يصدر عن مركز سيمو - باريس
ad a b
ad ad ad

نحو قرن إفريقي جديد.. تحولات إقليمية كبرى تقلص الدور القطري

الأربعاء 19/سبتمبر/2018 - 10:50 ص
المرجع
محمد الدابولي
طباعة

تحولات كبيرة غيرت ملامح منطقة القرن الأفريقي في الشهور الأخيرة، أهمها الترتيبات السياسية الكبرى والتي من شأنها إعادة تشكيل التحالفات والتوازنات لمواجهة النفوذ القطري والتركي في المنطقة؛ حيث تولت إثيوبيا زمام تلك الترتيبات والتحولات بحكم موقعها الاستراتيجي ودورها الحيوي بالمنطقة.


الدور الإثيوبي جاء مدفوعًا بأمرين، أولهما التحولات السياسية الداخلية التي تشهدها البلاد منذ بداية عام 2018 والتي أسفرت عن تولي «آبي أحمد»- المنتمي إلى قومية الأورومو- السلطة في البلاد، وثانيًا الدعم الإقليمي المتنامي (مصر، السعودية والإمارات) للدور الإثيوبي في المنطقة وهو ما ظهر بشكل جلي في التحركات الأخيرة التي أدت لتهدئة الخلافات بين إريتريا وإثيوبيا، وأيضا تهدئة العلاقات بين جيبوتي وإريتريا.


أولًا: ترتيبات جارية

شملت الترتيبات الإقليمية في منطقة القرن الأفريقية أطرًا متعددة مثل تحقيق الوساطة بين الفرقاء الإقليمين ومحاولة الوصول إلى صيغة تنظيمية مشتركة ضابطة للأمن الإقليمي وانتهاءً بتصفير المشكلات، والتنازل علن بعض السياسات التي عدت في الماضي أمن قومي لدى بعض الدول، ومن أبرز تلك الترتيبات:

حضور سعودي متزايد

شهدت الأحداث الماضية في منطقة القرن الأفريقي حضورًا سعوديًّا متزايداً تمثل في تقريب وجهات النظر بين جيبوتي وإريتريا؛ من أجل حلحة المشكلات الحدودية بينهما، فرغم تصدر كل من إثيوبيا والصومال مسألة الوساطة بين إريتريا وجيبوتي، إلا أن وزير الخارجية الجيبوتي «محمد علي يوسف» عبر تغريدة على موقع التواصل الإجتماعي «تويتر» كشف عند دور سعودي (في الظل) للوساطة بين البلدين.


توجت الجهود السعودية لإحلال السلام في القرن الأفريقي يوم الأحد الموافق 16 سبتمبر 2018؛ حيث استضافت مدينة جدة السعودية قمة مصغرة لدول القرن الأفريقي (إثيوبيا، وإريتريا، جيبوتي) لتوقيع اتفاق مصالحة بين إثيوبيا وإريتريا من ناحية، وتذويب الخلافات الإريترية الجيبوتية من ناحية أخرى.


تأتي الجهود السعودية الحالية استمرارًا لجهودها السابقة في تحقيق استقرار منطقة القرن الأفريقي، حيث أوضح مركز مقديشيو للدراسات أن المملكة شاركت في كل المؤتمرات المعنية بالشأن الصومالي، كما استضافت الفرقاء الصوماليين حكومة الرئيس الصومالي الراحل عبدالله يوسف واتحاد المحاكم الإسلامية في مؤتمر جدة 2007 للتوقيع على مبادرة  لوقف الحرب بين الطرفين في الصومال.


