«حركة النهضة».. والتَّغَوُّل على المشهد في تونس

لم تكتفِ حركة النهضة بالسيطرة على ترشيحات المحليات، بل قامت بترشيح مواطن يهودي من أصل تونسي، ضمن إحدى قوائمها؛ لتؤكد لمراقبيها تطبيقها عمليًّا مفهومَ النقد الذاتي في علاقتها بالدولة والحكم الذي أعلنته في مؤتمرها العاشر.
التغييرات المتسارعة التي تجريها الحركة -بما فيها بعد توقيعها على وثيقة قرطاج، التي تمثل الإطار السياسي، الذي يجمعها بباقي شركائها في الحكم- جعلت البعض يصفها بالتغييرات المغشوشة.
ملامح المُغَالَبة وليست المشاركة التي بدت على حركة النهضة، منذ سيطرتها على لجان البرلمان الرئيسية والخاصة، بعد الانشقاقات التي تعرض لها حزب نداء تونس في مارس 2017- تطرح عدة تساؤلات، لعل أهمها: ما الذي تريده حركة النهضة ذات المرجعية الإسلامية خلال الفترة المقبلة؟ وهل المغالبة الواضحة في ترشيحاتها في انتخابات المحليّات تعبّر عن رغبة في التغوّل السياسي، خاصةً بعد تصدرها الأحزاب الممثلة في البرلمان؟ وكيف تؤثر الأزمات التي بدأت تحيط بها أخيرًا على ذلك الحلم؟ وهل مشروع النهضة مازال يمثل خطرًا على دولة مدنية مثل تونس؟ ومِن ثَمَّ لا يمكن الاطمئنان لها، حتى بعد مراجعاتها الأخيرة التي فصلت فيها بين الدعوة والسياسة.
- واقع قديم:
المغالبة السياسية تمثل مبدأً عامًّا تلجأ إليه حركات الإسلام السياسي عند الوصول للسلطة. وباعتبار حركة النهضة -التي تعد أحد أفرع جماعة الإخوان- جماعةً سياسيةً اجتماعيةً ذات برنامج إسلامي وليست جماعةً دينيةً، وفقًا لكتابات حسن البنا، وكذلك كتابات سيد قطب؛ فإنها تسعى إلى تحقيق مكاسبها القديمة مرةً ثانيةً، وهي الاستحواذ الكامل على السلطة بعد الثورة التونسية في 2011، فبمجرد وصولها للسلطة في تلك الفترة قامت بإزاحة جميع الكوادر الإدارية العليا في مؤسسات الدولة، وحَلَّت جميع المؤسسات السياسية التي كانت تُسَيِّر شؤون البلاد (مجلس النواب، مجلس المستشارين، المجلس الدستورى، والدستور)، كما أنها قبل الانتخابات المحليَّة بعام تقريبًا، وبالتحديد منذ الانشقاقات التي أحاطت بحزب الرئيس الباجي قائد السبسي (نداء تونس) في مارس 2017- تعمل النهضة على استغلال الظروف السياسية، لتتجاوز مأزقها في انتخابات 2014، من خلال إعادة ترتيب نفسها تنظيميًّا لاكتساح المشهد السياسي من جديد، وإعادة تَمَتْرُسها على شاكلة 2011.
الواقع القديم الذي تخشاه القوى السياسية -رغم التطمين الذي تضمنه بيان الحركة في مؤتمرها العاشر- تَمَثَّل في استغلال قيادتها للحكومة؛ من أجل تولية أنصارها معظمَ المراكز الحكومية العليا؛ حيث نَصَّبَت أتباعها على رأس المحافظات والمعتمديات، وسهَّلَت تدفقَ الآلاف من المتعاطفين معها داخل الأجهزة الإدارية المحلية والجهوية؛ بهدف نسج شبكة ولاءات تستغلها سياسيًّا، كما وفَّرت حركة النهضة الغطاء السياسي لبروز المجموعات الإرهابية، فأطلقت سراح العشرات من السجناء الذين قُبض عليهم بتُهَمِ التحضير لعمليات إرهابية في تونس، وغَضَّت الطرْف عن أنشطة الحركات السلفية الجهادية دون مراقبة أو محاسبة.
