ad a b
ad ad ad

ظاهرة العائدين العرب من بؤر الإرهاب.. التحديات والخيارات

الإثنين 23/يوليو/2018 - 12:17 م
المرجع
علي بكر باحث في شؤون الإرهاب
طباعة
مع تصاعد الحرب الدوليَّة على الإرهاب خاصة في العراق وسوريا، انحسر نشاط العديد من التنظيمات الإرهابيَّة، وعلى رأسها تنظيم «داعش» الذي فَقَدَ ما يقرب من 98% من الأراضي التي كان يسيطر عليها؛ حيث شهدت الأشهر الماضية نجاحًا كبيرًا في محاربة التنظيم على المستوى العسكري؛ ما أسفر عن تراجع كبير في قدراته التنظيمية والميدانية وكذلك الإعلاميَّة، وبناء على ذلك، لم يعد لمقاتلي التنظيم الأجانب موطئ قدم في العراق، وهذا ينطبق على سوريا أيضًا؛ ما يدفع العديد منهم للعودة إلى بلادهم. 

ومن ثم برزت من جديد أزمة العائدين، في ظلِّ وجود الآلاف من المقاتلين الأجانب في صفوف التنظيمات المسلحة هناك، سيضطرون للعودة لبلادهم إما عاجلًا وإما آجلًا، وهو ما سيمثل تحديًا كبيرًا للعديد من الدول العربيَّة؛ نظرًا لأنها تعد صاحبة النصيب الأكبر من هؤلاء المقاتلين، لاسيما دولة مثل تونس التي تعد أكبر دولة مصدرة للمقاتلين الأجانب(1)، ويتصاعد هذا التحدي بشكل كبير في ظلِّ التحولات الكبيرة والجذرية التي شهدتها ظاهرة العائدين خلال السنوات الأخيرة، وهو ما يفرض ضرورة التعرض لأهم ملامح تلك التحولات، حتى يمكن تحديد أهم الآليَّات والوسائل التي يمكن أن تتخذها الدول العربية لمواجهة هذا التحدي، بعد أن أصبحت أزمة العائدين أمرًا واقعًا يصعب تجنبه أو التغافل عنه. 
ظاهرة العائدين العرب
أولًا:- أهم ملامح التحولات في ظاهرة العائدين: 
من المؤكد أن ظاهرة العائدين اختلفت كثيرًا عن نظيرتها في حقبة التسعينيات، بعد أن أصبحت التنظيمات الإرهابية الكبرى على غرار «داعش» و«القاعدة» تعتمد بشكل كبير على المقاتلين الأجانب، وهو ما أدى إلى تطور دورهم داخل صفوف تلك التنظيمات بشكل غير عادي، لاسيما من الناحية العسكريَّة والتنظيميَّة، وذلك لما يتسمون به من انضباط قوي من الناحية الفكرية والتنظيمية، وهو ما يُعرف في أدبيات تلك التنظيمات بـمبدأ «السمع والطاعة»، فضلًا عن كونهم يتمتعون بقدر كبير من الجرأة؛ ما يجعل لديهم القدرة على القيام بعمليات إرهابيَّة غير تقليديَّة على غرار العمليات الانتحارية أو «الانغماسية» وتقدمهم الصفوف في المواجهات المباشرة(2). 

وقد أدى تعدد التنظيمات الإرهابية في المنطقة، في أعقاب ما سمي بـ«الربيع العربي»، إلى تضخم ظاهرة العائدين وتعقدها بشكل كبير، كونها شهدت تحولات كبيرة ومعقدة. 

وفي ضوء ذلك يمكن تحديد أبرز التحولات التي شهدتها تلك الظاهرة خلال السنوات الأخيرة في الآتي: 
ضخامة الأعداد: تعد ضخامة أعداد المقاتلين الأجانب من أهم التحولات التي شهدتها ظاهرة العائدين، فطبقًا لـتقرير «مجموعة سوفان» الصادر في مارس 2016، وصل عدد المقاتلين الأجانب الذين سافروا إلى العراق وسوريا؛ للالتحاق بتنظيم «داعش» والتنظيمات الإرهابيَّة الأخرى، ما بين 27 ألفًا و31 ألفًا، بين عامي 2014 و2015، معظمهم من الدول العربيَّة ([3])، ورغم أن هذه الأعداد قد تراجعت كثيرًا منذ بدايات 2016، فإنه لايزال هناك الآلاف في انتظار العودة إلى دولهم([4])؛ ما يعنى أن بعض الدول العربية في انتظار ما يشبه الطوفان من العائدين مقارنة بأعدادهم في التسعينيات، وهو ما سيجعل من الصعب على حكومات المنطقة استقبالهم أو التعامل معهم دون حدوث تداعيات سلبيَّة تهدد أمنها، لاسيما أن معظم دول المنطقة غير مؤهلة للتعامل مع تلك الأعداد الضخمة. 

