ما بعد الضربة الأمريكية.. نحو تموضع جديد للجماعات المُتطرفة

أثارت الضربات الأمريكية التي وجِّهَت ضد أهداف وتمركزات للجيش العربي السوري، صباح يوم 14 أبريل 2018، العديد من التساؤلات حول تحولات الموقف الأمريكي من القضية السورية، وإمكانية إعادة رسم خريطة التوازنات على الأرض، بين الجيش السوري والتنظيمات المسلحة المُتَطرفة، ودلالاتها الإقليمية والدولية.

قراءة في تحولات الموقف الأمريكي
كان الموقف الأمريكي فيما يخصُّ الأزمة السورية يُوصف عادة بالغموض، فخلال فترة باراك أوباما، كانت الولايات المتحدة على وشك التدخل عسكريًّا في سوريا، وإسقاط نظام الأسد، على خلفية هجمات كيميائية اتهم بها النظام، إلا أنها تراجعت في آخر لحظة.
مع تولي دونالد ترامب الحكم أكد أهمية بقاء بشار الأسد؛ لمواجهة التنظيمات المُتطرفة، إلا أنه في أبريل 2017، وَجَّه 59 صاروخًا؛ ردًّا على هجوم كيميائي نفذه الجيش السوري تجاه بلدة خان شيخون، وتُعد الضربة التي تمت اليوم هي الثانية لـ«ترامب» في سوريا، وهو ما يفتح الباب أمام العديد من التساؤلات حول أسباب الضربة الأمريكية ضد مواقع الجيش الوطني السوري، والتي يُمكن إرجاعها إلى العديد من الاحتمالات التي دفعت واشنطن لتلك الضربة:

Ø تحقيقات مولر: تُواجه الإدارة الأمريكية حاليًّا مأزقًا كبيرًا، متمثلًا في أزمة تحقيقات المحقق الخاص روبرت مولر، التي تدور حول ملف التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية، ودعم المرشح الجمهوري وقتها «ترامب»؛ لذا تحاول الإدارة الأمريكية تبني سياسات أكثر تشددًا تجاه السياسات الروسية، في محاولة للتأثير على التحقيقات الجارية، وإثبات عدم توافق الإدارة الأمريكية الحالية، مع السياسات الروسية.

Ø إعادة الهيمنة الأمريكية: من أبرز الانتقادات التي وُجِهت لإدارة أوباما، حالة التلكؤ التي اتبعتها في الملف السوري؛ حيث أصبحت الساحة السورية مُتاحة أمام جميع القوى الإقليمية والدولية، خاصة روسيا وإيران، لذا من الممكن أن يكون هدف الضربة الأمريكية اتخاذ تموضع جديد لواشنطن في الأزمة السورية، يمكن من خلاله التأثير على مواقف ومصالح الدولتين.

Ø توازن الضعفاء: نجح الجيش السوري المدعوم من روسيا وإيران مؤخرًا، في تحقيق انتصارات قوية على الجماعات والتنظيمات المُتطرفة المُعادية له، لعل أبرزها خروج «جيش الإسلام» من «دوما»، واستعداد الجيش السوري لدخولها،([1]) وبالتالي تسعى واشنطن إلى إضعاف قدرات الجيش السوري مرة أخرى، لتحقيق التوازن بينه وبين الجماعات المُتطرفة المُعادية له.