- تغَوّل سياسي:
إدراك حركة النهضة الإسلامية أهمية الانتخابات البلدية المقبلة، باعتبارها أول انتخابات محلية تجرى بعد الثورة التونسية، وتأكيد الدستور التونسي في مادته 132 على خطورة دورها؛ حيث تتمتع الإدارات البلدية وفقًا للدستور بالاستقلالية الإدارية والمالية، إضافةً إلى أن الانتخابات البلدية المقبلة ستُسهم بشكل كبير في إعادة تشكيل المشهد السياسي، وتحديد هويّة الأطراف المؤثرة فيه، التي تتصدر الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة- كل ذلك جعلها تترشح في جميع الدوائر الانتخابية، بواقع 350 قائمة انتخابية، محتلةً الترتيب الأول بين المتنافسين، وتتمثل أهم تحركات النهضة للتغوّل السياسي في الحياة السياسية التونسية، فيما يلي:
1. السيطرة على مجلس نواب الشعب التونسي (البرلمان)، بعد إعادة توزيع مكاتب اللِّجان التشريعية والخاصة في أبريل 2016؛ حيث أفرزت موازين القوى الجديدة بعد تراجع «نداء تونس» إلى سيطرة حركة النهضة الإسلامية على رئاسة ثلاث لجان تشريعية، هي الصناعة والطاقة والثروات المعدنية والبنية الأساسية والبيئة، ولجنة الفلاحة والأمن الغذائي والتجارة والخدمات ذات الصلة، ولجنة النظام الداخلي والحصانة والقوانين البرلمانية والقوانين الانتخابية، أما فيما يتعلق باللجان الخاصة فقد حصلت كتلة النهضة الإسلامية على ثلاث لجان، مقابل اثنتين لحزب الرئيس «نداء تونس»، ولم تتوقف هيمنة الحركة على البرلمان عند رئاسة لجانه فحسب، بل تَوَسَّعت لتشملَ أيضًا أعضاء تلك اللجان، فكان نصيبها 7 أعضاء في كل لجنة، منهم 3 أعضاء في منصب نائب الرئيس، ومن السابق يمكن القول بأنه بهذه التقسيمات تكتمل هيمنة النهضة على البرلمان؛ الأمر الذي يُمَكِّنها من فرض توجُّهاتها، بما في ذلك إمكان العودة للحكم من جديد.
2. حسم الحركة أمرها بشأن الانتخابات البلدية مبكرًا في سبتمبر 2017، أي قبل فتح باب الترشح، وإعلانها صراحةً عدم التحالف مع أي حزب سياسي، والمشاركة بصفة منفردة في الانتخابات البلدية، وفي جميع الدوائر، مستغلةً انشغال الأحزاب المَدَنِيَّة بخلافاتها الداخلية، وما يؤكد ذلك ما صرح به عبدالحميد الجلاصي عضو مجلس شورى الحركة في مايو 2017، قائلًا: إن «الحركة اختارت خوض الانتخابات البلدية بقائمات مفتوحة على كل التونسيين، وستشارك في جميع الدوائر الانتخابية»، معتبرًا ذلك خيارًا اتبعته الحركة.
3. التمهيد المسبق والمُرَاوَغَة لكسب إرادة الناخبين؛ حيث يعد استباق الحركة الانتخابات البلدية، بعقد مؤتمرها العاشر، وإعلانها عن الفصل بين الدَّعوي والسياسي -إضافةً إلى توقيعها على وثيقة قرطاج، ودعوة مكتبها التنفيذي الحكومةَ إلى المبادرة بالاجتماع بالأحزاب والمنظمات الموقعة على الوثيقة؛ لدراسة الوضع الحالي بالبلاد، وإيجاد الحلول والإجراءات الضرورية للتفاعل مع المطالب الاجتماعية الملحة للتونسيين- استغلالًا ومحاولةً مكشوفةً لإنقاذ شعبيتها الانتخابية؛ حيث إن الحركة خسرت تقريبًا نصف مليون ناخب، ما بين انتخابات 2011 و2014.
4. إعلان النهضة في مؤتمرها العاشر عن تخفيف حدة شروط عضويتها؛ للخروج من أسر الحزب العقائدي المغلق وميراث العمل السري- يجعلها تبدو من أكثر الأحزاب على الساحة التونسية استعدادًا للانتخابات المحليّة والبلديّة، ورغم أن المرجعية الدينية في العمل السياسي لاتزال مستمرةً عند الحركة -كما أنها تدير العملية البلدية من منطلق أيديولوجي، مثل رفض بعض قيادتها المحلية للقروض- فإنها تُرَوِّج لنفسها قبل الانتخابات البلدية، باعتبارهها ليست حركة إسلامية بل حزبًا من المسلمين الديمقراطيين.