تأتي التحركات السعودية في منطقة القرن الأفريقي حاليًّا؛ من أجل تحجيم النفوذ القطري خاصة في جيبوتي؛ حيث شهد الموقف الجيبوتي من الأزمة الخليجية تأرجحًا شديدًا ففي البداية انضمت جيبوتي لصفوف الدول العربية المقاطعة للسياسات القطرية؛ ما استدعي قطر لسحب قواتها من منطقة «دميرة» الحدودية المتنازع عليها بين جيبوتي وإريتريا، إلا أن مع بداية عام 2018 شهدت عودة جيبوتية تدريجية للحضن القطري مرة أخري عبر بوابة إثارة الخلافات مع الجانب الإماراتي، ففي فبراير 2018 أعلنت جيبوتي إنهاء عقد شركة موانئ دبي لتطوير «ميناء دوراليه» بغرض تحقيق السيادة الوطنية والاستقلال الاقتصادي.


في الوقت الذي اتخذت فيه الرياض دور وسيط الظل بين إريتريا وجيبوتي، تصدرت مقديشو وأديس أبابا المشهد؛ من أجل إيجاد صيغة تسوية سلمية للأزمة بين أسمرة وجيبوتي ففي سبتمبر 2018 اتفقت إريتريا وجيبوتي على تطبيع العلاقات بينهما بعد سنوات من القطعية، وذلك أثناء مؤتمر لوزراء الخارجية ضم كل من إثيوبيا والصومال وإريتريا وإثيوبيا.


ويذكر أن إريتريا وجيبوتي تشهدان نزاعا حدوديا منذ عام 2008 حول منطقة دميرة الحدودية والتي تشرف على مضيق باب المندب، وفي ذلك الوقت وجدت الدوحة الفرصة سانحة لتحقيق التواجد العسكري في منطقة القرن الأفريقي فعقدت اتفاقا للسلام بين الجانبين ونشرت قوات قطرية على الحدود بين البلدين، لضمان الأمن والسلامة لتلك الحدود، إلا أنه في يونيو 2017 تجددت المخاوف بين الدولتين على خلفية القرار الجيبوتي بالمشاركة في المقاطعة العربية ضد السياسات القطرية؛ ما أدى لانسحاب القوات القطرية من تلك المنطقة.


نحو قرن إفريقي جديد..

انهاء الخلافات الإثيوبية الإريترية

شمل الخطاب الأول لأبي أحمد فور توليه السلطة في نهاية مارس 2018 حرصه على إنهاء المشكلات مع الجانب الإريتري، وتوالت التصريحات والتحركات فيما بعد، لوضع سياسة «آبي أحمد» موضع التنفيذ؛ حيث تم الاتفاق في يوليو 2018 خلال زيارات متبادلة من الجانبين على الالتزام باتفاقية الجزائر والانسحاب من منطقة «بادمي» الحدودية، وأخيرًا تعزز تصفير المشكلات بإعادة فتح الحدود بين البلدين في سبتمبر 2018.


انتهز «أبي أحمد» و«أفورقي» مناخ التفاهم السائد في منطقة القرن الأفريقي، وأعلنا بشكل رسمي انتهاء الحرب التي دارت رحاها بين البدلين لمدة عامين (1998 ـ 2000)، واستمرت تأثيراتها الارتدادية عشرين عامًا (1998 ـ 2018) بافتتاح الحدود المشتركة وزيارة منطقة «بوري» التي شهدت أعنف المعارك بين الجانبين مخلفة ما يقارب 80 ألف قتيل.


اتفق الجانبان على سحب القوات المسلحة لكلا الجانبين من على خط الحدود والاكتفاء بقوات حرس حدود كدليل على حسن نية الطرفين، ورغبتهما المشتركة في إنهاء حالة الحرب الدائرة منذ ما يقارب الربع قرن، وفي هذا الإطار رحبت الولايات المتحدة بالاتفاق بين الجانبين حيث أن واشنطن كانت تعد الداعم الأبرز لأديس أبابا في حربها ضد أسمرة، هذا إضافة إلى عودة استغلال إثيوبيا لميناء مصوع الإريتري الذي استقبل  في 5 سبتمبر 2018 أول سفينة إثيوبية منذ 20 عامًا بسبب الحرب بين البلدين، وستشهد عودة إثيوبيا لميناء مصوع خطوة لإحياء التبادل التجاري بين البلدين.