أهداف الضربة الأمريكية لسوريا
1) نحو أفغنة جديدة:
تسعى واشنطن إلى أفغنة الوضع في سوريا، وإحياء ما يُسمى بـــ«الجهاد السوري»، فالوضع الحالي مُشابه لما حدث في أفغانستان 1979؛ حيث دعمت موسكو الحكومة الأفغانية الشيوعية ماديًّا وعسكريًّا، في مواجهة حالات التمرد المتعددة ضدها، وفي المقابل دعمت واشنطن الجماعات والفصائل الإسلاموية المسلحة، وأحيت «الجهاد الأفغاني»؛ من أجل مواجهة التمدد الشيوعي في منطقة وسط آسيا، لذا تحاول واشنطن حاليًّا استنساخ التجربة الأفغانية في سوريا، وإحياء الجهاد السوري لمواجهة التمدد الروسي المتنامي في المنطقة العربية.
الأمر قد يتخطى مسألة ضرب النفوذ الروسي في المنطقة، فالهدف القريب من الضربة حاليًّا هو ضرب النفوذ الروسي، أما الهدف الأبعد والأكثر استراتيجية فهو إنعاش التجربة الجهادية مرة أخرى، وترسيخها في المنطقة لتظل مسألة ضعف سوريا وانتشار الجماعات الإرهابية بها، مصدر تهديد وإزعاج لدول المنطقة كافة.
2) ضعضعة النفوذ الإيراني:
خلال السنوات الماضية نجحت إيران في التمدد عسكريًّا وسياسيًّا في سوريا، عبر تقديم المساعدات الفنية والعسكرية لها في مواجهة التنظيمات المُتطرفة، ونجحت إيران عبر ميليشياتها الشيعية في ترسيخ وجودها في المنطقة، وأصبحت لاعبًا رئيسيًّا ليس فقط في المنطقة، وإنما على المستوى العالمي.
لذا رأت الولايات المتحدة ضرورة تحجيم الدور الإيراني في المنطقة؛ لتعارضه مع المصالح الأمريكية وبعض الدول العربية، من خلال إضعاف قدرات النظام السوري الذي يمثل رأس حربة لها في عملية التمدد في المنطقة.
3) إحراج الأنظمة العربية:
تهدف الضربة الأمريكية الحالية لسوريا، إلى إحراج الأنظمة العربية، خاصة أنها تأتي قبل يوم واحد، من انعقاد القمة العربية في الدمام يوم 15/4/2018، وبالتالي ستوفر فرصة للأبواق الإعلامية المحسوبة على التيارات الإسلاموية، في تكرار ادعاءات رضوخ تلك الأنظمة للقرار الأمريكي. كما ستؤدي الضربة إلى خلط الأوراق بالنسبة للقادة العرب، والتركيز على الملف السوري على حساب الملفات الأخرى، خاصة القضية الفلسطينية.

