يصدر عن مركز سيمو - باريس
ad a b
ad ad ad

غارات «البوكمال».. تحجيم النفوذ الإيراني في سوريا

الثلاثاء 19/يونيو/2018 - 10:42 ص
المرجع
محمد الدابولي
طباعة
في كتابه «رسائل الأسماك» يسرد القيادي بالحرس الثوري الإيراني حسين همداني- الذي لقي حتفه في «معركة حلب» أكتوبر 2015- تفاصيل التدخل الإيراني في الشأن السوري منذ اندلاع الاحتجاجات المُسلَّحة في عام 2011، وفي ثنايا سرده أكد «همداني» أن التدخل الإيراني كان لأهداف مذهبية طائفية، وليس لإنقاذ الدولة السورية من براثن الجماعات الإرهابيَّة كما تدعي الآلة الإعلاميَّة الإيرانيَّة.

الهدف الرئيسي للتدخل الإيراني، وفقًا لرواية «همداني»، كان حماية لمراقد «آل البيت» في سوريا، لكن في الحقيقة استغلت طهران وجودها في الساحة السورية كمنصة لتهديد دول الجوار، وإرغام المجتمع الدولي على التعاون معها تحت ستار الحرب على الإرهاب، في محاولة منها لكسر العزلة الدولية التي فرضت على النظام الإيراني؛ نتيجة سياساته المتطرفة ودعمه للجماعات الإرهابية.

لم يرق لكثير من القوى الإقليمية والدولية الوجود الإيراني في سوريا، رغم محاولة «الملالي» بعثرة الأوراق وادعاء وجوده في سوريا؛ من أجل دحر التنظيمات المتطرفة والإرهابية، وبناء على هذا اتخذت تلك الدول خططًا وسياسات منفردةً، هدفها في النهاية تقويض الوجود الإيراني في سوريا، فلجأت تركيا إلى المهادنة مع طهران، وتقسيم الخريطة السورية بين شمال سوري موالٍ لأنقرة وجنوب موالٍ لطهران.

في حين رأت إسرائيل أهمية معالجة الوجود الإيراني في سوريا في نقطتين؛ أولاهما ضرورة ابتعاد الميليشيات المحسوبة على إيران مثل «حزب الله» عن مناطق الجنوب السوري، خاصة «درعا» و«الجولان»، وتشكيل مسافة عازلة داخل سوريا بين إسرائيل والميليشيات الشيعية، أما النقطة الثانية فهي منع وصول الأسلحة الاستراتيجية والمتقدمة ليد «حزب الله» وهو ما عبرت عنه تل أبيب في العديد من الغارات الجوية، التي استهدفت مواقع عسكرية تسيطر عليها الميليشيات الشيعية في سوريا، مثل استهداف قاعدة «التيفور» في ربيع 2018. 

تكتيكات ذكية
أما الولايات المتحدة فهي الأخرى كانت تنظر بعين الريبة للوجود الإيراني في سوريا؛ إلا أنها اتخذت تكتيكات أكثر ذكاءً في التعامل مع هذا الملف؛ حيث تم التركيز في البداية أولًا على التخلص من تنظيم «داعش» وهو ما تحقق في الشهور القليلة الماضية، وتجميد الملف الإيراني قليلًا.

بعد النجاح في القضاء على الدولة المزعومة التي أقامها تنظيم «داعش» في سوريا والعراق أصبح الطريق ممهدًا للإدارة الأمريكية؛ من أجل تحجيم الدور الإيراني في سوريا. ففي البداية لم تعترض واشنطن على الغارات الإسرائيلية التي استهدفت مواقع لحزب الله والميليشيات الشيعية، كما دخلت في سلسلة من التفاهمات مع الجانب الروسي؛ من أجل إخراج الدور الإيراني من المعضلة السورية، وفرض المزيد من العقوبات على النظام الإيراني لدعمه الإرهاب، وكذلك فرض عقوبات أيضًا على «حزب الله» ذراع الملالي في المنطقة.

وأخيرًا صرح المرشح لمنصب مساعد وزير الخارجية الأمريكية «ديفيد شينكر»، خلال جلسة استماع له بالكونجرس، بأن الغرض من وجود القوات الأمريكية في سوريا منع طهران من إقامة جسر بري إلى البحر المتوسط.

ولم تكد تمر أيام معدودة على تصريحات «شينكر» حول رفض أمريكا للوجود الإيراني في سوريا، حتى قامت طائرات مجهولة بشن غارات جوية ضد تمركزات الميليشيات الشيعية الموالية لطهران في قرية «الهرري» منطقة البوكمال غرب الفرات على الحدود السورية العراقية؛ ما أدى إلى مقتل نحو 38 شخصًا يرجح انتماؤهم إلى «حزب الله».

