يصدر عن مركز سيمو - باريس
ad a b
ad ad ad
الدكتور مفيد شهاب
الدكتور مفيد شهاب

في ظل ميثاق الأمم المتحدة.. مبدأ عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول (1-2)

السبت 11/يناير/2020 - 11:10 م
طباعة

من الظواهر الحديثة، التي تشهدها الساحة الدولية تزايد حجم تدخل الدول خاصة الكبرى في الشؤون الداخلية للدول الأخرى؛ وذلك لأسباب إستراتيجية أو أسباب اقتصادية؛ خاصة في المناطق التي أظهرت الاكتشافات الحديثة بها وجود غاز أو بترول على نطاق واسع كمنطقة الخليج ومنطقة شرق وغرب البحر المتوسط.

وتتذرع بعض هذه الدول بأنها لا تخالف المبدأ الدولي المستقر في العلاقات الدولية، وهو مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، والذي تؤكده بوضوح المادة الثانية فقرة 7 من ميثاق الأمم المتحدة، وإنما تتدخل من أجل عودة الاستقرار أو التهدئة أو التدخل الإنساني لإنقاذ المنشآت المدنية والمدنيين أو استجابة لطلب رسمي من الحكومات القائمة؛ التي تكون عادة في صراعات داخلية مع تنظيمات أو أحزاب أخرى أو ذات ولاءات لدول أخرى.

ولعل أحدث هذه التدخلات وأخطرها التي تتنافى كلية مع أحكام الشرعية الدولية هو التدخل التركي في الشؤون الليبية، الذي وصل إلى حد إبرام اتفاق بين الحكومة التركية وحكومة فايز السراج، تحت عنوان ترسيم الحدود البحرية، رغم عدم وجود أي حدود بين البلدين.

وتركيا بهذا الفعل تتجاوز بشكل كامل القانون الدولي ويعتبر هذا تدخلًا سافرًا في الشؤون الداخلية الليبية؛ حيث ينص هذا الاتفاق على مد حكومة السراج بالعتاد العسكري والجنود والضباط والخبراء وهو ما كان محل إدانة شبه جماعية من المجتمع الدولي لما يمثله من تهديد لأمن البحر المتوسط من ناحية وتعقيد للأزمة الليبية من ناحية أخرى كما يعتبر تهديدًا واضحًا لاستغلال الثروات الحية في البحر المتوسط ما يتعارض مع القانون الدولي للبحار.

وفي هذا المقال يقدم لنا الدكتور مفيد شهاب أستاذ القانون الدولي بجامعة القاهرة ووزير التعليم العالي الأسبق رؤية واضحة لمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى من حيث النظرية والواقع العملي.

مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول:

ازدادت، خلال العشرين عامًا الأخيرة، حالات وصور التدخل بما فيها التدخل العسكري من جانب عدد من الدول الكبرى، في نزاعات داخلية في بعض دول أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط، بزعم أنها تعمل على إنهاء هذه النزاعات وتحقيق الأمن والاستقرار، أو لتقديم مساعدات إنسانية لشعوب هذه الدول.

وواقع الأمر، أنه في كل أحوال التدخل التي تمت، لم يؤد وجود الدول الكبرى وتدخلها في النزاعات إلا إلى النيل من سيادة واستقلال الدول التي تم التدخل في شؤونها، والمزيد من الضحايا والمصابين؛ فضلًا عن التخريب والدمار وإضعاف اقتصادات هذه الدول أو توقفها. يظهر ذلك بوضوح عندما نرى ما لحق بأفغانستان والعراق وليبيا وسوريا واليمن في السنوات الأخيرة، نتيجة وجود قوات عسكرية أجنبية في أراضي هذه الدول واشتراكها في العمليات العسكرية.

ويثار التساؤل: كيف دخلت هذه القوات الأجنبية إلى أراضي دول أخرى ؟ وبمقتضى أي قرارات؟ وكيف اشتركت في المعارك.. الأمر الذي أطال أمدها ووسع نطاقها وعقَّد فرص الحلول لها، بل وتحول بعضها ليصل إلى درجة الحروب الأهلية التي قد تؤدي إلى النيل من وحدة أراضي بعض الدول التي تم التدخل فيها!! كذلك ارتفعت تساؤلات: وأين الأمم المتحدة ومجلس الأمن من هذه التدخلات التي جاءت خارج إطارها وبدون موافقتها؟ وكيف قبلت باقي دول العالم بهذه التدخلات المنافية للشرعية الدولية، التي تمت بالمخالفة لأهم مبادئ القانون الدولي، وفي مقدمتها مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول ؟

فمن المعروف أن المادة 2/7 من ميثاق الأمم المتحدة تنص على أنه ليس فيه «ما يسوغ للأمم المتحدة أن تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولة ما، وليس فيه ما يقتضي الأعضاء أن يعرضوا هذه المسائل لأن تحل بحكم هذا الميثاق».

