البرازيل.. بين انهيار اليسار وصعود اليمين المتطرف
يبدو أن الأزمة السياسية التي يمر بها العالم، والتصاعد الكبير لتيارات اليمين المتطرف، أثرت على الأمريكيين الجنوبيين، فالتقهقر اليساري حاضرٌ وبقوةٍ؛ ليس في البرازيل فحسب؛ بل في معظم دول أمريكا الجنوبية، التي يواجه غالبية القائمين على سياساتها من اليساريين اعتراضات على خلفية اتهامات بالتورط في قضايا فساد، وقهر الممارسة السياسية، إلى جانب تراجع معدلات التنمية.
وقد ساهمت تلك الأوضاع في إتاحة المجال للتيارات اليمينية المحافظة للوجود بقوة، وهو ما يُستدل عليه من نتائج الانتخابات الرئاسيَّة الأخيرة، التي انعقدت في عددٍ من دول القارة منها: البرازيل، وتشيلي، والأرجنتين، وكولومبيا، وبيرو، وباراجواي، التي أسفرت عن فوز مرشحين يمنيين، في مؤشرٍ جديدٍ لعودة الزعماء النيوليبراليين، واندثار التيارات اليسارية التي هيمنت على المشهد قرابة عقدين من الزمن
شهدت البرازيل خلال أكتوبر 2018، حراكًا سياسيًّا، في ظل أوضاعٍ اقتصادية قاسية، وأزمة ثقة تنتاب الطبقة السياسية، كانت أبرز تداعياته تراجع اليسار البرازيلي، بعدما تنافس المرشحان؛ «جايير بولسونارو» عن تيار اليمين، و«فرناندو حداد» المرشح اليساري. وأسفر هذا التنافس عن انتخاب مرشح اليمين رئيسًا للبرازيل، وذلك بحصوله على 55.7% من إجمالي الأصوات، خلال الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، بعد أن كاد يحسم النتيجة لصالحه خلال الجولة الأولى التي جرت في 7 أكتوبر؛ بحصوله على 46% من إجمالي الأصوات؛ مقابل 43.4% لمرشح اليسار «حداد»، وسيبدأ «بولسونارو» تقلد مهامه بشكل رسمي مطلع العام 2019 (1).
يًعد «بولسونارو» أحد أبرز عوارض الاستقطابات السياسية التي شهدتها البرازيل على مدار الـ13 عامًا من حكم «حزب العمال»، الذي برز مع إقالة الرئيسة «ديلما روسيف» عام 2016، على خلفية التوترات الأمنية والتدهور الاقتصادي الذي شهدته البلاد، بفعل سياسات الحزب الحاكم حينذاك، التي فشلت في احتواء الأوضاع، وهو ما كان دافعًا قويًّا وراء تصدر الشعوبيين المشهد السياسي، بل ومكنهم من اعتلاء مناصب سياسية رفيعة، كان أبرزها ما أفرزته الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
ويتشابه «بولسونارو»، مع الرئيس الأمريكي الحالي «دونالد ترامب» في العديد من التوجهات، بل يُشبِّهُه الكثيرون بـ«ترامب البرازيلي»، وهو ما يستدل عليه من برنامجه الانتخابي الذي أكد خلاله على دفاعه عن تحرير حمل السلاح، تحت مبرر ضرورة تمكين «الناس الطيبين» من الانتصاف لحقوقهم، ولعل الدافع وراء ذلك كان محاولة الطعن التي تعرض لها في سبتمبر 2018 من أحد المجهولين خلال حملته الانتخابية، التي ساهمت في تعزيز صورته كبطل شعبي.
ويتشابه «بولسونارو» أيضًا مع «ترامب» في امتعاضه الشديد للنسويَّة والمثلية، وتكمن المفارقة في كونه لا يخفى اقتناعه التام بضرورة العودة للدكتاتورية العسكرية، التي سادت خلال الحقبة (1964-1985)، وتأكيده في الوقت ذاته على أهمية المؤسسات الديمقراطية وفاعلية دورها في تحقيق الاستقرار والتوازن الذي فشل التيار اليساري في تفعيله (2).