تزامن مثير
على الرغم من نفي قائد القيادة المركزية الأمريكية «الميجور جوش جاك» بعدم تنفيذ طيران التحالف بقيادة أمريكا تلك الغارات؛ فإن أغلب التحليلات ترجح قيام الولايات المتحدة بتلك الغارة، حتى وإن نفت ذلك، فمثلًا وسائل الإعلام الرسمية السورية اتهمت واشنطن بارتكاب تلك الغارات. 

مما يرجح احتمالية ارتكاب أمريكا لتلك الغارات هو تزامنها المثير- أي الغارات- مع التهديدات الأمريكية بمنع وصول إيران للبحر المتوسط، وما يزيد الأمور إثارة هو تعرض قوات «الحشد الشعبي» لغارات هي الأخرى جنوب بلدة «القائم» على الحدود السورية العراقية بالقرب من بلدة البوكمال السورية، التي تعرضت هي الأخرى لغارات جوية.

يتضح لنا أن تلك الغارات استهدفت الميليشيات الشيعية الموالية لإيران سواء في سوريا أو العراق، وأن الغرض من هذه الغارة أمران، أولهما تقزيم تلك الميليشيات، ودفعها نحو الابتعاد عن الساحة السورية من ناحية، ومن ناحية أخري بتر الأذرع الإيرانية في المنطقة. 

غارات مستمرة
لم تنقطع تقريبًا الغارات التي تستهدف الوجود الإيراني في سوريا؛ حيث شنت إسرائيل العديد من الغارات، مستهدفة الوجود الإيراني في سوريا ومحاولة منها إبعادها عن منطقة الجولان، والحيلولة دون حصول الميليشيات التابعة لإيران، خاصة «حزب الله»، على الأسلحة المتطورة التي يمتلكها الجيش السوري، ومن أبرز تلك الهجمات عملية اغتيال «سمير القنطار» القيادي في حزب الله في ديسمبر 2015.

وفي عام 2018 كثف الطيران الإسرائيلي من غاراته ضد مواقع الميليشيات التابعة لإيران، خاصةً حزب الله، ففي فبراير 2018 شن الطيران الإسرائيلي ضربات واسعة ضد تمركزات تلك الميليشيات، وتكرر هذا الأمر في أبريل 2018 حين تم قصف «مطار التيفور العسكري»، وشهدت الأمور ذروتها في مايو 2018 حين استهدفت الغارات عددًا من المواقع التابعة للميليشيات الإيرانية في ريف دمشق؛ ما دفعها إلى إطلاق بعض الصواريخ تجاه إسرائيل. 

دلالات غارات البوكمال 
تدور حاليًا في الساحة السورية لعبة الكراسي الموسيقية بين القوى الإقليمية والدولية، ومن المؤكد أن اللعبة بدأت تدير ظهرها لطموحات الملالي في دمشق، فمؤخرًا صعدت الولايات المتحدة من خطابها السياسي المعادي للوجود الإيراني في سوريا، وأعقب هذا التصعيد غارات، وإن كانت مجهولة المصدر، لكنها تعبر بصدق عن رغبة واشنطن في تقليل نفوذ الملالي في سوريا، وتحمل الغارات الأخيرة العديد من الدلالات أبرزها:

 نزع المخالب الإيرانية: تتبع إيران أسلوب الحرب بالوكالة؛ حيث تعتمد على العديد من الميليشيات الشيعية، مثل «حزب الله» اللبناني، وكتائب «أبوالفضل العباس» العراقية، وغيرهما من الميليشيات الشيعية العراقية.

نجحت تلك الميليشيات في تنفيذ أجندة الأهداف الإيرانية في المنطقة العربية؛ حيث سيطرت طهران على 4 عواصم عربية، هي: بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء؛ بفضل تلك الميليشيات؛ لذا فقصف تلك الميليشيات سواء في البوكمال السورية أو القائم العراقية يعد قضمًا لتلك المخالب الإيرانية. 

 منع إيران من الولوج للمتوسط: تصريحات السياسي الأمريكي المرشح لمنصب مساعد وزير الخارجية «شينكر» كشفت بوضوح نية واشنطن منع إيران من الولوج إلى البحر المتوسط، وهو ما يمثل تهديدًا للمصالح الأمريكية والأوروبية.

يعد منع طهران من الولوج للمتوسط تحجيمًا للنفوذ الإيراني بشكل عام؛ حيث من المفترض أن تستغل طهران وجودها في البحر المتوسط؛ من أجل توسيع دائرة نفوذها في الدول الأوروبية ودول شمال أفريقيا.