التحولات الفكريَّة والتنظيميَّة: أدى تعدد جنسيات المقاتلين الأجانب ومشاربهم الفكريَّة والعقائديَّة داخل التنظيمات الإرهابيَّة؛ نظرًا لأنهم لا ينتمون إلى دولة أو منطقة جغرافية محددة؛ حيث ينتمون إلى ما يقرب من 86 دولة حول العالم ما بين آسيا وأفريقيا وأوروبا([5])، إلى انتمائهم إلى تيارات متطرفة متباينة فكريًّا؛ ما أفرز نماذج فكريَّة جديدة تجاوزت في تطرفها الأفكار التقليدية، أي أن هؤلاء العائدين سيرجعون إلى بلادهم وهم محملون بأفكار في غاية التطرف تختلف كثيرًا عن الأفكار المتطرفة التي عرفتها المنطقة من قبل؛ ما سيجعل هناك صعوبة بالغة في التعامل معها أو السيطرة عليها، إذا ما قررت الدول معالجتها شرعيًّا وفكريًّا، خصوصًا أن العائدين من بؤر الصراعات أصبحوا أكثر عنفًا وقسوة، حتى أصبح القتل لديهم غاية وليس وسيلة. 

وربما هذا ما يفسر لنا ظاهرة الذابحين أو قاطعي الرقاب في تنظيم «داعش»، من أمثال «محمد إموازى»([6]) الذي كشف عن هويته في مارس 2015، ومن ناحية أخرى فإن الفترة التي قضاها العائدون في منطقة الصراعات بتلك الأفكار المتطرفة، جعلتهم يعتادون القتل والإجرام، ومن ثم سيكون

من الصعب عليهم تقبل العيش في بيئة هادئة، خاصةً أن العديد من الأساليب التي تبناها التنظيم أخيرًا متباينة وغير متوقعة، مثل توجيه أتباعه حول العالم للقيام بعمليات فردية يطلقون عليها «الذئاب المنفردة»، وهي لا تتطلب تنسيقًا مع التنظيم، وهذا يجعل كل عضو في هذا التنظيم بمثابة «قنبلة موقوتة» قد تنفجر في أي وقت وبأي مكان. 

المقاتلون الجوالة: أدى تعدد التنظيمات الإرهابيَّة داخل بؤر الصراعات في المنطقة، لاسيما بعد أن أصبح بعضها عابرًا للحدود بعد إنشاء فروع لها في أكثر من منطقة، إلى تحول مهم في ظاهرة المقاتلين الأجانب، وهو ما يمكن أن نُطلق عليه «المقاتلين الجوالة»، الذين تتعدد أمامهم خيارات الانتقال من مكان إلى آخر، بحيث لا يصبحون مجبرين على العودة إلى دولهم بشكل مباشر؛ ما يعني أن بعض الدول قد تشهد عودة عناصر إرهابية من غير مواطنيها، وهو ما أشار إليه تحذير الناطق الرسمي للجيش الليبي في 10 ديسمبر 2017، من وجود تقارير استخباراتية تؤكد انتقال عناصر من داعش بسوريا والعراق إلى ليبيا بمساعدة دول أجنبية([7])، وكان قد سبق ذلك تصريح لوزير الدفاع التونسي فرحات حشاني، في سبتمبر 2016، ذكر فيه «أن الإرهابيين الأجانب لا يفرون فقط من جنوب ليبيا للانضمام إلى جماعة (بوكوحرام)، بل أيضًا في اتجاه الغرب، وإلى تونس تحديدًا» على حد تعبيره، ومن ثم يمكن أن يصبح لدينا ظاهرة «العائدين غير المحليين»، أو «العائدين الأجانب». 

تحولات شخصية: يبدو أن السمات الشخصيَّة للمقاتلين الأجانب شهدت هي الأخرى تحولات كبيرة، نظرًا لتغير الخلفية التاريخية للعديد من تلك العناصر، التي كانت غالبًا ما تتمثل في انتمائهم للتيارات الدينيَّة منذ مطلع شبابهم، في حين أن العديد منهم أخيرًا، قد جاء من خلفية جنائية وإجرامية، تتعلق بعمليات سرقة أو تجارة في المخدرات أو غيرها من الأعمال الإجرامية، الذي أثر بشكل مباشر على تشكيل ملامحهم الشخصية؛ حيث أصبحت تتسم بالشدة والغلظة ولكن تحت ستار الدين والعقيدة، ويعد الإرهابي الأردني «أبومصعب الزرقاوي» مؤسس تنظيم «داعش» والأب الروحي له، من أشهر الأمثلة على ذلك؛ حيث كان الرجل قبل سفره إلى العراق صاحب سجل جنائي حافل. 