ورغم عدم إلمام «بولسونارو» الكافي بالشؤون الاقتصادية؛ فإن حملته الانتخابية التي ضمت مستشارين اقتصاديين تمكنت من كسب ثقة الأسواق، بفضل مستشاره «باولو غيديس» المؤيد بشدة للتوجه الاقتصادي الليبرالي، في حين يرى المحلل في مؤسسة «جيتوليو فارغاس» البرازيلية، «مايكل معلم»، أن «الخلفية البرلمانية لمرشح اليمين مكَّنته من نيل دعم مجموعات الضغط القوية في البرلمان؛ لاسيما التجاريين والزراعيين والإنجيليين، وبوصول «بولسونارو» لسدة الحكم؛ أصبحت مكانة ونفوذ اليساريين على المحك» (3).
أسباب تراجع اليسار:
نجح اليساريون البرازيليون في التعبير عن آمال وتطلعات شعوبهم، عبر خطاباتهم وشعاراتهم السياسية، التي تمحورت حول القضاء على الفقر، تحقيق العدل والمساواة، مكافحة الفساد، وإزالة كل ما من شأنه التسبب في إحداث فجوة ما بين مكونات المجتمع. ومع ذلك عكس تقلدهم للسلطة فشلًا كبيرًا في سياساتهم المعنية بتحقيق تلك الأهداف، كما أن انضمام البعض من المنافقين السياسيين للموجة، سمح بوجود عناصر فاسدة ومنافقة أيديولوجيًّا داخل هيكل التيار، وهو ما أدى مع الوقت إلى توريط عددٍ من القيادات اليسارية في شبهات فساد، واستغلال السلطة لتحقيق مصالح شخصية. ومع ذلك فقد تمكن اليسار البرازيلي في بدايات صعوده من تحقيق عدة إنجازات على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، ساهمت في إحداث طفرة، ولعل تجربة «لولا دا سيلفا» من أبرز الشواهد على ذلك.
رغم عقوبة السجن التي يقضيها الرئيس البرازيلي الأسبق والأكثر شعبية «لولا دا سيلفا» منذ أبريل 2018؛ فإن تجربته التنموية التي خاضها، تعتبر من أبرز الشواهد على نجاح اليسار خلال فترة ما.
جدير بالذكر أن «دا سيلفا»، بدأ حياته السياسية عبر الانخراط في العمل النقابي عام 1969، وانتخب رئيسًا لاتحاد عمال الصلب عام 1975، ثم نجح بعد ذلك في تحويل الاتحاد إلى حركة مستقلة بعدما كانت تابعة للسلطة حينذاك. وفي يناير 1980 تمكن من تأسيس أول حزب اشتراكي في البرازيل، وبعد عامين من تأسيس الحزب تقلد منصب حاكم ولاية «ساو باولو»، وفشل في الظفر بمنصب رئيس الجمهورية خلال الانتخابات الرئاسية لأعوام 1989، و1994، و1998، لكنه نجح في تحقيق هذا الهدف خلال الانتخابات الرئاسية لعام 2002، وحينذاك بدأت اللبنة الأولى في هيكل التجربة التنموية البرازيلية اليسارية (4).
أبرز ملامح التجربة
تسلم «دا سيلفا» الحكم وكانت البرازيل على وشك الإفلاس، وخلال السنوات الأولى من حكمه تمكن من تحقيق طفرة كانت أبرز مؤشراتها التوسع في المجال الزراعي؛ مستغلًا مساحات الأراضي الشاسعة والصالحة للزراعة، بجانب تطوير مجال الاستخراج النفطي بحكم توافر احتياطات هائلة من النفط والمواد الخام، كما حققت البرازيل خلال تلك الفترة تقدمًا ملحوظًا في الصناعات المتقدمة كالسيارات والطائرات، لتسجل شركة «إمبراير» البرازيلية رقمًا جديدًا، بعدما أصبحت ثالث أكبر شركات تصنيع الطائرات.
