يصدر عن مركز سيمو - باريس
ad a b
ad ad ad

التدخل الإيراني وآليات السيطرة على العراق

السبت 04/أغسطس/2018 - 02:45 م
المرجع
مصطفى صلاح
طباعة
أوضحت السنوات الأخيرة الدور الإيراني المؤثر داخل العراق، وينصرف الانتباه الأكبر إلى الجانب العسكري بطبيعة الأمر، أي الإشارة إلى التمويل والتدريب والتسليح الذي تمنحه للجماعات الشيعية المسلحة في العراق، من خلال «فيلق القدس» التابع لـ«الحرس الثوري الإيراني». إضافة إلى ذلك فإن لتدخل إيران أيضًا جوانب سياسية واقتصادية ودينية تريد بها أن تصوغ دولة تحت هيمنة شيعية تلائم مصالح طهران، وتكون بمثابة معبر للنفوذ الإقليمي في الدول العربية المتاخمة للعراق، وفيما يلي يقدم «المرجع» تحليلًا لحدود الدور الإيراني ومدى سيطرته على العراق اقتصاديًّا وسياسيًّا وفي شتى المجالات الأخرى..


التدخل الإيراني وآليات
◄ التوظيف السياسي:

استمرت خيوط التدخل الإيراني في التكشف، خاصة فيما يتعلق بالانتخابات البرلمانية في العراق، التي انعقدت في 12 مايو 2018، حيث إن نظام الملالي حاول دعم ترشح قيادات من ميليشيات الحشد الشعبي في الانتخابات التي فاز فيها تحالف «سائرون»، الذي يتزعمه رجل الدين الشيعي، مقتدى الصدر، بأغلبية برلمانية، 54 مقعدًا.

إن ترشيح زعماء من ميليشيات الحشد الشعبي في الانتخابات، هو جزء من سياسة إيران للسيطرة من الداخل على العواصم العربية، خاصة بغداد، وفي ذلك الشأن تعمل إيران مع حلفائها في العراق على تشكيل ائتلاف يقطع الطريق أمام القوى الأخرى، وتنصيب قائد ميليشيات الحشد الشعبي، هادي العامري-قائد منظمة بدر، إحدى أذرع إيران العسكرية في العراق-، وكان النظام في طهران قد سعى مرارًا من أجل توليه منصبًا أمنيًا في الحكومة العراقية منذ عام 2014؛ حيث تستثمر طهران كل الفرص الجديدة لدعم «العامري» من أجل تكريس هيمنتها على رأس السلطة في العراق.

وبدأت إيران، منذ احتلال العراق عام 2003، في التوغل داخل المجتمع العراقي كهدف يجعل تدخلها في شؤونه السياسية أمرًا تلقائيًّا، ثم بعد ذلك باتت تتذرع بأن كل ما تفعله في العراق هو بطلب من حكومته، لتتمكن عبر هذه السياسة من جعل العراق بحكوماته المتعاقبة منصاعًا لتوجهات طهران.


التدخل الإيراني وآليات
◄ إيران وبدايات الدور المشبوه:

بعد احتلال العراق تحققت الرغبة الإيرانية بسقوط النظام العراقي، معتبرةً أن سقوط نظام «صدام حسين» (1979م- 2003م) فرصة لبسط نفوذها بين الشرائح والفصائل التي ساندتها. وبعد الانسحاب الأمريكي من العراق، برزت المخاوف الإقليمية من عدم قدرة العراق على الوقوف مجددًا وتزايد فرص أن يصبح العراق دولة تحت رعاية إيران، في حين حاولت العديد من الدول العربية، خاصة المجاورة للعراق، مواجهة النفوذ الإيراني المتنامي هناك في محاولة لملء الفراغ الذي سينشأ مع انسحاب الولايات المتحدة، وقد حاولت جميع الدول المحاذية للعراق منذ عام 2003 زيادة تأثيرها فيه بحسب مصالحها؛ حيث أرادت منع العراق من أن يشكل مرة أخرى تهديدًا عسکريًّا أو سياسيًّا أو عقائديًّا لها، واستندت طهران في تحركاتها داخل العراق وفي حسابها لخطواتها الإقليمية على فكرة ضعف وتناقض الاستجابات العربية تجاهها.