وكانت صحيفة «زود دويتشه تسايتونج» الألمانية قد كشفت في عددها الصادر في 2 سبتمبر 2015 عن مقتطفات من دراسة أجراها المكتب الاتحادي لمكافحة الجريمة ومركز المعلومات المختص بالتصدي للتطرف في ولاية هيسن الألمانية؛ حيث أظهرت أن نحو نصف الأشخاص الذين شملتهم الدراسة ممن سافروا إلى سوريا والبالغ عددهم 670 شخصًا، مسجلون لدى السلطات بتهم ارتكاب جرائم عنف أو مخدرات( [8] )، كما أن معظم الإرهابيين ذوي الخلفية الجنائية، غالبًا ما يكونون أكثر تطرفًا وتشددًا من العناصر الأخرى؛ نظرًا لأن معظمهم قد اعتنق هذه الأفكار داخل السجون، التي غالبًا ما تكون التحولات الفكرية والنفسيَّة داخلها تتسم بعدم الاتزان؛ نظرًا لأن الشخص ينتابه شعور بالرغبة في التكفير عن ذنوبه وآثامه بأي شكل، ومن ثم كلما كان أكثر تطرفًا وتشددًا من الناحية الفكرية، سيكون أكثر تقوى وورعًا، وتُقْبَل توبته، لاسيما أن هؤلاء الأشخاص ليس لديهم قدر كافٍ من الثقافة الإسلامية، يسمح لهم بترشيد الأفكار المتطرفة التي يتلقونها داخل السجون. 

تحولات نوعية: من أهم وأخطر التحولات التي شهدتها الظاهرة هو ما يُعرف بـ«العائدات»، وهن النساء اللاتي انخرطن في صفوف التنظيمات الإرهابيَّة؛ حيث يعد تحولًا كبيرًا وغير متوقع، لاسيما أن التنظيمات الإرهابيَّة في السابق كانت تحرص على إبعاد النساء في الأمور التنظيميَّة والعسكريَّة، ولكن مع ظهور تنظيم «داعش» على الساحة، تصاعد سفر النساء والفتيات إلى سوريا والعراق؛ حيث كان يحرص على ضم النساء إلى صفوفه، وقد أشارت بعض التقارير الدولية إلى أن ثلث أعضاء «داعش» من النساء، من بينهن ما يقارب من 500 امرأة تونسية([9])، كما كشفت السلطات العراقيَّة في 11 سبتمبر 2017، احتجازها أكثر من 1300 من عائلات ونساء مقاتلي تنظيم «داعش» من الأجانب، ينتمون إلى ما يقرب من 13 جنسية، بعد فرارهن من مدينة «تلعفر» بعد تحريرها على يد القوات العراقيَّة ([10])،

وهو ما يشير إلى مدى خطورة ظاهرة العائدات، لاسيما أن العديد منهن أصبح لديهن أطفال. 
كما أن مجرد خروج هؤلاء السيدات من بلادهن إلى مناطق نفوذ «داعش»، في ظلِّ الحرب التي كان يخوضها على أكثر من جبهة، ثم الزواج لاحقًا بعناصر التنظيم، رغم أنهم يتوقعون موتهم في أي لحظة، وإنجاب أطفال صغار في ظلِّ تلك الظروف، يشير إلى أننا أمام سيدات يؤمن بشكل كبير بأفكار التنظيم، وأنه يمثل الخلافة والإسلام الحقيقي، الذي يجب عدم التخلي عنه، وأن ما قُمن به كان من باب الجهاد ونصرة الإسلام، وهو ما يجب وضعه في الحسبان عند التعامل معهن بعد عودتهن، في حالة الرغبة في تأهيلهن. 

