ad a b
ad ad ad

«معركة المصحف».. صراع الإرهابيين على «التفويض الإلهي» لحكم البشر

الثلاثاء 17/يوليو/2018 - 08:38 م
المرجع
دعاء إمام
طباعة
لم يكن مستغربًا على من أسسوا جماعات بخلفية إسلامية، منذ نهاية عشرينيات القرن الماضي، أن ينصّبوا أنفسهم ناطقين باسم الإله على الأرض، وكلٌ يرى في نفسه حاميًا للدين، بل إن بعضهم ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، فوصَّفوا جماعتهم بأنها «هدية من الله، ولولاها لعاشت الأمم في جهل وظلام».

ولعب أولئك على وتر التهويل، فقالوا: «ما جئنا إلا لنحكم بشريعة الله، وما أنتم من الإسلام في شيء»، مطالبين الشعب بتصويب سهامه نحو حاكم يصفونه بـ«الكافر» وأمة يرونها «كافرة»، لتبدأ «معركة المصحف» بين تيارات الإسلام الحركي؛ فيزايد كل تنظيم على ما قبله ويصفه بـ«المفرط» الذي لا يؤتمن على حماية «المصحف». 

الدعوة الأولى لـ«معركة المصحف»
في العدد (625) من جريدة «الإخوان المسلمين» اليومية، والصادر في 16 مايو عام 1948، كتب حسن البنّا (1906- 1949)، مؤسس جماعة الإخوان (1928)، مقالًا بعنوان: «معركة المصحف.. أين حُكم الله؟»، يناقش فيه صفات وشروط «القاعدة المسلمة» التي تتولى تطبيق «حاكمية الشريعة وحمايتها».

مقال «البنا»، مَهَّد لفكر تكفيري بحث المؤسس عن التعمق فيه؛ إذ استهل مقاله بالآيتين 49 و50 من سورة المائدة: «وأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ*أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ»، ثم مضى يشرح رؤيته التي طرحها للجماعة، قائلًا: «الإسلام دين ودولة، ومعنى هذا التعبير أن الإسلام شريعة ربانية جاءت بتعاليم إنسانية وأحكام اجتماعية وكلت حمايتها ونشرها، والإشراف على تنفيذها بين المؤمنين بها، وتبليغها للذين لم يؤمنوا بها إلى الدولة أي إلى الحاكم الذى يرأس جماعة المسلمين ويحكم أمتهم».

استولت فكرة «حاكمية الشريعة» على رأس مؤسس الإخوان؛ فانتقل إلى تجريد الحاكم والمحكومين من إسلامهم ما لم يُطبقوا ما أشار إليه سلفًا؛ فقال: «إذا قصّر الحاكم في حماية هذه الأحكام لم يعد حاكمًا إسلاميًّا، وإذا أهملت شرائع الدولة هذه المهمة لم تعد دولة إسلامية، وإذا رضيت الجماعة أو الأمة الإسلاميَّة بهذا الإهمال ووافقت عليه لم تعد هي الأخرى أمة إسلاميَّة».

ليسوا مسلمين
لا يكفي أن يكون الحاكم يدين بالإسلام، أو متمسكًا بفرائض الدين بعيدًا عن المحارم، غير مرتكب للكبائر، بل يجزّم «البنّا» بأن «هذا وحده لا يكفي في اعتباره حاكمًا مسلمًا حتى تكون شرائع دولته ملزمة إياه بحماية أحكام الإسلام بين المسلمين، ملزمة إياه كذلك بتبليغها لغير المسلمين، وتحديد موقف الدولة منهم بناءً على موقفهم هم من دعوة الإسلام».

ولفت «البنا» إلى أن المقصود بحكم الله في الدولة أن تكون دولة دعوة، وأن يستغرق هذا الشعور الحاكمين مهما علت درجاتهم، والمحكومين مهما تنوعت أعمالهم، وأن يكون هذا المظهر صبغة ثابتة للدولة توصف بها بين الناس، وتعرف بها في المجامع الدولية، وتصدر عنها في كل التصرفات، وترتبط بمقتضياتها في القول والعمل.