وتُشكل العراق بالنسبة لإيران الجار الاستراتيجي، الذي قد يمكنها من إحكام السيطرة على مفاتيح المنطقة برمتها، ولعل الاهتمام الإيراني بالعراق يتركز حول الاعتبارات الجغرافية؛ حيث يتشارك العراق وإيران في أطول حدود تبلغ 1500 کم، كما تستحوذ على اهتمام كبير فيما يتعلق بتعزيز المنطقة الشيعية (مع إضعاف الهوية السنية) الكبيرة في جنوب العراق، التي تسيطر على المنفذ الاستراتيجي المطل على الخليج، الذي يحتوي نحو نصف احتياطي نفط العراق.

وتسعى إيران دائمًا إلى تعطيل نهوض الدولة الوطنية العراقية، التي تشكل تهديدًا استراتيجيًا للنفوذ الإقليمي الفارسي وتعرقل الأطماع الإيرانية في أرض الرافدين، وذلك بضمان بقاء النفوذ الإيراني في بغداد مؤثرًا في شؤون الدولة، بحيث يكون لطهران دائمًا رجالها المؤثرون في الهياكل السياسية العراقية من خلال التأثير في نتائج الانتخابات المختلفة عبر دعم مرشحيها المفضلين، وتقديم المشورة لهم، وتشجيعهم على خوض الانتخابات تحت قائمة موحدة لمنع تقسيم أصوات ناخبيهم، وتبذل إيران کل جهد لتوحيد الأحزاب الشيعية في العراق کي تستطيع تکوين حكومة شيعية لضمان تأمين مصالحها.


التدخل الإيراني وآليات
◄ محفزات إيران للسيطرة على العراق:

بالنسبة لإيران يمثل العراق أهمية استراتيجية في العديد من المحددات أهمها:
1) يعتقد الإيرانيون أن العراق هو العمق الاستراتيجي الأهم لهم، بل وينظرون إلى هذا البلد على أنه جزء من إقليمهم، ويتكشف ذلك في تصريحات المسؤولين الإيرانيين المعلنة، بداية من أبوالحسن بني صدر (أول رئيس بعد الثورة الإيرانية)، الذي أعلن أن «العراق كان عبر التاريخ جزءًا من فارس، والدليل وجود آثار طاق كسرى قرب بغداد»، ويؤكد ذلك ما صرح به رئيس أركان الجيش الإيراني، فيروز أبادي، عندما قال: «الخليج والمنطقة كانت دائمًا ملكًا لإيران، ونفط الخليج يقع في مناطق فارسية، ملك لإيران». 

2) تعتبر العراق بمثابة البوابة الأكثر تأثيرًا للسيطرة على بقية دول الخليج، ومن ثم المنطقة العربية برمتها، وهو حلقة الوصل بين مكونات الشيعة بين طهران وسوريا ولبنان ودول الخليج، كون العراق أكبر وأقوى الدول في المنطقة ما يؤهله للوقوف ندًا للسعودية؛ وبالتالي إخضاع دول الخليج، التي يتبع بعض من سكانها المذهب الشيعي.

3) يحتضن العراق أعدادًا كبيرة من الشيعة وهو ما تستغله إيران في تسهيل مهمتها في السيطرة الداخلية وإحكام التأثير على مجريات الحياة السياسية والدينية العراقية، عوضًا عن وجود الحوزات الدينية وخاصة «حوزة النجف»، وكذلك وجود كربلاء المقدسة في العراق، التي تضم أضرحة عدد من «آل بيت النبي محمد» في مقدمتهم «الحسين والعباس»، تجعلهم يمسكون مفتاحا دينيا آخرًا في العراق، التي من اليسير على طهران إخضاعها لتبعية «حوزة قم» هناك بما يخدم مصالح نظام الملالي، عن طريق تحويل الولاء الوطني للعرب الشيعة في العراق إلى ولاء طائفي فقط، من أجل تحويل ذلك الولاء تدريجيًا إلى الولاء الفارسي، عن طريق الدعم المالي الكبير الذي تُقدمه إيران للأحزاب والحركات السياسية والمسلحة في العراق، ويتخذ هذا الدعم شكلين: الأول هو الدعم المالي المباشر للأحزاب والتيارات والميليشيات (قادة وأعضاء)، أما الشكل الثاني فيتمثل في وضع إيران للأموال في خدمة الكثير من رجال الدين بغرض التأثير الفكري والسياسي والديني على المجتمع العراقي.