تلك المتغيرات الكبيرة التي طرأت على ظاهرة العائدين سواء من الناحية التنظيمية أو الشخصية، ستفرض على الدول العربية التي تنتظر عودتهم عددًا من التحديات المهمة، لاسيما إذا ما اتخذت القرار بإعادة تأهيلهم من جديد.
ظاهرة العائدين العرب
ثانيًا:- تحديات صعبة: 
في ظلِّ السمات الفكريَّة والتنظيميَّة الجديدة التي أصبح العائدون يتصفون بها أخيرًا، خاصة من تنظيم «داعش»، فإن عودتهم إلى دولهم ستفرض على حكوماتهم مجموعة من التحديات، يمكن أن تمثل عائقًا قويًّا أمام إعادة إدماجهم في الحياة؛ ما يمكن أن يعرضهم لانتكاسة تعيدهم إلى العنف والإرهاب من جديد، ويمكن تحديد أبرز تلك التحديات في الآتي: 
ضعف برامج التأهيل: دائمًا ما تثير قضية العائدين بشكل عام، أهمية دور برامج التأهيل كآلية للترشيد الفكري، ومن ثم الإدماج في المجتمع، لكن تكمن المشكلة في أن مثل تلك البرامج مشكوك في جدواها، خاصةً أن تلك البرامج كانت تتعامل مع الرجال، ولم يسبق لها التعامل مع النساء، كما أن معظم الدول العربية لا تمتلك برامج واضحة؛ لذا يبدو أن معظمها سيختار الطريق التقليديّ وهو الاعتقال أو الإقامة الجبرية؛ الأمر الذي يشير إلى احتمالية تعرض العائدين إلى ضغوط كبيرة، ربما تجعل بعضهم أكثر تطرفًا في المستقبل ([11]). 

العامل المجتمعي: نظرًا للتطرف الشديد الذي يتسم العائدين؛ خاصةً من أعضاء تنظيم «داعش»، فإن المجتمعات غالبًا ما ستكون متخوفةً منهم، وتنظر إليهم على أنهم قتلة ومجرمين، ولا يمكن الاقتراب منهم؛ ما سيدفعهم إلى التعامل مع معظمهم بشكل سيئ، وهو ما سيعرضهم لضغوط مجتمعيَّة كبيرة، خاصة العائدات منهن اللاتي لديهن أطفال يحتاجون إلى رعاية خاصة، لاسيما أنهم لا يمتلكون أوراقًا ثبوتية؛ ما يجعلهم في حاجة ماسة إلى تقنين أوضاعهم، حتى يمكن إدماجهم في المجتمع؛ الأمر الذي سيفاقم أوضاعهم في المجتمع، ويزيد من الضغط عليهم، خاصةً أن الثقافة المجتمعيَّة في الدول العربية لا تساعد على ذلك، وهو ما يمكن أن يدفعهم إلى النقمة على المجتمع، في ظلِّ ما لديهم من موروثات فكريَّة وعقائديَّة، خاصةً إذا لم تقم الدولة بدورها المنتظر ([12]). 

تردي الأوضاع الاقتصادية: من الراجح أن يعاني العائدون بشكل عام، عقب عودتهم إلى بلادهم من ظروف اقتصادية صعبة في ظلِّ صعوبة الحصول على فرصة عمل مناسبة، يمكنهم من خلالها العيش بشكل طبيعي، سواء لضعف الإمكانات الاقتصادية لدولهم، أو نظرًا لتخوف قطاعات في المجتمع منهم، وهو ما يفرض على الحكومات ومنظمات المجتمع المدني تدارك هذا الأمر، والعمل على إيجاد حلول اقتصادية لهذه الأزمة على وجه السرعة، وعدم تركهم للظروف الاقتصاديَّة الصعبة، لاسيما أنهم سيقارنون بين وضعهم في المجتمع، وأوضاعهم داخل التنظيمات التي كانوا ينخرطون فيها؛ ما سيجعل هذه المقارنة لا تصبُّ في صالح الدولة أو المجتمع، وهو ما يمكن أن يدفعهم للعودة إلى التطرف من جديد إذا ما أتيحت لهن الفرصة لذلك([13]).
ظاهرة العائدين العرب
ثالثًا:- خيارات التعامل مع العائدين: 
من الواضح أن التحولات التي شاهدتها ظاهرة العائدين، سواء من حيث تطور الأفكار أو السمات الشخصية، فضلًا عن ضخامة أعداد العائدين، ستفرض على الدول العربيَّة خيارات محدودة في التعامل مع تلك الظاهرة؛ نظرًا للأوضاع السياسيَّة والأمنيَّة والاقتصاديَّة التي تعاني منها معظم تلك الدول، ومن ثم يمكن إبراز تلك الخيارات في النقاط التالية:- 
الدمج في المجتمع: يعتقد العديد من الباحثين والمفكرين أن أفضل الخيارات المتاحة في التعامل مع العائدين، هو العمل على إدماجهم في المجتمع، حيث قد تُسهم آلية «الإدماج المجتمعي» في احتوائهم عبر استقبالهم كمواطنين، لكن في ظلِّ رقابة أمنيَّة لا تنتقص من حريتهم، كما تتضمن هذه الآلية توفير المساعدات اللازمة بواسطة الدولة لتمكين العائدين من التعايش، وتذليل جميع العقبات التي يمكن أن تعيقهم عن الحياة الطبيعية؛ حيث يرى البعض أن ذلك قد يدفع العائدين تلقائيًا إلى التخلي عن العنف، ونبذ الأفكار المتطرفة؛ من أجل الحفاظ على تلك المكتسبات. 

