التكفير لدى جماعات الإسلام الحركي.. من الإيمان إلى المراجعة
اشتعلت نيران تكفير الآخر -بصورة قاسية- في التاريخ الإسلامي منذ عهد الخوارج، ولم تنطفئ جذوتها حتى الآن، بل ربما صارت مثل كرة لهب تكبر كلما مرَّ الزمن، ولا يغتر عاقل بهدوئها على فترات تاريخية، فهو هدوء زائف، كرماد ملتهب تحت نار تبدو خامدة، ويعود اشتعال التكفير ومن ثم هدوء وتيرته، إلى عدة أسباب اجتماعية وسياسية وفكرية مختلفة.
وشهدت العقود
الأخيرة بزوغ نجم فكرة التكفير بصورة لم يسبق لها مثيل في التاريخ الإسلامي، وذلك لظهور جماعات الإسلام الحركي في عدة دول، وتمكنها من تنفيذ هجمات إرهابية
في مختلف بلاد العالم في المشرق والمغرب؛ حيث ترفض تلك الجماعات التعامل مع الآخر،
وتعتقد أنها تتحدث باسم الله، وأن كل من يخالفها كافر، ويعارض أحكام الرب؛ لذا
فالنار موطنه.
دراسة الظاهرة وتفكيك المصطلح
عودة المصطلح مرة أخرى إلى الواجهة، وشغله اهتمام الناس وجل تفكيرهم، دفع الدكتورة أحلام محمد السعدي، إلى إجراء دراسة حول ظاهرة التكفير لدى حركات الإسلام الحركي بعنوان «فكر التكفير عند جماعات الإسلام السياسي من الاعتناق إلى المراجعة»، والمنشورة في مؤتمر «ظاهرة التكفير – الأسباب – الآثار - العلاج» بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالمملكة العربية السعودية.
وتهتم الدراسة بالتعرف على الرؤى والأفكار التكفيرية للجماعات الإسلامية ومرجعيتها، وذلك من خلال مرحلتين، المرحلة الأولى خلال الاستخدام الفعلي لتلك الأفكار، وما نتج عنها من أعمال إرهابية عنيفة ضد الدولة، وفي المرحلة الثانية خلال المراجعات الفكرية، والتي أعقبت في بعض الدول المواجهات العسكرية، وما نتج عنها من تراجع في عدد العمليات الإرهابية.
وطرحت الباحثة عدة تساؤلات حول العوامل التي أدت إلى ازدهار ظاهرة التكفير خلال النصف الأخير من القرن العشرين في العالم العربي، ومدى مساهمة الرؤى التكفيرية في بناء النسق العقائدي والاعتقادي لدى جماعات الإسلام الحركي، وهل نجحت المراجعات الفكرية في إنهاء جذور التطرف في الحالات المختلفة التي طبقت بها؟.
الخطاب التكفيري ونقد مساراته
وانقسمت الدراسة إلى قسمين أساسيين، القسم الأول يتناول الخطاب التكفيري لدى جماعات الإسلام الحركي بداية من سيد قطب إلى تنظيمات العنف الراديكالي في الوقت الراهن، ويتناول القسم الثاني دراسة نقدية لخطاب التكفير والمراجعات الفكرية التي تمت لأعضاء جماعات وتنظيمات الإسلام السياسي.
وفي القسم الأول من الدراسة، تشير الباحثة إلى أن الكثير من المحللين والمتخصصين في دراسة الحركات الإسلامية أرجعوا جذور الفكر المتطرف في العصر الحديث داخل الدول العربية إلى أفكار سيد قطب، القيادي البارز في جماعة الإخوان المسلمين، وانتشار كتبه ومؤلفاته بين أفراد وأعضاء تلك الحركات.
وروَّج سيد قطب لمفاهيم خاطئة حول الحاكمية، مكفرًا خلالها المجتمع والمواطنين، واعتمد قطب في أفكاره على أبي الأعلى المودودي، وعلى الرغم من أن كلاهما نشط في مجتمعات وبيئات مختلفة، إلا أنه يمكن ملاحظة التواصل الفكري، وذلك من خلال اعتماد كلاهما على مفاهيم وتعبيرات متقاربة في كتاباتهما.
ولم تتوقف منظومة الخطاب التكفيري لدى سيد قطب على تكفير الأفراد والمواطنين فقط، ولكنها امتدت إلى ما هو أبعد من ذلك؛ حيث عمل على تكفير الأمة والمجتمع والدولة، وذلك انطلاقًا من عدة عوامل طرحها في مؤلفاته المختلفة مثل «معالم على الطريق»، وفي مقدمتها ماهية الفرد المسلم، وشمولية التكفير، والعصبة المسلمة.
سيد قطب وتأثيره التكفيري
وتوصلت الباحثة خلال هذه النقطة إلى نتيجة مفادها أن قراءة الوثائق الخاصة بحركات الإسلام الحركي، تدل على تأثر أفراد تلك الجماعات بفكر سيد قطب المكفر للمجتمع، وهو ما يَظهر بوضوح ليس في الجماعات الإرهابية داخل مصر فقط، ولكن في مختلف الدول بالعالم العربي، على الرغم من اختلاف ظروف النشأة والاستراتيجيات الخاصة بكل تنظيم وجماعة.