وتساءل مؤسس الإخوان: «لماذا لا تكون مصر، وهي دولة مستقلة، ذات سيادة معروفة في المجامع الدولية بتمسكها بهذه الصبغة الإسلامية وحرصها عليها ودعوتها فيها وارتباطها بها؟.. ومتى وجد هذا المعنى وارتبطت الدولة بهذا الاعتبار واصطبغت بهذه الصبغة فستكون النتيجة ولا شك تمسك الحاكمين بفرائض الإسلام واتصافهم بآدابه وكمالاته، ثم صدور كل التشريعات وخضوع كل النظم الاجتماعية في الدولة لتوجيهاته وأحكامه، فيتحقق حكم الله فرديًّا واجتماعيًّا ودوليًّا وهو المطلوب».

قادت تلك المقدمات إلى نتيجة، لم يتردد أن يعلنها حسن البنا، وهي أن «الدولة المصرية ليست من الإسلام في شيء»؛ فيقول: «الحق أننا لسنا منه في شيء (يقصد الإسلام) وكل حظنا منه نص المادة 149 من الدستور، ثم ما بقي ففي نفوس هذا الشعب من مشاعر وأعمال وعبادات، أما الحكومة والدولة ففي وادٍ وحكم الله في وادٍ آخر».

يختتم مؤسس الإخوان مقاله بتحريض الشعب على خوض ما سمّاه «معركة المصحف»؛ فوجّه عدة نداءات تتضمن ما آلت إليه قناعته في مسألة «حاكمية الشريعة» التي تحدث عنها قائلًا: «يا دولة رئيس الحكومة، أنت المسؤول بالأصالة، يا وزير العدل، أنت المسؤول بالاختصاص، يا فضيلة شيخ الأزهر وأصحاب الفضيلة العلماء الأجلاء، أنتم المسؤولون باسم أمانة العلم والتبليغ التي أخذ الله عليكم ميثاقها، ويا أيتها الأمة أنت المسؤولة عن الرضا بهذا الخروج عن حكم الله؛ لأنك مصدر السلطات، ففاصلي حكامك، وألزميهم النزول على حكم الله، وخوضي معهم معركة المصحف ولك النصر بإذن الله».

ربما كان ما خطّته يد «البنّا»، سببًا رئيسيًّا في تورط الإخوان نهاية العام 1948، في اغتيال رئيس الوزراء المصري وقتذاك، محمود فهمي النقراشي؛ بزعم أنه كان على رأس حكومة كافرة تُحارب الدعوة، وقت أن اتخذ قرارًا بحل جماعة الإخوان (كما ورد في كتاب الإخوان المسلمون.. أحداث صنعت التاريخ، لمؤرخ الجماعة محمود عبدالحليم).

«القاعدة» تتساءل: مَنْ يحمي المصحف؟
بعد منتصف العام 2016، أصدرت مؤسسة «السحاب» الإعلامية، الناطقة باسم تنظيم القاعدة (تأسس بين عامي 1988- 1989) سلسلة حلقات موسومة بـ«رسائل مختصرة لأمة منتصرة»، يقدمها أيمن الظواهري، زعيم التنظيم، تحت عنوان: «من يحمي المصحف؟»، وجه فيها زعيم القاعدة سؤالًا إلى عناصر الإخوان حول ما قدموه للشريعة والمصحف الذي جعلوه جزءًا من شعارهم.

كان تساؤل: من يحمي المصحف؟ بمثابة مزايدة ضمنية من زعيم القاعدة، الذي لم يكفه النهج التكفيري لمؤسس جماعة الإخوان، فقال إن أخطاء حسن البنّا نتجت عنها كوارث مدمرة؛ إذ لفت إلى أنه انتشل الشباب من الملاهي الليلية والخمارات وحلقات «التصوف المنحرف»، ونظمهم كتائب مرتبة تجاهد في سبيل الله، ولكنه مع هذه الإنجازات ارتكب أخطاء جسيمة، أدت لمفاهيم فاسدة، نتجت عنها كوارث مدمرة.

يرمي «الظواهري» بطرف خفي إلى مقال كتبه البنّا في جريدة «الإخوان المسلمين»، خصّ به الملك فاروق، حاكم مصر آنذاك، ووصفه بـ«حامي المصحف»، قائلًا: «يصف الملك فاروق بحامي المصحف، الملك حاكم فاسد، حكم بمقتضى أول دستور علماني في تاريخ مصر، والبنا مخادع؛ نظرًا لكثرة رسائله التي حملت ثناءً على الملك».