كما اهتم «دا سيلفا»، بتنشيط قطاع السياحة لتتمكن البرازيل خلال عام 2009 من استقبال 5 ملايين سائح سنويًّا، وخلال حقبته الرئاسية وتحديدًا في عام 2009، نجح في التعاون مع روسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا ليشكلوا معًا مجموعة «البريكس».
ورغم تبني «دا سيلفا» لليسارية؛ فإن ذلك لم يمنعه من انتهاج سياسات ليبرالية، من أجل حماية استثمارات الطبقة الرأسمالية، في محاولة منه لكسب تأييدهم، وبحلول عام 2011 أصبحت البرازيل قوة اقتصادية هائلة، ومؤثرًا إقليميًّا فاعلًا؛ بعدما حققت نموًا نسبته 2.7%، إلى جانب تقليص نسبة الفقر بأكثر من 73%، في حين زادت معدلات الدخل بمقدار 23%. ومن ثم نجحت السياسة حينذاك في إزالة البرازيل من خارطة الجوع لدى منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة.
عقب انتهاء مُدد «دا سيلفا» الرئاسية عام 2010، انتخبت «ديلما روسيف» رئيسة للبرازيل، وخلال فترة رئاستها واجهت معارضة شديدة على خلفية اتهامات متوالية لها بالفساد والتلاعب في الحسابات العامة، إلى أن تم إقالتها في سبتمبر 2016، لينتهي بذلك 13 عامًا من الحكم اليساري؛ حيث تولى نائبها «ميشيل تامر» الحكم بالوكالة، في حين أدت تلك التحولات إلى توقف الحياة العامة، بعدما قررت الحكومة إلغاء أشكال الدعم والمعونة كافة، وبالتالي اتجهت الحكومة نحو الاستعانة بقوى أمنية لإعادة الاستقرار إلى البلاد، إلا أن الشرطة الفيدرالية رفضت مواجهة المتظاهرين، ومن ثم اتسمت الفترة الانتقالية لحكم «ميشيل تامر» بسيادة حالة من عدم الاستقرار(5).
وتزامن ذلك مع بدء المحاكمات القضائية لعناصر يسارية اتهموا بقضايا فساد كان على رأسهم «لولا داسيلفا»، ورغم ذلك فقد أصر اليساريون على خوض الانتخابات الرئاسية؛ حيث استمرت محاولات «دا سيلفا» وهو داخل السجن، للترشح لهذه الانتخابات، إلا أنه لم يفلح، لذلك سعى «حزب العمال» نحو تقديم مرشح بديل، وبالفعل قدم «فرناندو حداد» مرشحًا عن الحزب، وخاض منافسة شرسة إلا أن الجولة الأخيرة حسمت المعركة لصالح المرشح اليميني. وهو ما أنذر بحقبة جديدة، يتوقع أن يسيطر عليها النيوليبرالين.
ملامح إخفاقات اليسار
رغم الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية، التي نجح «حزب العمال» خلال السنوات الأولى من هيمنته على الحكم من إنجازها، التي ساهمت بشكل كبير في تحسين الأوضاع المعيشية لطبقات واسعة من السكان؛ فإنه بحلول عام 2008 واجتياح الأزمة المالية العالمية لمعظم دول العالم، تراجعت الخطط الإصلاحية للحزب، مقابل تقدمه ببعض التنازلات لصالح كبار الرأسماليين والشركات الكبرى، وهو ما أسفر عن اجتياح موجة من الغضب الشعبي ضده؛ أحسن استغلالها التيار اليميني المتطرف، على خلفية التدهور الأمني والمعيشي. وهي النقطة التي استغلها «بولسونارو» وركز عليها في برنامجه الانتخابي، مشددًا على ضرورة عودة الأمن وتقوية الجهاز الشرطي، بل أكد حق القوات المسلحة في ممارسة دور سياسي، واستطاع بذلك أن يستقطب قطاعات واسعة لصفه.
