الأزهر في قلب المعركة وعلماؤه على جبهة القتال
منذ إنشائه والأزهر الشريف منارة تشع نور الإسلام بأشعة الوسطية والاعتدال، حوله التف المصريون، ومِن على منبره شحذت هممهم، واستثيرت بداخلهم الروح الوطنية، فعلى مدار تاريخه العريض وقف الأزهر درعًا قويًّا، وحصنًا منيعًا أمام أعداء الدين والوطن والإنسانية، وسواء كان طلابه من المصريين أو الوافدين فالجميع -بانتمائه للأزهر- حمل مشعل النور ليضيء به دروب الجهل والتطرف المعتمة، فنشر رسالة المحبة والإيمان والوطنية والإنسانية حول ربوع المعمورة بلين القول ورائع الأفعال.
ولا يخفى الدور الوطني للأزهر، حيث حمل علماؤه لواء الوحدة الوطنية بين عنصري الأمة المصرية، وراح يعلي من قيمة المواطنة والإنسانية، وفي حرب أكتوبر 1973 استطاع أن يستثير همم المصريين جميعًا مسلمين ومسيحيين ويحثهم على الدفاع عن أرضهم ويلهمهم بالصبر والجلد ويحض أبناء مصر على الفداء والتضحية في حرب العاشر من رمضان.
ولم يقتصر دور الأزهر -في حرب أكتوبر- على فترة الحرب فقط، بل سبق تلك الفترة بسنوات هي مدة حرب الاستنزاف عقب نكسة يوينو 1967، حيث بدأ علماؤه على جبهة القتال قبل أن تدور رحى الحرب على الضفة الشرقية لقناة السويس وتكتمل ملحمة النصر الوطنية بالعبور وتحطيم خط بارليف، فما إن استشعر الأزهر الشريف خطر اليأس الوطني الذي بدأ يتسرب لنفوس المصريين بعد الهزيمة حتى قرر علماؤه وشيوخه خوض معركة التأهيل النفسي والتجهيز المعنوي لتجاوز تلك المحنة وذلك البلاء، فكانت حرب الاستنزاف خير شاهد على مؤازرة الأزهر لجنود الجيش المصري على جبهة القتال، عبر عقد اجتماعات عديدة ولقاءات وندوات لكبار علماء الأزهرمع الضباط والمجندين لحثهم على الجهاد وقتال العدو ونيل الشهادة في سبيل الوطن، والإيمان بالقضية العادلة التي يحاربون من أجلها.
وربما لا يعرف الكثيرون أن سلاح التوجيه المعنوي داخل القوات المسلحة المصرية من ضمن مهامه الجليلة الاستعانة برجال الدين في شحذ همم الجنود، وتحميسهم للقتال والفوز بإحدى الحسنيين النصر أو الشهادة.
يتذكر الدكتور علوي أمين أستاذ الفقه بكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، وأحد جنود الجيش المصري في حرب الاستنزاف وحرب العبور أكتوبر 1973، راويًا: «كان كبار علماء الأزهر يجتمعون بالضباط وبنا نحن المجندين خلال حرب الاستنزاف وقبل حرب أكتوبر، وكانوا حينما يعلمون بوجود أزهريين في صفوف الجنود يدربونهم على حث الجنود على الإيمان بالله وحب الوطن موضحين فضل الجهاد والدفاع عن الأرض، وقيمة الشهادة من أجل الوطن، وكانت جنديًّا أزهريًّا ونلت تدريبي المعنوي هذا على يد كبار علماء الأزهر الشريف وقتها».
وتابع العالم الأزهري وبطل الحرب المجيدة، أن الأزهر لا يزال يقوم بدوره في الدفاع عن الوطن، بل وعن الإنسانية من خلال مواجهة الإرهاب والتطرف بالفكر الوسطي، وتحطيم إدعاءات التنظيمات الإرهابية التي ترتكب جرائمها باسم الإسلام، موضحًا أن الدين الإسلامي برئ من هذه الممارسات الإجرامية، بل دعا لمحاربتها والتصدي لها، وتخليص العالم من شرورها.
الأزهر على جبهة القتال
يتمثل للأزهر دور جليل، في إلقاء الخطب سواء في المساجد أو الوحدات العسكرية، وكذلك الفتاوى الصادرة من علمائه، حول شحذ الهمم ورفع العزيمة والإصرار للجنود علي بذل أقصى ما عندهم من جهود ليتحقق الهدف المنشود منه وهو تحرير سيناء.