ورغم أن هذا التوجه يبدو، للوهلة الأولى جيدًا، فإنه يصعب تطبيقه؛ نظرًا للعديد من المعوقات، مثل رفض قطاعات من المجتمعات فكرة استيعاب أولئك العائدين من الأساس، فضلًا عن عدم تقبل فكرة تقديم المساعدات لهم؛ لإدماجهم في المجتمع، في ظلِّ وجود حالات قدمت لها المساعدة ولكنها استغلت ذلك في العودة إلى العنف مجددًا، على غرار «أبوزكريا البريطاني»، الذي قام بعملية انتحارية استهدفت رجال الجيش العراقي في فبراير 2017؛ حيث أطلق سراحه من معتقل «جوانتانامو» في 2004، وصرفت له الحكومة البريطانية تعويضًا ماديًّا قُدِّر بمليون جنيه إسترليني، ورغم ذلك توجه إلى سوريا عام 2014، وانضم لتنظيم «داعش»([14]). 

ومن ثم فإن الإدماج المجتمعي كخيار للتعامل مع ظاهرة العائدين، يبدو صعبًا للغاية وغير واقعي إلى حدٍّ ما؛ نظرًا لسوء الأوضاع الاقتصاديَّة والأمنيَّة في العديد من الدول العربيَّة من ناحية، والرفض المجتمعي

من ناحية أخرى؛ حيث سينظر إليه البعض على أنه مكافأة للإرهابيين على ما اقترفوه من جرائم. 
التعايش المؤقت: في ظلِّ رفض فكرة الإدماج المجتمعي للعائدين، وفي الوقت نفسه عدم تقبل فكرة الإيداع في السجون، تبرز فكرة التعايش المؤقت، وترتكز على وضع العائدين قيد الإقامة الجبرية تحت رقابة أمنيَّة مشددة، والعمل على معالجتهم فكريًّا من خلال تعايشهم في المجتمع؛ حيث سيتكفل الوقت بتخليهم عن أفكارهم المتطرفة، لكن في المقابل فإن هذا الخيار يحمل عددًا من المخاطر؛ حيث يمكن أن يسمح للعائدين بالعودة للعنف والتطرف إذا ما سنحت لهم الفرصة لذلك، وهو ما يمكن أن يطلق عليه الانتكاسة الفكريَّة، التي تنتج عن عدم التأهيل الكافي، والارتضاء بأنصاف الحلول، بمعنى عدم المعالجة الكاملة، مع عدم الإهمال الكامل. 

ومن جهة أخرى يُسهم هذا الخيار في تفعيل فكر التقية داخل العائدين؛ حيث سيدفع معظمهم لإظهار التعايش في المجتمع، لكن في الحقيقة سيظلون متمسكين بأفكارهم وينتظرون الفرصة للقيام بعمليات إرهابيَّة، أو المساهمة في تنفيذ تلك العمليات، فالشاب الذي قام بالاعتداء على كنيسة في شمال غرب فرنسا في يوليو 2016، كان متهمًا قبل ذلك بالإرهاب، ويخضع للمراقبة بعد إطلاق سراح مشروط، عبر وضع سوار إلكتروني يسمح للشرطة بتحديد مكانه بشكل دائم، ورغم ذلك تمكن من تنفيذ العملية ([15] )، وبالرغم من هذه الإمكانات الضخمة التي تفتقدها معظم الدول العربية في التتبع والمراقبة، يجعل هذا، مبدأ التعايش المؤقت يحمل العديد من المخاطر الأمنيَّة. 

الترشيد الفكري: عند الحديث عن التعامل مع ظاهرة العائدين، دائمًا ما تبادر إلى الذهن الترشيد الفكري، أو المعالجة الفكريَّة كأهم آلية للتعامل معهم، وإعادة دمجهم في المجتمع، لاسيما أن العديد من الدول العربيَّة، لديها خبرات سابقة في هذا المجال، وذلك من خلال برامج محددة توضع للأفراد المتطرفين؛ من أجل تخليهم عن الأفكار المتطرفة، على غرار برامج «السكينة والمناصحة» في السعودية ومراجعات الجماعة الإسلامية في مصر، والجماعة المقاتلة في ليبيا ([16]). 