وبالعودة لما أشار إليه الظواهري، فقد كتب مؤسس الإخوان مقالًا بعنوان: «حامي المصحف»، سرد فيه أن «الملك كان في رحلة إلى صعيد مصر، فصادف أن أخرج أحد الذين اصطحبهم في رحلته فصًّا أثريًّا، وقال إنه يجلب له الحظ، وأخرج آخر مفتاحًا وكرر نفس المعنى؛ حينئذ أخرج الملك مصحفًا وقال: إن هذا هو مفتاح كل خير عندي.. وإذا كان قد ضم القرآن إلى قلبه ومزج به روحه؛ فإنه لا يخدم نفسه في الدنيا والآخرة فحسب، ولكنه يريد أن يُؤسس مصر على أفضل المناهج، ويسلك بها أقرب الطرق إلى كل خير، وهو بذلك يكسب ولاء 400 مليون من المسلمين في آفاق الأرض تشرئب أعناقهم وتهفو أرواحهم إلى الملك الفاضل الذي يبايعهم على أن يكون حامي المصحف، فيبايعونه على أن يموتوا بين يديه جنودًا للمصحف.. فعلى بركة الله يا جلالة الملك ومن ورائك أخلص الجنود».

ويستطرد زعيم القاعدة، أن جماعة الإخوان لم تبدأ نشاطها السياسي في مصر منذ ثورة 25 يناير 2011، ولم تنته بإزاحة حكم الرئيس المنتمي للجماعة محمد مرسي (2012-2013)، مضيفًا أن القصة بدأت مع ظهور حسن البنا.

وتابع الظواهري: «مرسي في التوصيف الشرعي ليس إلا حاكمًا علمانيًّا لدولة علمانية، لا فرق بينه وبين مبارك (الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك)، فهو أقر بشرعية الدول واتفاقيات السلام مع إسرائيل والشراكة مع الولايات المتحدة.. الإخوان منذ سقوط مبارك حتى اعتقال مرسي لم يتخذوا أي إجراء جاد لتمكين النظام الجديد المنبعث من النظام الإسلامي».

مُنظّر قاعدي: «الإخوان جماعة بلا مرجعية شرعية»
كما واصل طارق عبدالحليم، أحد مُنظري الفكر الجهادي، والمقرب من تنظيم القاعدة، المزايدات على تطبيق الشريعة، فاعتبر أن الإخوان جماعة بلا مرجعية شرعية، تتخذ كل القرارات بناءً على الأشخاص وليس السند الشرعي.

وقال «عبد الحليم»، إنه من الصعب معرفة الخلفية الدينية التي تستند إليها جماعة الإخوان في اعتماد قراراتها السياسية، التي تتعلق بمشاركتها في الحياة السياسية المصرية، إذ لا تصدر عن الجماعة أي تفسيرات أو مبررات لما تتخذ من قرارات.

وأضاف، أن الجماعة تعتمد مبدأ برجماتيًّا لا يتفق مع الإسلام في شيء، إذ حركتهم مطامعهم في أن يظلوا في الصورة، مؤكدًا أن فوزهم ببعض المقاعد في انتخابات 2010، تم بمواءمات مع النظام، وليس بموجب رغبة الشارع في وجودهم. 

وتابع «عبدالحليم» الهارب في كندا، «لم يحدث شيء ولو ثمالة أثر من تغيير لصلاح الأمة، كان لنواب الإخوان يد فيه أو لم يكن بوجودهم في هذا الصرح المسرحي، عدا بعض الصراخ والاعتراضات وتقديم الاستجوابات والمساءلات التي لا تكاد تبلغ مكتب رئيس المجلس، حتى يغيبها صندوق القمامة بجواره».

«داعش» يجدد «معركة المصحف»
لم تنته «معركة المصحف» بعد؛ إذ تجددت الصراعات مع ظهور تنظيم إرهابي أكثر غلوًا يُسمى «داعش» (2014)، ويزعم أن هدفه إقامة الدولة الإسلامية، مع أيامه الأولى، كان لابد أن يسير على ذات المنهاج؛ ما جئناكم إلا لنحكم بما أنزل الله، ونسترد «المصحف» من الجماعات السابقة التي زعمت حمايته.