يقول الدكتور محمد الشحات الجندي، إن : «الدور المعنوي الذي قام به علماء الأزهر قبل قيام حرب 6 أكتوبر عام 1973 هو بمثابة المفعول السحري عند الشعب والجنود، خاصة بعد الانتكاسة التي تلقاها الجيش المصري فى 67».
وأضاف «الشحات» لـ « المرجع»، كان الشغل الشاغل لعلماء الأزهر الشريف بعد نكسة 67 هو رفع الهمة وإزالة آثار النكسة، واعتبروا المسألة حياة أو موتًا وهي كانت كذلك بالفعل، وقد تم ذلك عن طريق إلقاء الخطب في المساجد والتي بثت روح العزيمة والإصرار على النصر عند جموع الشعب المصري والجنود والقادة العسكريين.
وكان للدكتور طه أبو كريشة، عضو هيئة كبار العلماء له دور كبير في إلقاء الخطب الحماسية أو التشجيعية، التي ساعدت الجنود علي التخلص من آثار 1967 النفسية، والحث على القتال ضد المحتلين وغاصبي الأرض.
يوضح «أبوكريشة»، في تصريح لـ «المرجع»، (وذلك قبل أن يتوفاه الله بأيام) قائلًا: «كنت حريصًا على إلقاء الخطبة التي تدعو للجهاد، وأغلب خطبي كانت عن غزوات النبي (صلى الله عليه وسلم)، وكذلك خطب عن الجهاد، الذي هو أسمي وأعلى عند الله -سبحانه وتعالى-، وتناولته من زاوية الجهاد ضد المحتلين والغاصبين، فمفهموم الجهاد في سبيل الله تعالي مصطلح تم ترسيخه في أذهان الشعب لتحرير الأراضي المصرية التي استولى عليها العدو دون وجه حق، فكانت حرب أكتوبر عبارة عن ملحمة جهاد كبيرة في سبيل الله عز وجل، وكنا نودع شهداء الحرب بقول الله عز وجل: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ).
وأضاف «أنه قام بأداء خطبة عقب صلاة العشاء ليلة العاشر من رمضان، تتضمن أن النصر قريب إن شاء الله، لافتًا إلى أنه فى صباح يوم العاشر من رمضان خطب في الجنود وكانت عبارة عن رفع الهمم والروح المعنوية ودعوات صادقة لتحقيق النصر ضد العدو الإسرائيلي».
كما أكد فضيلته- رحمة الله عليه- أن الخطب كانت موجهة لكل جنود الجيش المصري مسلمين كانوا أو مسيحيين، وكانت تتردد كلمة واحدة من الجنود وهي «نريد أن نكون شهداء عند الله تعالى»، مشيرًا إلى أن الدور الذي لعبه الأزهر في هذا التوقيت كان له مفعول السحر على الجنود.
شيخ الأزهر يجيز الإفطار في الحرب
أفتي شيخ الأزهر الدكتور عبدالحليم محمود ومعه بعض العلماء الأجلاء في الأزهر الشريف للرئيس السادات ، بإفطار الجنود يوم الحرب وما تبعه من أيام أخري إذ استمرت الحرب، وكانت لهذه الفتوى صدى كبير واسع عند بعض الجنود فمنهم الذي وافق نظرًا لما سيواجهه من جوع وعطش في الحرب، ومنهم من رفض رغبة منه في الإفطار منتصرًا أو شهيدًا.
كما ألقى شيخ الأزهر الدكتور عبدالحليم محمود، خطبة الجمعة الشهيرة (أول جمعة بعد الحرب)، معلنًا أن معركة 6 أكتوبر«حربٌ مقدسة» وجهادٌ فى سبيل الله، مؤكدًا تشابه حرب أكتوبر بغزوة بدر الكبري، كما حمس الجنود والشعب أن الله حقق النصر في غزوة بدر، قائلًا : إن «الله –عز وجل – سييسر كل الأمور للنصر في الحرب، مادام الجنود والشعب يأخذون بالأسباب المادية والمعنوية لتحقيق الانتصار»؛ وحققت هذه الخطبة أثرًا عظيمًا في نفوس المصريين، ومنحتهم العزيمة والإصرار على النصر، وكذلك حثتهم على المشاركة في جبهة القتال.