إلا أن الوضع حاليًّا أصبح مختلفا كثيرًا عن ذي قبل؛ حيث اختلفت الأفكار التي كانت تعالجها تلك البرامج، فقد صارت أكثر تشددًا وعنفًا، لاسيما الفكر الداعشي، الذي يعتنقه السواد الأعظم من العائدين، وهو أقرب إلى الفكر التكفيري أكثر منه إلى الفكر الجهادي التقليدي، لدرجة أن اثنين من رموز الفكر الجهادي العالمي، وهما «أبومحمد المقدسي»، و«أبوقتادة الفلسطيني» قد اتهما هذا الفكر بالتشدد والغلو، حتى إن الأخير وصف أتباع هذا الفكر بأنهم «كلاب أهل النار» كنايةً عن كونهم من الخوارج، وهو ما يشير إلى درجة التشدد التي وصلت إليها تلك الأفكار([17]). 

ومن ثم فإن برامج الترشيد التقليدية التي مارستها بعض الدول من قبل، لن تجدي نفعًا مع المنظومة الفكرية الجديدة للعائدين، لاسيما أنها لم تكن فاعلةً بشكل كامل عند تطبيقها؛: حيث لم تستطع منع كل من خضعوا لها من العودة إلى العنف، فقد أعلن مركز الأمير «محمد بن نايف للمناصحة»، أن هناك نسبة انتكاسة وصلت نسبتها إلى ما يقرب من 5% ممن خضعوا لذلك البرنامج ([18])، بعضهم شارك في عمليات إرهابية، على غرار الانتحاري «سعد الحارثي»، الذي فجّر نفسه في المصلين في مسجد المشهد، في نجران، في 26 أكتوبر 2015، وكان ممن خضعوا لبرامج المناصحة. 

كما شهدت تجربة المراجعات الفكرية في مصر ما يشبه الانقلاب عليها من قبل عدد ممن قاموا بها؛ حيث توجه بعضهم للعنف بشكل مفرط، على غرار القيادي «أبوالعلا عبدربه»، المتهم بقتل الكاتب المصري فرج فودة، والذي قضى في السجن ما يقرب من 20 عامًا، وكان من المؤيدين لهذه المراجعات، ولكنه عندما أتيحت له الفرصة عاد إلى العنف بكل قوة؛ حيث سافر إلى سوريا بعد الإفراج عنه؛ للالتحاق بـ«جبهة النصرة»، التي ظهر على إحدى مركباتها العسكرية في أكتوبر 2016، وقبلها ظهر في أحد الفيديوهات في أغسطس 2016 وهو يحض أعضاء الجبهة على القتال، كما أنه أصبح يحرض على استهداف المسيحيين في مصر([19]). 

ومن ثم فإن اعتماد الحكومات على إمكانية تلافي مخاطر العائدين، عبر إخضاعهم لبرامج ترشيد فكري، أو مراجعات فكرية، هو أمر غير مجدٍ، ومن الصعب أن يحقق نتائج ذات قيمة، لاسيما في ظلِّ ضعف البرامج من ناحية، وتطور الأفكار من ناحية أخرى. 

الاحتجاز في السجون: من أكثر الخيارات التي يمكن أن تتبناها الحكومات العربية، بالنسبة للعائدين هو توقيفهم ووضعهم داخل السجون، لاسيما أنه يعد الخيار الأسهل بالنسبة لها والأكثر أمنًا والأقل تكلفة، خصوصًا في تلك المرحلة التي تشهد تصاعدًا في نشاط التنظيمات الإرهابية المحلية؛ حيث سيكون من الصعب على الدولة متابعة كل أفراد العائدين بشكل كامل خارج السجون، ومنعهم من التوجه إلى العنف أو ممارسته بشكل نهائي، كما أن خيار السجن يمكن أن يمثل الحل الأمثل لهذه الحكومات، لتلافي معظم التداعيات الأمنية والتنظيمية للعائدين، خاصةً أن السجون يمكن أن تمثل فرصة، لقيام العائدين بمراجعات فكرية، على غرار الجماعة الإسلامية المصرية؛ نظرًا لوجودهم في أماكن محددة تسمح لهم بالنقاش والتواصل([20])، ومن ثم ربما يبدو خيار السجون من أفضل الخيارات التي يمكن أن تلجأ لها الحكومات العربية، في التعامل مع العائدين. 

