعة إخوان من طاع الله»، التي تميزت بتطرفها الشديد ومعاداتها لعملية التطوير والتحديث في المملكة.
في عام 1979، ارتفعت طموحات جهيمان العتيبي في الوصول إلى السلطة والحكم، ففي بداية العام نجحت الثورة التي قادها بعض الطلاب الإيرانيين في الإطاحة بحكم الشاه وتولية الفقيه «الخميني» حكم البلاد في إيران، وهو الأمر الذي داعب مخيلة العديد من الجماعات الإسلامية في الوطن العربي، وعلى رأسها الجماعة السلفية المحتسبة.
ورأى «جهيمان» إمكانية تكرار الثورة الإيرانية في بلاد الحرمين، إلا أن دوافع الثورة الإيرانية لم تكن موجودة في السعودية، ما دفعه للتنقيب في التراث الديني لعله يجد مخرجًا لطموحاته السلطوية، فوجد الأحاديث المتعلقة بخروج المهدي المنتظر وإقامة الدولة الإسلامية ورفع الظلم وتحقيق العدل.
استولت فكرة المهدية على عقل ووجدان «جهيمان»، حتى بدأ تنفيذ خطته الشيطانية، ففي البداية أقنع صهره «محمد بن عبدالله القحطاني» بأنه المهدي المنتظر، وأن كل الشروط الخاصة بالمهدي تنطبق عليه تقريبًا من حيث مكية الميلاد والنسب القرشي.
كما لعب التوقيت أيضًا دورًا بارزًا في تعزيز طموحات «جهيمان»، فالعالم الإسلامي كان مشرفًا على استقبال قرن هجري جديد، وهو ما يتوافق مع الحديث النبوي الشريف: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها»، وهو ما عزز من فكرة خروج المهدي المنتظر التي زعمها «جهيمان»، لذا يمكن القول إن «جهيمان» شخص يعشق السيطرة والوصول، الأمر الذي دفعه إلى تبني رؤى وأفكار أكثر تطرفًا وإيلامًا للمسلمين.
اقتحام الحرم
بلغت الجماعة السلفية المحتسبة أو الجهيمانية أوج ظهورها في نوفمبر 1979 - 1 محرم 1400، حين ادَّعى «جهيمان العتيبي» أن «محمد عبدالله القحطاني» هو المهدي المنتظر، وأنه يجب أخذ البيعة له في الحرم.
تسارعت الأحداث يوم 20 نوفمبر 1979؛ حيث تسلل أنصار «جهيمان» إلى المسجد الحرام مدججين بالسلاح الذي تم إخفاؤه في نعوش الموتى، وتمت السيطرة على المسجد الحرام واحتجاز الرهائن المصلين فيه، وتم أخذ البيعة للقحطاني على أنه المهدي المنتظر.
من المؤكد أن حالة من الارتباك سادت الأوساط الإسلامية وليست السعودية فقط، في محاولة تفسير ماذا يحدث، ولتدارك الأزمة لجأت المملكة إلى استصدار فتوى من كبار العلماء تتيح للسلطات الأمنية وقوات الحرس الوطني دخول المسجد الحرام بالسلاح حتى يتم تحرير المسجد والرهائن والقبض على الفئة الضالة التي روعت المسلمين ودنست أطهر بقاع الأرض، وهو ما تم بالفعل في 4 ديسمبر 1979؛ حيث تم قتل القحطاني المهدي المزعوم، وتم القبض على «جهيمان» ومعاقبته بالإعدام، وبتحرير الحرم يكون الفصل الأخير من السلفية المحتسبة في المملكة قد كُتِبَ.
ويلاحظ أن المجموعة التي نفذت اقتحام الحرم، أصيبت بنوع من الارتباك الشديد بعد مقتل القحطاني، متسائلين هل يقتل المهدي المنتظر؟ إنه ليس المهدي المنتظر، وأن ادعاءه كان كاذبًا، الأمر الذي أسهم بشكل كبير في تثبيط نفوسهم واستسلام بعضهم.
وتحاول بعض التفسيرات، أن تشير إلى أن محاولة جهيمان لاحتلال الحرم كانت مجرد نواة لعمل إجرامي أكبر، كان هدفه السيطرة على مقاليد الحكم والسلطة في المملكة، وأن لـ«جهيمان» أتباعًا في أنحاء المملكة كافة، كانوا على وشك التحرك لتنفيذ مخططهم الشيطاني، إلا أن ثمة خطأ حدث عرقل تحركاتهم، وبقي أتباع جهيمان بعيدين عن عين الأجهزة الأمنية.
ولعل ما يعزز هذا التفسير أو التحليل، هو ظهور العديد من العناصر السعودية في مراحل لاحقة تبنت فكرًا متطرفًا وإرهابيًّا مثل مؤسس تنظيم «القاعدة» «أسامة بن لادن».
جهيمانية جديدة
تجري حاليًّا في المملكة عملية تطوير وتحديث كبرى، تُمثل نقلة نوعية كبرى للمملكة، وهو ما قد يستفز التيارات المتطرفة في المملكة، لذا تدور تساؤلات حاليًّا حول إمكانية ظهور فرق أو جماعات جهيمانية جديدة في المملكة تحاول عرقلة مسيرة التنوير.