الأزهر يرسخ قيم المواطنة داخل الجنود
يتبين الدور العظيم الذي لعبه الأزهر في ترسيخ قيم المواطنة داخل جنود الجيش المصري، أكثر، من خلال رواية الدكتور محمود مهنا، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر، وأحد أبطال الحرب ومسؤول التوجيه المعنوي، حيث يشير إلى موقف العميد إبراهيم عبدالتواب العسال، عندما عرضت عليه إسرائيل أموالًا طائلة مقابل أن يسلم لهم منطقة مياه العيون الكبريتية بجنوب سيناء، وبكل سخرية منه رفض عرضهم، واستدرك حديثه قائلًا: (إن العميد «العسال» كان دائمًا يدعو الجميع - مسلمين ومسيحيين- للصلاة، ناصحًا إياهم أن الموت قريب جدًا، وبالفعل حدث ما كان يستشعر به العميد ونال الشهادة بعد صلاة العصر أمام أعيننا؛ دفاعًا عن أرض سيناء وعنا، عندما كنا بأداء فريضة صلاة الجمعة؛ فيحرص المجندون الميسحيون على حراستنا حتى ننتهي من الصلاة).
من ذاكرة الأزهر.. نداءات الإمام الأكبر
رصدت ذاكرة الأزهر مواقف وطنية للشيخ حسن مأمون شيخ الأزهر من 1961 - إلى 1969، رصدتها ذاكرة الأزهر، أنه بعد وقوع العدوان على مصر سنة 1387هـ/ 1967م، وجَّه الامام نداءً متكررًا إلى الحكَّام العرب والمسلمين، يُناشدهم فيه باستخدام سلاح البترول، قال: «أيها المسلمون، إن مصر لا تحارب إسرائيل وحدها، إنها تكافح العدوان الموتور، الممثَّل في أمريكا وبريطانيا»، وكان قطع البترول سلاحًا فتاكًا حقَّق النصر، وردَّ للعرب كرامتهم.
كما دعا الشعوب الإسلامية إلى مكافحة أعداء الإسلام فقال: «أيها المجاهدون لا تقعدوا عن القتال لإجلاء العدو عن أرضكم، ومنعه من الاستمرار في أحتلالها لأن كل محاولة من جانب الاستعمار لاحتلال أي جزء من البلاد الإسلامية هي محاولة باطلة شرعًا لا يقرها الإسلام، ولا يرضاها الله ورسوله»، وكذلك وجه نداءً إلى الملك السنوسي عاهل ليبيا ناشده باسم الإسلام أن يقضي على القواعد العسكرية التي أقامتها أمريكا في طرابلس وإنجلترا في بني غازي وطبرق؛ لأنها خنجر مصوب إلى ظهر مصر المجاهدة المستبسلة، وظل يطالب بهذا حتى قامت الثورة في ليبيا فحققت هذا الأمل الكبير.
دورالأزهر في حماية الوطن بعد حرب أكتوبر
لم ينته دور الأزهر بأن وضعت الحرب أوزارها، حيث لعبالأزهر دورًا كبيرًا في حماية الوطن بعد حرب أكتوبر من خلال الخطب والفتاوى التي إصدرها في هذا الوقت، حيث دعا للسلام وللسلم؛ فيما أكد محمد الشحات الجندي عضو مجمع البحوث الاسلامية، أن الرئيس السادات امتلك رؤية واضحة المعالم وضعها بالتعاون مع مشايخ الأزهر الشريف، المتضمنة تحقيق الانتصار والدعوة للسلام فى المنطقة العربية، برغم أن بعض الدول العربية لم تقبل معاهدة السلام، ولكن الأزهر وافق عليها لما تحققه من تهدئة الأحوال السياسية للبلد، وخاصة أنها تسعي للعودة إلى لحرب مرة أخري وخصوصًا بعد استيلاء إسرائيل على الجولان. .
وتابع أن معظم الفتاوى في ذلك الوقت كانت تدعو إلى السلام، وأن الدين الاسلامي دين سلم وليس دينًا نشر بحد السيف كما يتزعم البعض، وكذلك الخطب في المساجد كانت خطب الجمعة كلها عن السلام، وأنه يجب أن تنعم الدول العربية كلها بالسلام، مؤكدَا أنه تم إيجاز فتوى من قبل الشيخ المرحوم محمد سيد طنطاوي للرئيس السادات بخصوص إتفاقية كامب ديفيد، وعملية السلام فى الشرق الأوسط، مستشهدًا بصلح الحديبية بين كفار قريش وسيدنا محمد (صلي الله عليه وسلم).