ورغم هذه المميزات الموجودة في هذا الخيار بالنسبة لمعظم الحكومات العربية، إلا أنه لا يخلو من بعض السلبيات الخطيرة، التي يمكن أن تُسهم في نشر التطرف والعنف على نطاق واسع من حيث لا ندري؛ حيث إن وجود العائدين داخل السجون يمكن أن يُسهم في نشر أفكارهم بين النزلاء الآخرين، لاسيما أنهم سيحرصون على نشرها؛ نظرًا لأنهم يعتقدون اعتقادًا جازمًا بأنها الحق المطلق؛ لذلك فإنهم لن يتخلوا عنه طواعيةً، وسوف يسعون إلى نشرها على أوسع نطاق في محيطهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، وفي حالة وضعهم في السجون فإنهم سيسعون إلى نشرها بين السجناء، ويمكن أن يساعدهم على ذلك أن بعض الدول العربية، على غرار تونس ليس لديها سجون خاصة للمتطرفين والإرهابيين([21])، وإنما يتم إيداعهم في سجون مختلطة مع العناصر الجنائية، كما أن بعض الدول ترفض عزل المساجين المتطرفين عن بقية السجناء، مثل الجزائر التي صرح مديرها العام لإدارة السجون، وإعادة الإدماج «مختار فليون» في سبتمبر 2016، بأنه لن يتم اللجوء إلى سياسة عزل المساجين في قضايا الإرهاب عن بقية المساجين في إطار محاربة انتشار الأفكار المتطرفة داخل المؤسسات العقابية ([22])؛ ما يعنى إمكانية نشر الأفكار المتطرفة بين السجناء بشتى أطيافهم، لاسيما في ظلِّ امتلاك العديد من هؤلاء العائدين، القدرة على الإقناع بالأفكار الضالة. 

ومن ناحية أخرى، فإن من أخطر التداعيات السلبية لوضع العائدين داخل السجون، هو القدرة على تشكيل «خلايا إرهابية»؛ حيث يمكن أن تمثل السجون لهم فرصةً ثمينةً لتكوين مجموعات إرهابية جديدة، يمكن الاعتماد عليها بعد الخروج، خاصةً أنها ستكون خلايا قوية وغير تقليدية؛ لأنها ستنقل إليها خبرات العائدين التنظيمية والعسكرية، كما أن هذه الخلايا لن تكون قاصرةً على السجناء المتطرفين فقط، بل يمكن أن تضم بين صفوفها العديد من المساجين الجنائيين بعد إقناعهم بالأفكار المتطرفة، خاصةً أن التجارب أثبتت أن السجون تمثل مفرخة قوية لخروج التنظيمات والإرهابيين، فالأشخاص ذوو الخلفية الإجرامية، غالبًا يتسمون بالمهارة التنظيمية؛ بسبب ممارسة العمل الإجرامي، وهذا ما يجعلهم في الغالب يتصدون للقيام بالعمليات غير التقليدية، والتي تحتاج قدرًا كبيرًا من التخطيط الجيد، والمراقبة الدقيقة وسرعة التنفيذ، وهذا ما يجعل التنظيمات تحرص على استغلالهم في التخطيط للعمليات الإجرامية([23]). 

وأخيرًا، وفي ضوء ما سبق يمكن القول: إنه بالرغم من وجود أكثر من خيار أمام الحكومات العربية في التعامل مع ملف العائدين، فإن الأوضاع الأمنية والاقتصادية في العديد من تلك الدول -خاصةً الدول التي تنتظر أعدادًا كبيرةً منهم- ستجعل خيار الاعتقال داخل السجون هو الخيار الراجح، برغم ما له من تداعيات سلبية، خاصةً أن الدول التي لها خبرات سابقة في التعامل مع ظاهرة العائدين، مثل مصر والسعودية وتونس والجزائر والمغرب، غالبًا ما تفضل هذا الخيار، لاسيما أن الخيارات الأخرى مثل الترشيد الفكري والإدماج المجتمعي التي حاولت بعض الدول تطبيقها، جاءت كخطوة لاحقة أو تالية بعد خيار السجون. 

لكن بالرغم من ذلك لا يمكن القول: إن ذلك الخيار يعد الأفضل رغم تبنى العديد من الدول العربية له؛ حيث إن هناك فرصة للترشيد الفكري وإعادة الدمج في المجتمع، وذلك عبر معالجة كاملة غير منقوصة، ترتكز على المعالجة الفكرية والاجتماعية والاقتصادية من خلال وجود حالة من الترشيد الفكري لكل من اعتنق هذه الأفكار، وهي أشبه بالدفع إلى طريق المراجعات الفكرية، التي يجب أن يتوازى معها حالة من الوقاية الفكرية، التي تقوم على تحصين الشباب من اعتناق الأفكار الضالة في وقت مبكر. 