نحو قرن إفريقي جديد..

انفتاح إريتري على العالم

شهدت إريتريا طوال عقدين من الزمان حالة من العزلة الدولية المفروضة لدعاوي كثيرة أهمها الحرب مع إثيوبية؛ حيث قادت أديس أبابا في عهد ميلس زيناوي حملة كبرى ضد جارتها؛ ما أدى لفرض عزلة دولية تعززت بالعقوبات الأممية المفروضة على إريتريا؛ حيث فرض مجلس الأمن القرار رقم (1907) الصادر في 23 ديسمبر 2009 بفرض عقوبات على إريتريا تشمل حظر توريد أسلحة وتجميد الأصول المالية وحظر سفر المسئولين الإريتريين خارج البلاد، وأتت العقوبات الأممية على خلفية اتهامات وجهت لأسمرة بدعم الجماعات المسلحة في الصومال (اتحاد المحاكم الإسلامية وبعده حركة شباب المجاهدين)، وعدم الاعتراف بالحكومة الفيدرالية في «مقديشو» وتقويض عملها. 


سياسة العزلة الدولية المفروضة على أسمرة دفعتها إلي البحث عن شركاء دوليين لكسر عزلتها ووجدت ضالتها في إيران التي تعاني هي الأخرى من عزلة دولية مفروضة عليها؛ بسبب برنامجها النووي ودعمها المستمر للجماعات المسلحة؛ حيث وقع الجانبان في عام 2008 علي اتفاقية للتعاون  العسكري والنفطي بين الجانبين، أتاح التعاون العسكري بين الجانبين استغلال طهران لأرخبيل دهلك في مراقبة الملاحة في مضيق باب المندب وتزودي شركائهم في اليمن «حركة أنصار الله ـ الحوثي» بالسلاح اللازم، وهو ما أكده «فارس السقاف» المستشار السابق للرئيس اليمني «عبدربه منصور هادي» في يونيو 2013 بأن إيران استأجرت جزيرتين في أرخبيل دهلك؛ من أجل تدريب مقاتلي الحوثيين.


قابل التقارب الإريتري الإيراني عملية احتواء  كبرى قامت بها السعودية والإمارات إزاء أسمرة مع بداية عمليات عاصفة الحزم؛ احتواء نجح أولًا في فك الارتباط بين أسمرة وطهران، وثانيًا استغلال الموقع الاستراتيجي لإريتريا في عملية عاصفة الحزم؛ حيث أقدمت الإمارات على إنشاء قاعدة عسكرية لها في مدينة «عصب» الساحلية.


كان موقف أسمرة من عاصفة الحزم بوابتها للخروج من المستنقع الإيراني وبداية الانفتاح التدريجي على العالم بدءًا من جيرانها ثم المنطقة العربية، وأخيرًا الانفتاح على العالم الذي لاحت بوادره في الفترة الأخيرة؛ حيث عبرت تصريحات  السفير الروسي في أسمرة «عظيمار أحمدوف» لوكالة إنترفاكس الروسية عن رغبة بلاده المساهمة في رفع العقوبات الدولية عن أسمرة؛ نظرا لأن السياق الذي فرضت فيه العقوبات الأممية تغير بشكل كامل، فاليوم تشهد المنطقة انفتاحًا شديدًا في العلاقات بين إثيوبيا والصومال وإريتريا، كما رحب وكيل وزارة الخارجية الأمريكية «تيبور ناجي» بالتقارب الإريتري  الإثيوبي، إلا أن عاد وجدد مخاوف واشنطن من أزمة حقوق الإنسان في إريتريا.


نحو قرن إفريقي جديد..
ثانيًا: تحديات محتملة
خلال العقد الأول من الألفية الجديدة نجحت الدوحة في الاشتباك مع أبرز أزمات المنطقة ولعب دور الوسيط فيها؛ ففي 2008 لعبت دور الوسيط في الأزمة الحدودية بين إريتريا وجيبوتي، هذا إضافة إلى لعب دور الوساطة في أزمة دارفور بالسودان والتي انتهت بالتوقيع على اتفاق السلام في الدوحة 2011 بين الحكومة السودانية وحركة التحرير والعدالة، وأخيرًا الدور القطري في الصومال؛ لذا تعاملت الدوحة مع تلك المنطقة على أنها مناطق نفوذ خاصة.