ويتضح من النص أن هناك قيدًا على اختصاصات وسلطات الأمم المتحدة مقتضاه عدم التدخل في المسائل الداخلية للدول الأعضاء. وأساس وجود هذا القيد هو أن أي تنظيم دولي أو هيكل فيدرالي أو شبه فيدرالي يتطلب بالضرورة - وعلى حد قول جورج سل (G.Scelle) - تقسيم الاختصاصات بين الدول الأعضاء والسلطة العليا، وإن كان ذلك لا يؤدي – في رأينا – إلى أن تكون هناك مسائل تدخل بطبيعتها في الاختصاص الداخلي لدولة ما، ذلك أن المنظمات الدولية قادرة على معالجة أي أمر من الأمور».

وبالرجوع إلى الأعمال التحضيرية للمادة 2/7، يتبين أنها وردت في مقترحات «دومبرتون أوكس» (أكتوبر 1944) ، كمجرد قيد على الأحكام المتعلقة بأساليب حل المنازعات الدولية بالطرق السلمية، إلا أنه تقرر خلال مؤتمر سان فرانسسكو (يونيو 1945) - بناء على اقتراح من الدول الداعية للمؤتمر - نقلها من الفصل السادس الخاص بوسائل التسوية السلمية للنزاعات إلى المادة الثانية الخاصة بمبادئ الهيئة العالمية، وذلك بهدف التأكيد على أنها تمثل مبدأ عامًا يحكم نشاط الأمم المتحدة في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وليس في مجال النزاعات الدولية وحدها.

ومع ذلك فقد ارتفعت بعض الأصوات خلال المؤتمر، تعارض إدراج الفكرة في الجزء المتعلق بالمبادئ العامة للمنظمة، باعتبار أن ذلك سيؤدي بالضرورة إلى إضعاف دور المنظمة العالمية، والنظام القانوني الدولي عامة. وقد استند هذا الرأي إلى الحكم المشابه الذي كانت تتضمنه المادة 15/8 من عهد عصبة الأمم، إذ لم يكن يحد من نشاط العصبة إلى هذه الدرجة، وكان مقصورًا على حالة الخلافات المعروضة على مجلس العصبة. 


فقد كانت المادة المذكورة تنص على أنه «إذا ادعى أحد طرفي النزاع، وثبت للمجلس أن النزاع يتعلق بمسألة تدخل طبقًا للقانون الدولي في الاختصاص الداخلي البحت لأحد طرفي النزاع، فليس للمجلس أن يقدم أي توصيات بشأن تسوية ذلك النزاع» ـ وكانت الولايات المتحدة الأمريكية قد حرصت على وضع هذا النص ضمانًا لمنع العصبة من إصدار توصيات في المنازعات الدولية المتعلقة بموضوعات الهجرة والتعريفة الجمركية.

ويتضح من اختلاف الصياغة بين عبارتى «الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي»، وعبارة «الاختصاص الداخلي البحت»، أنه بينما يكتفى ميثاق الأمم المتحدة بأن تدخل مسألة ما في جوهرها، أي في أساسها، في الاختصاص الداخلي لدولة ما؛ ليحرم على المنظمة الدولية أن تبحثها، فإن عهد عصبة الأمم كان يشترط، على العكس، أن تكون كلية في الاختصاص الداخلي .


ويعتبر مبدأ عدم التدخل من أهم المبادئ المنبثقة عن ميثاق الأمم المتحدة، إلا أنه – للأسف الشديد - أكثرها انتهاكًا. فإذا كانت من أهم خصائص سيادة الدول ألا يتم التدخل في شؤونها الداخلية، سواء كان هذا التدخل من عمل دولة أخرى أو منظمة دولية، إلا أنه - كغيره من المبادئ الدولية – تعتريه عدة إشكالات عند التطبيق. بل إن الدول ما فتئت تخرق هذا المبدأ بشكل مستمر اعتمادًا على مبررات وأسباب واهية: ترفع شعارات مثالية ، يكمن وراءها – في الحقيقة – مصالح إستراتيجية ذاتية. 


فعلى الرغم من حرص واضعي ميثاق سان فرانسيسكو على الوضوح والدقة إلا أن الدول القوية عل الخصوص تفننت في تأويل مبادئ القانون الدولي وقواعده بما فيها مبدأ عدم التدخل وفق ما يتماشى مع خدمة مصالحها القومية واستراتيجياتها الكبرى، والأمثلة على ذلك كثيرة أهمها الصور العديدة للتدخل الأمريكي في مختلف بقاع العالم، وبمناسبة أي نزاع أو أزمة هنا أو هناك.