تزايدت الجدالات الشفوية والمكتوبة بين كلٍ من «داعش» و«القاعدة»، تارة يخرج «الظواهري» مهاجمًا أبي بكر البغدادي (زعيم تنظيم داعش)؛ يتهمه بالغلو في التكفير، وأخرى يعلن «البغدادي» أن «القاعدة» مفرطة في شريعة الله، وأن صلتها بالرئيس الإخواني محمد مرسي، في عام حكمه لمصر، تُعد سقطة لا تغتفر؛ لاسيما أن الإخوان تخلو عن فكر المؤسس وحكموا بدستور علماني وقوانين وضعية، إضافة إلى ما تقدم ذكره، استعمل تنظيم داعش وصف «السرورية» في معرض ذمِّه للقاعدة؛ بما يعني اشتغال الأخيرة بالسياسة أكثر من الجهاد.

لخّص «البغدادي» هجومه على زعيم القاعدة، في قبول الأخير بالديمقراطية التي هي بحسب داعش «كُفر»، وإقراره لثورات الربيع العربي التي انطلقت في تونس نهاية العام 2010، وطالت عددًا من الدول العربية، مع عدم تكفِّير من وجب تكفيره من المسلمين الذي اقترفوا أعمالًا تخرجهم من الدين، وذلك في معرض الرد على تهمة القاعدة للتنظيم بأنه يكفِّر المسلمين ويقتلهم لأنهم خالفوه في بعض الأمور الاجتهادية أو لأتفه الأسباب.

كتيب داعشي يُكَفر «القاعدة»
في مطلع يناير المنصرم، نشر تنظيم داعش كتيبًا جديدًا بعنوان: «الرد القاصف على شيوخ القاعدة الخوالف»، عبر مؤسسة «أشهاد» الناطقة باسمه؛ إذ وصف «أبوالبراء اليماني» مؤلف الكتيب، منهج القاعدة الحالي بالمخالف للدين الإسلامي.

وأفتى «اليماني» بضرورة قتال «القاعدة»؛ نظرًا لكفرها وعدم قدرتها على تطبيق «حاكمية الشريعة»، واصفًا زعيم التنظيم بـ«سفيه الأمة»، وذلك على خلفية تكرار ظهور الظواهري في العديد من الإصدارات المرئية، مهاجمًا داعش.

وقال اليماني: «القاعدة تحت قيادة أسامة بن لادن (زعيم التنظيم السابق) كان على الحق وأرعب الأمم، بينما القاعدة اليوم بقيادة الظواهري فتحت أبوابها للإخوان والسروريين والصوفيين وغيرهم فخرجت بفكر ومنهج منحرف عما كانت عليه في السابق»، مضيفًا أن «معظم عناصر «داعش» كانوا من أتباع القاعدة سابقًا أيام بن لادن، بينما قاعدة الظواهري الآن تخدم الكفر العالمي».

وأشار الكتيب الداعشي إلى أن تنظيم القاعدة أصبح كالعجوز المريض، فلا توجد به أي مظاهر لتطبيق الشريعة، بل تحكمه العادات والأعراف القبلية.

لستم أهلًا لتطبيق الشريعة
على طريقة شِجار النسوة في الحواري المصرية القديمة، كانت تُدار الخلافات بين تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، اللذين تنافسا ومن قبلهما الإخوان على الفوز بتفويض إلهي يمكنهم من إدارة الأمة المسلمة؛ إذا نعتت «القاعدة» تنظيم داعش بالمبالغة في التكفير وعدم أهليته لتنزيل الأحكام الشرعية موضعها، وأن الشرعيين الذي يقودونه «حدثاء الأسنان» لا يفقهون شيئًا عن الأحكام الشرعية.

وقال الظواهري في أحد إصداراته المرئية: «إن البغدادي يُكفِّر مخالفيه من التنظيمات الجهادية الأخرى بسبب الاختلاف معهم، وكأنه هو جماعة المسلمين دون غيرهم، وأنه يستهين بالدماء ويبالغ في قتل كل من خالفه من المسلمين»، مشيرًا إلى أنه أعلن الخلافة من دون تمكين، واقتصر على بيعة بعض من تنظيمه في العراق، وكانت من غير شورى المسلمين، وأن أبا بكر البغدادي مجهول غير معلوم، وأفتى بأن كل بيعة أُعطيت للبغدادي، لاسيما من بعض التيارات الجهادية، هي باطلة ولا صحة لها.
"