4) غياب القيادة السياسية القوية في العراق، عوضًا عن تراجع الدور العربي في مساندة بغداد بعد انسحاب الولايات المتحدة، وهذا ما أكده الجنرال قاسم سليماني (قائد فيلق القدس الإيراني) قائلًا: «إن بلاده حاضرة في العراق، وأنه يخضع بشكل أو بآخر لإرادة طهران وأفكارها». نتيجة تغلغل المخابرات الإيرانية في الدوائر الرسمية والمدن العراقية وكذلك الحال لفيالق (القدس وبدر وجيش المهدي)، الأداة العسكرية التابعة لزعيم التيار الصدري في العراق، مقتدى الصدر، والذي أنشئ بعد الغزو الأمريكي للعراق.


التدخل الإيراني وآليات
◄ تجريف العراق:

لم تقف محاولات إيران للسيطرة على العراق عند الحدود السياسية والعسكرية، بل عملت طهران على تخريب الاقتصاد العراقي؛ حيث أصبح العراق سوقا مفتوحة للبضائع الإيرانية بمختلف أنواعها، مما جعل الاقتصاد العراقي تابعًا لإيران تبعية مطلقة، ومعتمدًا عليها اعتمادًا كليًا.

وتعتمد طهران دورًا تخريبيًا واستراتيجيًا يقوم على خطة تجميد الموانئ العراقية وعدم صلاحيتها مستقبلًا، في المقابل تعمل على توسيع قدرات موانئها القديمة وبناء العديد من الموانئ الجديدة، بالإضافة لذلك تعمل على تجريف الأراضي الزراعية عن طريق إلقاء فضلات المصانع والمعامل الكيميائية في الأنهار التي تصب في العراق مثل نهر «الكارون»، وفي نفس السياق قطعت إيران بعض مصادر المياه عن العراق، وحوّلت مسار بعض الأنهار الأخرى إلى داخل الأراضي الإيرانية مثل نهر «الوند»، الذي يغذي الزراعة في محافظة ديالي، شرق العاصمة بغداد، وذلك لربط الاقتصاد العراقي بالسوق الإيرانية من أجل إغلاق المصانع والمعامل العراقية والإضرار بالسوق العراقي وإنعاش السوق الإيرانية.

وعليه يمثل الدور الاقتصادي لإيران في العراق في التغلغل الكبير في مختلف القطاعات الاقتصادية والصناعية وقطاعات الاستثمار والسياحة الدينية والقطاعات التجارية، وتسهيل منح التأشيرات للتجار والمستثمرين الإيرانيين، وإغراق الأسواق العراقية بمنتجات وسلع إيرانية استهلاكية رخيصة، حتى تمكنت إيران من أن تكون الشريك التجاري الرئيسي للعراق، ومن أكبر المستثمرين فيه منذ عام 2003.

في السياق نفسه، شجعت التجار الإيرانيين على الذهاب إلى العراق والاستثمار هناك، خاصة في مجالات الأدوية الفاسدة والمجرثمة والمخدرات، وتعمد إيران نشر الفساد والتحلل الأخلاقي من خلال الدعارة، والإعلام؛ حيث قامت بإنشاء العديد من القنوات الإعلامية والإذاعات التي تتبنى خطابات طائفية بلغت أكثر من عشرين محطة فضائية، بالإضافة إلى سرقة النفط العراقي من الحقول الحدودية. 

كما استخدمت إيران العراق كورقة ضغط وتفاوض في ملفاتها الدولية وتحقيق مكاسب لها على حساب العراق، فبات الوجود الإيراني في العراق شائكا إلى درجة تفوق التعقيد، فقد استطاعت أن تسيطر على العراق من خلال استراتيجيات عدة تعود في النهاية بالنفع على مصالح إيران بالأساس، مستغلة بذلك الحرب الدولية على الجماعات الإرهابية المسلحة لترسيخ نفوذها في العراق، وتغيير صورتها من متهمة بدعم الإرهاب إلى شريك في محاربته.

إجمالًا: دخلت إيران بثقل عسكري وسياسي ومخابراتي ومالي واقتصادي للهيمنة على كل مفاصل الحياة في العراق، وأشرفت على تشكيل العملية السياسية المنشأة ونصّبت فيها أحزابًا وقوى ذات منشأ إيراني؛ كما أخذت على عاتقها موضوع تكريس الطائفية، في محاولة لسلخه من محيطه العربي وتبديل هويته القومية بهويات طائفية وعرقية، من أجل إضعاف العراق وتفتيته.

ويمكن القول بأن الاستراتيجية الإيرانية في العراق تنبع بشكل أو بآخر من طبيعة المصالح الإيرانية في هذا البلد، والمتمثلة في الحيلولة دون ظهور عراق قوي قد يشكل تهديدًا سياسيًّا وعسكريًًّا وإيديولوجيًّا لها.
"