ولعل أبرز إخفاقات اليسار، انعكست في عمليات ملاحقة الفساد التي بدأت عام 2014؛ حيث بلغت قيمة الأموال المختلسة قرابة 11 مليار دولار، ثبت خلالها تورط عددٍ من كبار المسئولين اليساريين. وباستثناء التجربة الفنزويلية التي نجحت في تخصيص أداة إعلامية خاصة بها بعدما دشنت محطة «تيلي سور»، فقد فشلت باقي التيارات اليسارية لاسيما البرازيلية في تخصيص أبواق إعلامية، وهي الثغرة التي استغلها اليمين بهيمنته على المجال الإعلامي، وتأثيره بشكل كبير على الرأي العام في الداخل والخارج، ولا يمكن إغفال دوره في الترويج لقضايا الفساد التي تورطت بها بعض عناصر يسارية. بينما اكتفى اليساريون بإعلان مواقفهم المناهضة للاستعمار كاشفين عن تأييدهم لقضايا العدالة، والانتصار للطبقات الفقيرة، وتطوير خطابهم السياسي في المحافل الدولية، في حين ظل اليمين مؤثرًا بشكل كبير في الداخل (6).
وعلى جانب آخر؛ لم تكن الخطط الاقتصادية التي وضعها اليسار وافية وشاملة للمتطلبات الاجتماعية بعيدة المدى، لكنها اعتمدت على البرامج الرعائية المؤقتة؛ فعلى سبيل المثال نجد برنامج الإغاثة العائلية الذي يضمن راتب متواضع تتقاضاه الأسر الفقيرة شهريًا، كذلك برامج المساعدة التي تضمن بناء منازل متواضعة ستتهالك مع الوقت للعائلات المشردة، ما أثر على موازنة الدولة من جهة، ومن جهة أخرى لم يساهم في حل المشكلة.
وأخيرًا فإن فشل الحكومات اليسارية خلال السبع سنوات الأخيرة في تبني استراتيجية أمنية شاملة تستهدف استيعاب الخلافات، وتضمن تحقيق الاستقرار، والتمكين الحقيقي لقوات الشرطة في ظل الانهيارات الأمنية المتوالية، أدت إلى ميل البرازيليين نحو اليمين، فربما يمتلك الآلية التي تساعد في انتشالهم من تلك الأوضاع. وربما تحمل الفترة المقبلة في ظل تلك التطورات مؤشرات حقيقية تنذر باقتراب حرب باردة جديدة بين المعسكرين الروسي والأمريكي بعدما تمكن اليمين المتطرف من الاستحواذ على السلطة في معظم دول العالم.
المراجع:
(1)اليميني المتطرّف بولسونارو رئيساً للبرازيل، سكاي نيوز، بتاريخ 29/10/2018، متاح على الرابط: http://cutt.us/Y7xQD
(2) الانتخابات الرئاسية البرازيلية، فيديوهات متنوعة تناولت الحدث على قناة فرنسا 24، متاح على الرابط: http://cutt.us/6QCJq
(3)من هو جايير بولسونارو رئيس البرازيل المنتخب؟،مونت كارلو،29/10/2018، متاح على الرابط: http://cutt.us/JBJId
(4)دا سيلفا من الفقر لرئاسة البرازيل وحتى تسليم نفسه للشرطة، هيئة الإذاعة البريطانية،8/4/2018، متاح على الرابط:http://cutt.us/GDsPU
(5)د.جمال عبد الجواد، هزيمة اليسار في البرازيل، جريدة البيان الاماراتية،1/11/2018، متاح على الرابط:https://www.albayan.ae/one-world/arabs/2018-11-01-1.3397872
(6) د. محمد بوبوش، قصة اليسار اللاتيني، مرصد أمريكا اللاتينية، 26/9/2016،متاح على الرابط:http://www.marsadamericalatina.com/index.php/etudes/1728-2016-09-26-08-27-19





