بناءً
على مبادرة من وزارة المالية الفرنسية، قام مؤخرًا
جهاز مكافحة
شبكات التمويل غير الشرعية، وهو الجهاز المسؤول عن مكافحة غسيل الأموال وتمويل
الإرهاب في فرنسا (leTracfin) بإعادة فتح العديد من التحقيقات الجنائية المرتبطة باستثمارات
قطر في فرنسا.
كانت
هذه التحقيقات لا تتحرك مطلقًا، على الرغم من المخالفات العديدة التي أشار إليها
المحققون، ونقلتها الصحافة على نطاق واسع؛ فمنذ عام 2007 اصطدمت كل التحقيقات
القضائية حول الاستثمارات القطرية بالوضع الخاص الذي منحه الرئيس السابق نيكولا
ساركوزي لقطر والذي يعفي الاستثمارات القطرية في فرنسا من أي رسوم أو رقابة ضريبية.
ومع
ذلك، فإن المعلومات التي كشفت عنها هذه التحقيقات بشكل سري قد أعطت الملف بُعْدًا
جَديدًا غير مسبوقٍ يتعلق بغسيل الأموال وشبهات تمويل الإرهاب.
هذه
العناصر الجديدة، التي أُضِيفَت إلى ملفات التحقيق، دفعت المحققين إلى تجاوز الوضع
الخاص لقطر؛ فالقضية لم تعد مجرد تحقيقات في مخالفات إجرائية تتعلق بالاستثمارات
القطرية في فرنسا.
وتؤثر
عناصر التحقيق هذه على الاستثمارات القطرية، ولاسيما استثمارات الأمير السابق حمد
بن خليفة آل ثاني، وزوجته الشيخة موزة ووزيره السابق حمد بن جاسم آل ثاني، وهي شبهات
قوية في غسيل الأموال لأسباب تتعلق بالفساد أو التمويل الخفي.
وسرعان
ما أدى إطلاق هذه التحقيقات والتهم الجديدة التي أثارها المحققون فيما يتعلق بغسيل
الأموال أو التمويل السري أو حتى تمويل الإرهاب إلى ردود فعل مذعورة من أعلى
السلطات القطرية.
وسارع
أمير دولة قطر الحالي، تميم بن حمد آل ثاني، إلى إثارة هذا الموضوع خلال لقائه
بالرئيس إيمانويل ماكرون، في قصر الإليزيه في 15 سبتمبر 2017، فطلب الشيخ تميم من
الرئيس الفرنسي أن يُوقِف التحقيقات التي تستهدف بلاده، وكان رد الرئيس ماكرون دبلوماسيًّا
للغاية، مستندًا على مبدأ الفصل بين السلطات؛ فقد شرح لأمير قطر أنه ليس من
صلاحيات رئيس الجمهورية في فرنسا التدخل في التحقيقات الجارية، ناهيك عن وقفها.
في
الواقع، يقول مصدر مُقَرَّب من قصر الإليزيه: إن الرد المهذب والدبلوماسي للرئيس
ماكرون يخفي وراءه رغبة قوية في استمرار التحقيقات القضائية ضد قطر، بل وإيقاف الامتيازات الضريبية الضخمة الممنوحة لهذا
البلد؛ فلقد عبَّر فرانسوا بايرو، في اليوم نفسه الذي عُيِّن فيه وزيرًا للعدل، عن
هذه الرغبة علنًا غداة وصول ماكرون إلى السلطة.
بعد
فشل محاولات أمير قطر الضغط على قصر الإليزيه لوقف التحقيقات القضائية في
استثمارات قطر في فرنسا، سارع والده حمد بن خليفة آل ثاني إلى إعادة ترتيب أعماله
في فرنسا.
وهكذا
انفصل حمد وزوجته الشيخة موزا سرًّا عن شادية كلوت، تلك المرأة الغامضة التي كانت
تعمل في الظل وتدير مصالحهما المالية في فرنسا لأكثر من 20 عامًا، وتركت كلوت على
التوالي رئاسة الشركة القابضة العقارية (فرنسا لإدارة الأملاك) France
properties management، التي تدير ممتلكات حمد وزوجته في فرنسا، ثم
رئاسة مجلس إدارة مجموعة برنتامب (Printemps )
الفرنسية الفاخرة، والتي اشتراها حمد، في ديسمبر 2012 بمبلغ 1.6 مليار يورو.
ووفقًا
لمصادرنا، فقد صدرت تعليمات لخليفة شادية كلوت على رأس شركة France
properties management الخبير المالي الفرنسي جيل دو بواسيو،
بإنهاء أعمال الشركة التي قد تجد نفسها متورطة في قضايا غسيل الأموال والتمويل
الخفي التي تحقق فيها العدالة الفرنسية حاليًّا.
ولأسباب
لاتزال غير واضحة، استُخدِمَت شركة
فرنسا لإدارة الأملاك، في العديد من عمليات الشراء التي تم إجراؤها في فرنسا لصالح
الشيخ حمد، مجموعة من الشركات الوهمية الواقعة في لوكسمبورج أو جنيف أو سنغافورة
أو في ملاذات ضريبية كجزر فيرجن البريطانية في منطقة البحر الكاريبي.
إن
اللجوء لمثل هذه الشركات الوهمية المقامة في ملاذات ضريبية شائع في التمويل
العالمي؛ بهدف التهرب من الضرائب، لكن دوافع المستثمرين القطريين تثير اهتمام
المحققين؛ لأنها لا يمكن أن تكون تهربًا من الضرائب، فالاستثمارات القطرية مستثناة
تمامًا من الضرائب في فرنسا.