يضاف إلى ذلك قيام الدولة بدورها الاجتماعي في مساعدة العائدين الذين تم التأكد من تخليهم عن العنف من الناحية الاقتصادية، عبر مؤسساتها المختلفة، حتى يمكن إدماجهم في المجتمع بشكل طبيعي، وهو ما يمكن أن تُسهم فيه منظمات المجتمع المدني؛ كونها قادرةً على تقديم أشكال متعددة من الخدمات الاجتماعية والاقتصادية، والوصول إلى الفئات والمناطق التي لا تصل إليها الجهات الحكومة، وذلك مع مراعاة الفوارق الفكرية والتنظيمية بين العائدين، تتكاتف فيها الدولة والمجتمع ومنظمات المجتمع المدني؛ نظرًا لأن كل خيار من الخيارات السابقة يعد بمفرده بمثابة معالجة ناقصة، يمكن أن تدفع العائدين إلى العنف أو العودة للتنظيمات الإرهابية من جديد؛ انتقامًا من المجتمع، وتنفيذًا للأفكار التي لم يتم معالجتها بشكل صحيح؛ الأمر الذي يشير إلى أن القضاء على خطر العائدين ليس له سوى طريق واحد، وهو المعالجة الكاملة. 

----------------------

[1]) تقارير بريطانية.. تونس أكبر مصدر للتطرف بالعالم - موقع العربية نت- 7 مارس 2015 
[2]) تطرف متصاعد: لماذا يبدو المقاتلون الأجانب أكثر تشددًا داخل التنظيمات الإرهابية؟ 
مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة- 6 أكتوبر 2016 
[3]) خطر الإرهاب يين العائدين من سوريا والعراق– موقع سكاي نيوز – 19 أغسطس 2016. 
[4]) خيارات محدودة للمقاتلين الأجانب بعد تحرير الرقة - جريدة الشرق الأوسط- 30 أكتوبر 2017 
[5]) «العائدون من داعش» وإشكاليات المواجهة– موقع جريدة الشرق الأوسط– 26 مارس 2018. 
[6]) تفاصيل مثيرة عن عملية تصفية «سفاح داعش» في الرقة– موقع RT العربية – 7 ديسمبر 2015 
[7]) الجيش الليبي: انتقال عناصر من داعش في سوريا والعراق إلى ليبيا - موقع RT العربية – 
10 ديسمبر 2017. 
[8]) نصف الألمان المنضمين لـ«داعش» لهم سجل إجرامي– موقع DW.COM – 24 سبتمبر 2015 
[9]) مصدر تونسي «500 امرأة تونسية في صف وفي تنظيم داعش» الإرهابي في سوريا– الوكالة العربية السورية للأنباء- 13 يونيو 2015 
[10]) العراقي نقل مئات من عائلات المتشددين الأجانب إلى بغداد– موقع الحياة – 21 نوفمبر 2017 
[11]) «العائدون الجدد» من سوريا والعراق– موقع السياسية الدولية –12 أبريل 2017. 
http:www.siyassa.org.egNews12078.aspx 
[12]) عوائق متعددة: تحديات التعامل مع العائدات الأجنبيات في صفوف «داعش». 
مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة– 28 سبتمبر 2018 
[13]) المرجع السابق. 
[14]) من هو «الانتحاري الباسم» أبوزكريا البريطاني؟ - موقع بوابة أفريقيا – 22 فبراير 2017. 
[15]) فرنسا: تنظيم «الدولة الإسلامية» يتبنى عملية ذبح كاهن في هجوم على كنيسة بنورماندي. 
موقع فرانس 24 – 26 يوليو 2017. 
[16]) «استراتيجية مواجهة تنظيم القاعدة في جزيرة العرب.. دراسة مقارنة مع الحالة المصرية» 
مركز المسبار للدراسات –أكتوبر 2007 – دبي، الإمارات. 
[17]) أبوقتادة: تبين لي بيقين أن مقاتلي «الدولة الإسلامية» إنما هم «كلاب أهل النار»- موقع إسلاميون- 28 أبريل 2014 
[18]) المناصحة توضح وتكشف الحقائق– موقع السكينة - 10 يوليو 2014. 
[19]) التاريخ الأسود لـ«أبوالعلا عبدربه» قاتل فرج فودة– موقع البوابة نيوز- 24 مارس 2017 
[20]) «التوجه الاجتماعي لأفراد الجماعة الإسلامية بعد الخروج من السجون المصرية» 
مركز المسبار للدراسات – أغسطس 2008- دبي، الإمارات. 
[21]) التطرف يهدد سجون تونس مع ارتفاع عدد الموقوفين في قضايا الإرهاب إلى أكثر من 25 ألفًا 
موقع القدس العربي – مارس 2016
[22]) مدير إدارة السجون ينفي عزل المتورطين في قضايا إرهاب داخل زنزانات خاصة– موقع النهار 17 سبتمبر 2017. 
[23]) كيف كشفت عملية سيناء مصادر التجنيد الجديدة للإرهاب؟ - موقع السياسة الدولية –27 فبراير 2017.
"