لذا يمكن اعتبار الحضور المتزايد لكل من الإمارات والسعودية، وكذلك الترتيبات السياسية الجديدة في تلك المنطقة خصمًا مباشرًا من النفوذ القطري، وإمعانًا في محاصرة النظام القطري الذي تتهمه الدولتان الخليجيتان بدعم الجماعات الإرهابية وإيوائها، إلا أن تلك الترتيبات الجديدة تواجه العديد من التحديات المحتملة، من أبرزها:
تردد جيبوتي
 منذ بدء عملية عاصفة الحزم مارس 2015 والموقف الجيبوتي في حالة تردد دائمًا، ففي البداية وافقت على المشاركة في عمليات «عاصفة الحزم» إلا أنه سرعان ما أحجمت عن مشاركتها، وتزايد الأمر في موقفها من الأزمة الخليجية، فبعد أن أيدت الموقف السعودي والإماراتي من قطر ودعمت سياسة المقاطعة العربية، شهد مطلع عام 2018  عمل الجانب الجيبوتي على عودة العلاقات مع قطر وتحقيق القطيعة مع الإمارات، وإلغاء التعاقد مع شركة موانئ دبي التي نجحت أخيرًا في استصدار حكم من محكمة لندن للتحكيم الدولي يقضي بمنع شركة «بورت جيبوتي إس إيه» من فسخ التعاقد مع شركة موانئ دبي لإدارة ميناء دوراليه؛ ما أدى إلى قيام جيبوتي أخيرًا بتأميم محطة دورالية للحاويات للحيلولة دون عودة موانئ دبي إليها مرة أخرى.

يبعث التصرف الجيبوتي الأخير بتأميم محطة دوراليه بشيء من عدم الارتياح إزاء نجاح الترتيبات السياسية الأخيرة في المنطقة، فقد تلعب جيبوتي دور الشريك المخالف في المنطقة وتكون مخلب قط للدوحة يتم استخدامه في أوقات معينة.

نحو قرن إفريقي جديد..

توجس إيراني

باتت إيران تنظر إلى الترتيبات السياسية في المنطقة بتوجس وتخوف خاصة مع فك الارتباط بين إيران وكل من إريتريا والسودان اللتين انقلبتا على السياسة الإيرانية في المنطقة، ودعمتا عاصفة الحزم في  اليمن.


تروج طهران حاليًّا عبر صفحاتها الإعلامية مثل (موقع العالم اليوم) الذي أكد فيه الكاتب والمحلل السياسي المقرب من طهران «محمد حسن القوجاني»، بأن التقارب الإريتري الإثيوبي لم يكن نابعًا من إدراك الطرفين من ضرورة إنهاء مشكلاتهما، وإنما جاء من أجل تنفيذ مخطط أمريكي إماراتي للسيطرة على المنطقة، خاصة بعد تصاعد النفوذ التركي والقطري في المنطقة.


حضور متصاعد لحركة الشباب

وعلى صعيد متصل بات المشهد الصومالي يتجدد يوميا بعملية إرهابية تنفذها ميليشيات حركة شباب المجاهدين ضد أهداف حكومية وعسكرية صومالية مخلفة وراءها عددًا من القتلى؛ ويرى مراقبون أن الحضور المتصاعد لحركة الشباب سيعمل على تقويض الجهود الحكومية الصومالية لبسط سيطرتها على مختلف الأقاليم الصومالية، فضلًا عن جهودها الإقليمية في توحيد دول المنطقة لمحاربة التنظيمات الإرهابية وهو ما اتضح أخيرًا في مشاركتها في الوساطة بين إريتريا وجيبوتي.

"