النتائج المُتوقعة للضربة الأمريكية لسوريا
1) إحياء التنظيمات المُتطرفة:
من النتائج التي ستتمخض عنها الضربة الأمريكية؛ إعادة إحياء التنظيمات والحركات الراديكالية الإسلاموية في سوريا خاصة وفي المنطقة عامة، فمؤخرًا دُحِر العديد من تلك التنظيمات، ومُنيت بخسائر كبرى ستؤثر على مستقبلها السياسي والجهادي في المنطقة، فتنظيم داعش -مثلاً- انحسر وجوده في سوريا، وأصبح يسيطر على بعض الجيوب الحدودية في مدينة الرقة، فضلًا عن سقوطه في الموصل، كما تعاني التنظيمات الإسلاموية الأخرى في سوريا، من انحسار شديد سواء في مناطق تمركزها أو في تعدادها بعد خسائرها المتتالية على يد الجيشين السوري والروسي.
لذا نستطيع القول إن الهجمات المُوجهة لمواقع الجيش السوري، تهدف في الأساس إلى إضعاف قدراته العسكرية والمادية، وشل تحركاته على الأرض من أجل منح المزيد من الوقت للجماعات المُتطرفة؛ لإعادة تمركزها من جديد والتقاط الأنفاس، خاصةً أن الضربة تتزامن مع انحسار «جيش الإسلام» وخروجه من مدينة دوما.
2) تحجيم الميليشيات الشيعية:
ما يُقلق الإدارتين الأمريكية والإسرائيلية، هو تنامي قدرات الميليشيات الشيعية الموالية للجيش السوري؛ مثل «حزب الله»، فخلال الفترة الماضية تعاظمت قدرات حزب الله القتالية، وامتلك نظم أسلحة حديثة، وفرتها له تجربته في الحرب السورية.
لذا عادة ما تلجأ إسرائيل إلى توجيه ضربات غير منتظمة، لبعض الأهداف العسكرية في سوريا؛ من أجل إضعاف تلك القدرات ومنع وصول الأسلحة المتطورة إلى حزب الله، وما يؤكد هذا الطرح التزامن بين الضربة الأمريكية التي تمت (14 أبريل)، والغارة الإسرائيلية التي تمت في (9 أبريل) ضد قاعدة «التيفور الجوية» في سوريا.
الضربة الأمريكية لم تستهدف تجمعات حزب الله، وإنما استهدفت مقدرات الجيش السوري، لذا من المُحتمل أن تُسهم بشكل غير مباشر في إضعاف قدرات حزب الله من خلال:
· زيادة إنهاك الحزب في الملف السوري، عبر الاعتماد عليه بشكل أساسي في التحركات الميدانية؛ نظرًا للاستهداف الذي تتعرض له قوات الجيش السوري من قِبل الولايات المتحدة.
· فقدان مقاتلي حزب الله للدعم الجوي الذي يوفره الطيران السوري.
· قد تلجأ واشنطن إلى الضغط على روسيا؛ من أجل إخراج الميليشيات الشيعية وعلى رأسها حزب الله من المشهد السوري، مقابل وقف الهجمات الأمريكية.
3) إضعاف الموقف الروسي:
من أهم النتائج التي قد تتمخض عنها الضربة الأمريكية، وقف الانفراد الروسي بمسار التسوية في سوريا، وفرض الرؤية الأمريكية التي لن تخرج عن إيجاد موطئ قدم للجماعات والحركات الإسلاموية في تلك التسوية.
لكن قد تكون هناك رسالة أخرى للجانب الروسي، عبر تهديده بصورة غير مباشرة، وتذكيره بما حدث في أفغانستان، فلا تكاد روسيا تستفيق من تجربة الجهاد الأفغاني حتى دخلت مرحلة الجهاد الشيشاني، الأمر الذي قد يتكرر بإحياء الجهاد السوري ومن ثم تزايد احتمالات انتشاره في الداخل الروسي ذاته.
4) بلورة الدور التركي القطري:
المُتابع للأحداث يكتشف أن الضربة الأمريكية تَصبُّ في مصلحة السياسات القطرية والتركية، فالضربة جاءت بعد لقاء جمع بين الأمير القطري، تميم بن حمد، والرئيس الأمريكي ترامب، يوم 10 من أبريل 2018، فالسياسات القطرية تقوم على إضعاف الأنظمة العربية، وإعلاء شأن الجماعات الإسلاموية، والضربة الأخيرة تحقق هذا الهدف، أما فيما يخص تركيا فإن أنقرة هي المستفيد الأول منها بالتأكيد وذلك لـ:
Ø إضعاف قدرات الجيش السوري وعدم قدرته على مواجهة التدخلات التركية في شمال سوريا.
Ø تقوية الجماعات والتنظيمات الإسلاموية المدعومة من تركيا، التي تستطيع إعادة دعمها وتوجيها مرة أخرى لقتال الجيش السوري وتوسيع هيمنتها على الأرض السورية.
Ø إضعاف المنافسين الإقليميين خاصة إيران، فخلال السنوات الماضية تحولت الساحة السورية إلى سباق محموم بين طهران وأنقرة، لذا فالضربة الأمريكية الأخيرة ستعمل على إضعاف أو تحجيم النفوذ الإيراني، لصالح النفوذ التركي الذي بدأ يتوسع بشكل مُبالغ فيه بعد عملية عفرين.
وختامًا: فإن الضربة الأمريكية لبعض مواقع الجيش السوري حملت العديد من الرسائل للقوى الدولية والإقليمية، لكنها أيضًا حملت رسائل مُبطَّنة للجماعات الإسلاموية المتشددة والمتطرفة، بالسماح لها بالتمدد من جديد، وإعادة ترتيب أوراقها، وإنعاش مواقفها من أجل تنفيذ سياسة أمريكية هدفها إبقاء الوضع مشتعلًا في المنطقة العربية.
[1] ـ 79 حافلة تغادر دوما تقل الدفعة قبل الأخيرة من «جيش الإسلام»، موقع سبوتنيك، متاح على الرابط :
https://arabic.sputniknews.com/arab_world/201804141031583608-حافلة-دوما-الدفعة-الأخيرة-جيش/