قادت
الأدلة المُقدمة إلى محققين من جهاز مكافحة
شبكات التمويل غير الشرعية إلى إشكالية جديدة تمامًا: لماذا أنشأ أمير قطر السابق
شركات وهمية في ملاذات ضريبية لتمويل عمليات الشراء في فرنسا ؟ من المؤكد أن هذه
الشركات لن تدفع ضرائب أقل؛ لأنها في الأساس معفاة تمامًا من الضرائب.
إذا
لم تكن أموال هذه الشركات الوهمية ليست لغرض التهرب من الضرائب فما الغرض إذًا؟
هناك احتمال واحد فقط وهو أن تكون هذه الأموال موجهة لعمليات غسيل أموال
عكسية. وهذا يعني أن يستقطع المال بشكل قانوني تمامًا لحَقْنِه في دوائر خفية؛
وذلك إما لأغراض فساد تتعلق بالعمولات كما هو الحال في عقود الأسلحة على سبيل
المثال أو لدعم أنشطة خفية، مثل الجريمة المنظمة أو الاتجار بالمخدرات أو تمويل
الإرهاب.
وفي
هذا الصدد، يهتم المحققون الفرنسيون بالملفات الخاصة بصفقتين ضخمتين، استَخْدَمَت
فيهما شركة فرنسا لإدارة الملاك شركات وهمية عدة، نيابة
عن حمد بن خليفة:
1- شراء المجموعة الفرنسية الفاخرة برانتم
Printemps
هذه
المجموعة، التي توظف أكثر من 3000 شخص في فرنسا، اشتراها حمد بن خليفة من مالكها
السابق، المجموعة الإيطالية Borletti في ديسمبر 2012. لكن شركة فرنسا لإدارة
الأملاك، التي تدير عمليات الشراء التي يقوم بها حمد، لم تُبرِم هذه الصفقة
مباشرة، ولكن عن طريق شركة وهمية مَقَرُّها لوكسمبورج تحت اسم ديفين إنفستمنت Divine
Investments SA (DISA)
أصبح
واضحًا من التحقيقات الأولى أن DISA هذه ليست إلا مصادفة فارغة؛ بينما كانت تستعد لشراء
برانتم بما لا يقل عن 1.6 مليار يورو، كان رأس مالها المعلن 31000 يورو فقط!
لقد
فهم المحققون سريعًا أن الشركة اللوكسمبورجية قد عملت بمثابة وعاء السقي الذي
مرَّت من خلاله ما لا يقل عن 600 مليون يورو من العمولات المدفوعة للوسطاء ولأسماء
وهمية، معظمها ليس لها صلة حقيقية بصفقة شراء برانتم.
ووفقًا
لمصادرنا، فقد أوضحت الحسابات الأولى لمحققي جهاز مكافحة شبكات التمويل غير الشرعية أن
هذه العمولات كلفت أمير قطر السابق ثلاثة أضعاف ما كان عليه أن يدفعه إلى سلطات
الضرائب الفرنسية بشأن هذه المعاملة، إذا لم يكن مُعْفَى من الضرائب!
2 شراء وتجهيز اليخت كاتارا
حصل
حمد بن خليفة على هذا اليخت، الذي تم تصنيفه من الـ15 يختًا الأكثر فخامة في العالم،
في أغسطس 2010، من الشركة الألمانيةLürssen Werft ،
بتكلفة بلغت 312 مليون يورو. كلف بن خليفة شركة ألبرتو بينتوالتي تتخذ من باريس
مقرًّا لها، بتصميم ديكورات اليخت، وإجراء
بعض الإصلاحات به بتكلفة 13.3 مليون يورو (4.3 مليون رسوم و9 ملايين
مستلزمات فاخرة).
ومع
ذلك وجد المحققون الفرنسيون أن هناك 12 تعاملًا مصرفيًّا فقط تم إجراؤها على
الحسابات الباريسية لألبرتو بينتو في بنكي كريدي أجريكول ومارتن ماورل، وقد تراوحت
قيمة هذه التعاملات بين 100،000 و 500،000 يورو. بعد ذلك، صدرت تعليمات لألبرتو
بينتو من قبل شادية كلوت، بإصدار ما تبقى من فواتير مستحقة باسم شركة وهمية
مَقَرُّها في جزر فيرجن البريطانية، في منطقة البحر الكاريبي، ولا يبدو أن هذه
الشركة التي تحمل اسم كاليكا لها أي علاقة حقيقية بشركة الديكورات الباريسية.
وهكذا،
تم إجراء أربعة تحويلات بمبلغ 1.9 مليون يورو، من بنك قطر الوطني في باريس على
حساب تابع لكاليكا في أحد فروع بنك إدموند روتشيلد في جنيف.
وكما
كان الحال مع شركة DISA في لوكسمبورج،
نجد أن المتلقين الفعليين للمبالغ المحولة غير المعروفة أسماؤهم حتى الآن.
إن مهمة التحقيقات التي يُجريها جهاز مكافحة شبكات التمويل غير الشرعية في باريس هي تحديد الوجهات النهائية لهذه العمولات، ومعرفة ما إذا كانت مُوجهة لأغراض غير قانونية كغسيل الأموال والفساد، في نمط مشابه لعقود الأسلحة، أو أنها غسيل أموال عكسي لأغراض التمويل الخفي الذي يمكن ربطه بتمويل الإرهاب، في ظلِّ الشكوك المتزايدة حول قطر في هذا الموضوع.