ووضع الباحثون تقسيمًا ثلاثيًّا لأنماط التكفير التي تتبناها الجماعات الإرهابية اعتمادًا على أفكار قطب، النمط الأول وهو «نمط التكفير الاجتماعي الشامل»، والنمط الثاني هو «نمط التكفير السياسي الحصاري»، والنمط الثالث هو «التكفير الحصاري الأيديولوجي»، وجاءت الأنماط الثلاثة من رحم أفكار سيد قطب، وإن كانت الجماعات الإرهابية تختلف في تفسير تلك الأفكار؛ ما أسهم في ظهور أنماط مختلفة منها.
وعمدت الباحثة في دراستها إلى تحليل خطابين للجماعات التكفيرية، يتمثل الخطاب الأول في تكفير المجتمع والنظام، وترى الباحثة بأنه يتمثل في جماعة التكفير والهجرة، والتي أسسها شكري مصطفى، عضو جماعة الإخوان المسلمين، والذي كفر المجتمع ككل في مصر وغيرها.
وحصر «شكري» الإسلام في جماعة الإخوان، واعتبر أن كل مَن يخرج من أفكارها لا يعد مسلمًا صحيحًا، وهو الفكر الذي دأبت جماعة الإخوان على نشره، على الرغم من أنها لا تمثل الدين الإسلامي ولا أفكاره، ولكنها تعتمد على استغلال الدين للحصول على مكاسب سياسية، وللوصول إلى السلطة.
أما الخطاب الثاني يتمثل في تكفير السلطة، أو ما يُعرف بـ«الخطاب التكفيري السياسي الحصاري»، ويختلف عن النوع الأول في كونه لا يقوم بتكفير المجتمع ككل، ولكنه يقوم بتكفير النظام فقط، ولا يعني هذا أن هذا النوع أقل خطوة من النوع الأول؛ لأنه في مضمونه لا يرى بأن هناك مسلمين سوى أعضائه، ويعتبر ما يؤمن به خطوة أولى لتكفير الجميع، ووضعت الباحثة ملخصًا للرؤية التكفيرية للجماعة الفنية العسكرية، والتي تعتمد على الخطاب الثاني، والقواعد الثلاث التي تعتمد عليها في التكفير.
وفي المبحث الثاني، تقدم الباحثة نقدًا لخطاب التكفير والمراجعات الفكرية التي اعتمدت عليها جماعات الإسلام السياسي، وترى الباحثة أن بداية فقه المراجعات جاء مع كتاب «دعاة لا قضاة» لحسن الهضيبي، اعتراضًا على أفكار سيد قطب، معتبرًا أن الهدف هو الدعوة وليس الحكم، كما عبر في كتابه.
مبادرات وهمية ومراجعات زائفة
ولعل المحاولة الأبرز والأهم تكمن في مراجعة الجماعة الإسلامية في مصر، والتي جاءت بعنوان «مبادرة نبذ العنف»، والتي أصدرتها عام 1997، والتي اعتبرها البعض تحولًا مهمًّا في علاقة الجماعة بالسلطة السياسية، وامتدت لتظهر في عدة دول عربية، مثل «دراسات تصحيحية» للجماعات الإسلامية في ليبيا.
وعلى الرغم من المحاذير التي صاحبت إعلان المبادرة، مثل عدم التزام أعضاء الجماعة عند خروجهم من السجون، واتخاذهم لتلك المبادرة كسبيل للخروج من السجون، ثم يعودون إلى نشاطهم الإرهابي السابق، وهو ما لم يحدث (مؤقتًا)، ولكن تم إثبات صحة الخطوة والتزام الجميع آنذاك.
وترى الباحثة أن الخطوة الأهم في سلسلة المراجعات تكمن في إطلاق السيد إمام الشريف، الملقب بـ«مفتي المجاهدين في العالم»، وثيقة بعنوان «ترشيد العمل الجهادي في مصر والعالم»، والتي نشرها عام 2007، وطالب فيها بإعادة النظر في كتبه الثلاثة التي أصدرها في الفترة ما بين عامي 1988 و2006، وعدم الاعتماد على مقولاته وتصريحاته السابقة.
وأعلنت مختلف الجماعات التي لجأت إلى المراجعات الفكرية، سواء في مصر أو غيرها من الدول العربية، أن هذه المراجعات جاءت لإبراء الذمة من العمليات الإرهابية وأعمال العنف، التي تعتمد على أفكارها، وأنها بمثابة عودة للحق والطريق الصواب، الذي يمثل صحيح الدين الإسلامي، بالإضافة إلى تحسين صورة الدين في الخارج، وعدم ربط صورته بالأعمال الإرهابية والجماعات ذات الفكر المتطرف.
وأوضحت الدراسة الجانب النقدي السلبي لتلك المراجعات؛ حيث يرى بعض الباحثين أن هؤلاء الأفراد ليسوا المحرك الأساسي للتيار الجديد من جماعات الإسلام الحركي الإرهابية المنتشرة في تلك الفترة حول العالم، لذا فإن إعلانها التوقف عن العنف لا يزيد عن كونه مجرد «تحصيل حاصل»؛ لأنه لم يبق منها سوى الاسم فقط.
وترى الباحثة في ختام دراستها أن تبني الأفكار المغلوطة حول أحكام الإسلام من قبل الجماعات الإرهابية يعتمد على فكر سيد قطب، وأن الحل يعتمد على المواجهات الفكرية السليمة بدون تهويل أو تهوين.