أبرز شيوخ الأزهر اللى شاركوا فى 6 أكتوبر
شارك العديد من علماء الأزهر في حرب 6 أكتوير، من خلال الخطب و حمل السلاح ضد العدو الصهيوني، ومن أبرزهم الذين تولوا الخطب التي ترفع همم المحاربين في أرض المعركة، وحثهم على القتال «الشيخ محمد الفحام، والشيخ عبدالحليم محمود، والشيخ محمد الغزالي والشيخ محمدمتولي الشعراوي ».
بينما من علماء الأزهر الذين شاركوا كجنود على جبهة القتال: «الدكتور طه أبو كريشة، عضو هيئة كبار العلماء، والشيخ صلاح نصار المشرف العام الأسبق على الجامع الأزهر، والدكتور محمود مهنا عضو هيئة كبار العلماء ، والدكتور علوي أمين».
وفي هذا الصدد، يروي الدكتور محمود مهنا، عضو هيئة كبار العلماء، لـ «المرجع»، ذكرياته في حرب 6 أكتوبر؛ بابتسامة عريضة لم تختف من وجهه طوال الحديث، الذي بدأه البطل بكل ثقة وفخر واستنشق نفحة من ذكريات الجنة، على حد تعبيره، قائلًا : « أنا كنت جنديًّا على جبهة القتال في الإسماعيلية، بعد النكسة ، وفي 1973، كنت محاربًا بالدفاع الجوي، وفي تلك الأثناء كنت معيدًا بالجامعة، ولظروف الحرب استمر تجنيدي عامين وخمسة أيام، وكان قائد كتيبتي في حرب 6 أكتوبر، الرائد محمد أحمد الحطاب، يشبه القائد النوراني، كنت دائمًا أشعر أنه من أهل الجنة فدائمًا كان يشيد بدوري ويذكرني بأهميتي أنا وكل الجنود، وبث في الكتيبة كلها روح الفداء والشجاعة وحثهم على النصر أو الشهادة في سبيل الوطن والدفاع عن مصر».
ويذكر «مهنا» أسماء الجنود المشاركين في الحرب وهم: ماهر عزيز حنا و صلاح عشم الله، وكذلك الأزهريون المشاركون في الحرب من رفاقه : مصطفى إبراهيم منسي، و محمد عبدالصبور هلال ، وعبد العزيز تمام يوسف، و محمد علي عثمان حربي.
شيخ الأزهر يرى النصر في المنام
وأشار «مهنا» إلى أن الشيخ عبدالحليم محمود، قبل حرب 6 أكتوبر بيومين رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المنام يعبر قناة السويس ومعه علماء المسلمين والقوات المسلحة المصرية، وصف من ملائكة الرحمن ويقودها جبريل -عليه السلام- وأنه يرفع راية «الله أكبر»، حيث أسرع ليخبر الرئيس السادات بتلك البشارة في فجر؛ لذا اقترح عليه أن يأخذ قرار الحرب مطمئنًا إياه بالنصر؛ فاستبشر الرئيس وشكر الإمام الأكبر.
ولم يكتف بهذا، بل انطلق عقب اشتعال الحرب إلى منبر الأزهر الشريف، وألقى خطبة عصماء توجه فيها إلى الجماهير والحكام مبينًا أن حربنا مع إسرائيل هى حرب في سبيل الله، وأن الذي يموت فيها شهيد وله الجنة، أما من تخلف عنها ثم مات فإنه يموت على شعبة من شعب النفاق.
نفحات رحمانية .. «ماء زُلاَلاً» بين أيادي المحاربين بأرض سيناء
وأسقط «مهنا»، الضوء على إحدى الذكريات التي دارت بينه وبين وكيل وزارة الطرق والكباري بأسيوط، المهندس محمد السيد، موضحًا ما أن المهندس «السيد»، يسرد له أحداثًا وقعت معه أثناء حرب أكتوبر، وخاصة أثناء حصارالجيش الثالث الميداني في الصحراء، قائلًا: «كاد العطش أن يقتلنا؛ فقمنا بحفر شبرين في الصحراء، إذ ظهر لنا ينبوع من ماءٍ زُلاَلاً (الماءُ العَذْبُ الصَّافِي)».