يأتي تحجيم دورها في البحر المتوسط في إطار سياسة إقليمية وعالمية تتجه إلى إبعاد طهران عن الممرات المائية المهمة، ففي الوقت الذي اتخذت واشنطن قرارها بتحصين المتوسط من النفوذ الإيراني كانت المقاومة اليمنية وبدعم من دول التحالف العربي؛ لإعادة الشرعية في اليمن نجحت بشكل كبير في تحرير معظم مدينة «الحديدة» المرفأ اليمني المهم المتحكم في مضيق باب المندب. 

 تراجع الحشد الشعبي: يعد الحشد الشعبي أبرز التنظيمات الشيعية الموالية لإيران في العراق خلال الفترة الأخيرة، التي دعمت فيها طهران الحشد عسكريًّا وسياسيًّا، وعلى الرغم من هذا الدعم السياسي والعسكري لم تنجح قائمة «الفتح» الموالية للحشد الشعبي في تصدر الانتخابات العراقية، وأتت خلف قائمة «سائرون» التابعة للزعيم الشيعي «مقتدى الصدر»، وهو ما يعد تراجعًا سياسيًّا قد يعززه تراجع عسكري بعد الغارات الأخيرة التي استهدفت ميليشيات الحشد في مدينتي «القائم» العراقية و«البوكمال» السورية.

 دفع التسوية السلمية في سوريا: من المؤكد في حال إبعاد إيران عن المشهد السوري، فإن ذلك سوف يعزز ذلك من فرص التسوية السلمية في سوريا. 

 نهاية داعش: سيكتب نهاية الوجود الإيراني في سوريا نهاية التنظيمات المتطرفة الأخرى التي هي على الجانب الآخر مثل تنظيم «داعش» و«جبهة النصرة»، فإيران تستغل وجود تلك التنظيمات من أجل تبرير وجودها في سوريا؛ لذا فطهران أحرص دولة في العالم على وجود تلك التنظيمات في سوريا. 

 تقليل احتمالات حرب إقليمية: في الفترة الأخيرة تزايدت احتمالات اندلاع حرب إقليمية خاصة بين إسرائيل والميليشيات الشيعية في سوريا؛ نتيجة القصف المتبادل بين الجانبين؛ لكن مع الغارات الأخيرة التي قد تكون بداية عملية عسكرية وسياسية أمريكية لتحجيم الدور الإيراني في سوريا، فإن احتمالات اندلاع حرب بين وكلاء إيران وإسرائيل ستقل. 

 إيقاف مسلسل التغيير الديمجرافي: اتبعت إيران في سوريا خلال الفترة الأخيرة سياسة التغيير الديمجرافي في سوريا عبر تهجير السكان المحليين في حماة وحمص وحلب وغيرها من المدن السورية؛ من أجل إحلالهم بعناصر شيعية وتكوين هلال شيعي خالص في سوريا والعراق؛ لذا فإبعاد إيران عن المشهد السوري سيساهم إلى حد كبير في إيقاف سياسة التغيير الديمجرافي.

 توتر العلاقات الإيرانية- الروسية: منذ ولوج روسيا إلى المشهد السوري وتدخلها عسكريًّا في الأزمة دارت العديد من التكهنات حول توتر في العلاقات بين الجانبين، فإيران لا تقبل وجودًا روسيًّا في سوريا يعمل على تقليل نفوذها وسيطرتها على المشهد، في الوقت الذي لن تسمح فيه موسكو باستغلال دورها في سوريا ليكون معبرًا لإيران لتنفيذ أجندتها التوسعية، وأخيرًا رفعت موسكو يدها عن الميليشيات الشيعية الموالية لطهران الموجودة في سوريا؛ حيث سمحت دفاعاتها الجوية لتلك الغارات الأخيرة أن تتم، وأن هناك تنسيقًا عالي المستوى بين القيادة العسكرية الروسية والجهة المنفذة للغارات؛ حيث فتحت الأجواء السورية لمثل تلك الغارات دون اعتراض من المضادات الروسية.

 عودة «حزب الله» للتقوقع في الضاحية الجنوبية: إذا كانت تلك الغارات تأتي في سياق سياسة تهدف إلى تحجيم النفوذ الإيراني في سوريا فإن هذا سيدفع «حزب الله» إلى التقوقع في الضاحية الجنوبية وتقليص دوره الإقليمي واللبناني، وهو ما يعد نهاية للمشروع الإيراني القائم على فرض تبعية الدول العربية لمشروع ولاية الفقيه. 

الكلمات المفتاحية

"