في هذا السياق، تناقش تلك الورقة مبدأ عدم التدخل في الشئون الداخلية ، في ضوء المفاهيم النظرية للمبدأ، من ناحية، وعلى مستوى الواقع الدولي الراهن ، من ناحية أخرى .

 


الإطار النظري لمفهوم المبدأ :

تعريف المبدأ :

يمكن تعريف التدخل، بأنه تعرض دولة أو منظمة دولية لشؤون دولة أخرى، دون أن يكون لهذا التعرض سند قانوني، ويكون الغرض منه هو إلزام الدولة المتدخل في أمر من أمورها، باتباع ما تمليه عليها في شأن من شؤونها الخاصة الدولة أو الدول المتدخلة ، وبما يمثله ذلك من تقييد لحريتها واعتداء على سيادتها واستقلالها. وقد تم تبني هذا المبدأ والنص عليه في العديد من المواثيق الدولية : أهمها ميثاق الأمم المتحدة في النص السابق الإشارة إليه. 


كما نصت عليه المادة الثامنة من ميثاق جامعة الدول العربية حيث تقرر : " على أن تحترم كل دولة من الدول المشاركة في الجامعة نظام الحكم القائم في دول الجامعة الأخرى، وتعتبره حقًا من حقوق تلك الدولة وتتعهد بأن لا تقوم بعمل يرمي إلى تغيير ذلك النظام فيها". أما ميثاق الوحدة الإفريقية فقد جاء صريحًا، حين نص في الفقرة الثانية من المادة الثالثة على "عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء ".


وقد أكد قرار الجمعية العامة رقم 2131 بتاريخ 21/12/1965 المعنون بإعلان عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول وحماية استقلالها وسيادتها، على تحريم كل أشكال التدخل، والامتناع عن السماح أو مساعدة أو تمويل كافة النشاطات المسلحة والإرهابية لتغيير الحكم في دولة أخرى.

كما جاء في إعلان مبادئ القانون الدولي المتعلقة بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول بمقتضى قرار الجمعية العامة رقم 2625 الصادر في 24 أكتوبر 1970: "على أنه ليس لدولة أو مجموعة من الدول الحق في التدخل المباشر أو غير المباشر ولأي سبب كان في الشؤون الداخلية أو الخارجية لدولة أخرى، ونتيجة لذلك اعتبار ليس فقط التدخل العسكري بل أيضا كل أنواع التدخل أو التهديد الموجه ضد مكوناتها السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية مخالفا للقانون الدولي".

"ومن هذا المنطلق أيضاً جاء حكم محكمة العدل الدولية في قضية كورفو عام 1949 بأن: " حق التدخل المزعوم تجسيده لسياسة القوة، سياسة غطت في الماضي أخطر التجاوزات، ولا يمكن أن تجد لها مكاناً في القانون الدولي" .


ولعل أهم تطور عرفه المبدأ هو ما نصت عليه التوصية 103/36 الصادرة بتاريخ 9 يونيو1981، التي أكدت على واجب الدول بالامتناع عن إستغلال أو تشويه المسائل المتعلقة بحقوق الإنسان بهدف التدخل في الشؤون الداخلية لدول أخرى.

وهكذا يتضح أن أهمية مبدأ عدم التدخل تتجلى في كونه يعبر عن وجود نظام قانوني دولي يحكم سلوك الوحدات السياسية ويضمن سبل التعايش بينها، وذلك بمساواتها في السيادة وحرية اختيار الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تتفق ورغبات شعوبها.

فمبدأ عدم التدخل يضمن للدولة حمايتها من الضغوطات الخارجية، سواء أكانت عسكرية أو سياسية أو اقتصادية، التي تتعرض لها من طرف دول أخرى، من أجل فرض إرادتها وتصوراتها عليها وإجبارها عن طريق الإكراه بالقيام بعمل ما أو الامتناع عنه.

ويمكن أن نخلص إلى القول إن التدخل هو عمل تعسفي يهدف إلى التأثير على الاستقلال السياسي وسيادة الدولة باستعمال وسائل الإكراه والضغط عن طريق القوة على نحو يتنافى مع القانون الدولي.

وللتدخل أنواع وصور مختلفة انطلاقا من الزاوية التي ينظر منها إليه:

فمن حيث طبيعته : يمكن الحديث عن تدخل سياسي ، عسكري، اقتصادي ، ثقافي إيديولوجي، أو مالي ....

ومن حيث شكله : يمكن التكلم عن تدخل مباشر وتدخل غير مباشر .

ومن حيث القائمين به : فيمكن التمييز بين تدخل فردي تقوم به دولة واحدة ، أو تدخل جماعي ترتكبه مجموعة دول أو تدخل منظمة كمنظمة الأمم المتحدة أو حلف الشمال الأطلنطي.

"