- مستجدات خطرة:
أزمات عدة بدأت تواجه حركة النهضة الإسلامية منذ فبراير 2018، تكاد أن تكسر حلمها السياسي، المتمثل في السيطرة على الانتخابات البلدية، وما بعدها من برلمانية ورئاسية، وتتمثل أهم هذه الأزمات التي قد تؤثر على نتائج الانتخابات البلدية، وتطيح بمشروعها السياسي إذا لم تحصل على أغلبية المقاعد- في الآتي:
- الأزمة الأولى، ترتبط بما أثاره النائب البرلماني منذر بلحاج عن تلقي حركة النهضة شيكًا بنكيًّا من الحساب الخاص بأمير قطر في عام 2012، تحت مُسَمَّى تعويضات لضحايا الاستبداد، وفقَ ما نشرته صحف تونسية؛ حيث مَثَّلت تلك الاتهامات في هذا التوقيت ضربةً كبيرةً للحركة، قبل خوضها الانتخابات البلدية، إضافةً إلى أن التزام الحركة الصمت تجاه تلك القضية، وعدم خروج بيان رسمي يتضمن ردًّا على هذه الاتهامات -مكتفية بتصريحات علي العريض أمين عام مساعد الحركة، التي اتهم فيها أطرافًا داخلية وخارجية بالتآمر على تونس، ومحاولة تأجيج الأوضاع، وإرباك المشهد السياسي، والحيلولة دون إجراء الانتخابات البلدية- يُعَبِّر عن حالة ارتباك داخلي قد تكون نتائجها غيرَ محسوبة.
- أما الثانية، فتتمثل في ما يُعْرف بين التونسيين بـ«فتنة اليهود»، التي اندلعت بين أبناء حركة النهضة؛ نتيجة ترشيح أحد اليهود على قوائمها المحلية، فالنهضة تحاول منذ مؤتمرها العاشر القيام بأي أفعال تشير إلى وَجْهها الجديد، ومصداقية فصلها بين الدعوي والسياسي، والانسلاخ من أيديولوجيتها الدينية، والظهور بمظهر الحزب الليبرالي، لكن بدلًا من أن تساعدها تلك الخطوة على تثبيت الصورة المنفتحة، التي تحاول تصديرها عن نفسها؛ لجذب أصوات جديدة للسيطرة على تلك الانتخابات- وقعت في أزمة داخلية لم تكن في الحسبان، تسببت في حالة من الغضب داخل صفوفها وقواعدها. إضافةً إلى أن ترشيح الحركة ليهودي انعكس أيضًا بالسلب على صورتها الخارجية؛ حيث لاقت هجومًا لاذعًا، واتهاماتٍ بأنها تحاول استغلال اليهود لتحقيق مكاسب سياسية؛ للسيطرة على المشهد في داخل تونس.
- أما الأزمة الثالثة فتمثلت في تضييق الخناق على الحركة، واتهامها مجددًا بأنها على علاقة بتنظيمات وأنظمة لها صلة بالإرهاب؛ حيث حَمَّلَ عدد من السياسيين والخبراء -تزامنًا مع قرار البرلمان الأوروبي بوضع تونس في القائمة السوداء لتمويل الإرهاب وغسيل الأموال- حركة النهضة المسؤولية بأنها فتحت أبواب تونس على مصراعيها أمام التنظيمات الإرهابية خلال فترة حكمها؛ وهو ما أدى بالحركة إلى فقدان صوابها، لتعلن عن وجهها الحقيقي الذي حاولت تغطيته مؤقتًا في المؤتمر العاشر، حيث راح رئيسها راشد الغنوشي يتوعد التونسيين بحرب أهلية؛ حيث اعتبر مَن يتهمون حركة النهضة بقتل السياسي شكري بلعيد بالإرهاب، ومَن يجرمون قيادات النهضة دون إدانة قضائية «دعاة إقصاء»، مشددًا على أن هذا الأمر «قد يوصل إلى الحرب الأهلية».
- الرابعة تتمثل في الربط الشعبي بين برنامج النهضة الإصلاحي والنموذج التركي، حتى وصف بعض «التوانسة» الحركة بالأردوغانية، فقد تؤدي العلاقة القوية بين الحركة وحزب العدالة والتنمية التركي، إضافةً إلى الزيارات المتكررة بين قادة الحركة وقادة الحزب إلى احتمال عزوف انتخابي عن برنامجها، الذي يُعَبّر عن توجهات الحركة الجديدة، فعلى الرغم من الرفض الشعبي والحزبي لزيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لتونس في نهاية العام الماضي، ووصف دوره بالمشبوه، واتهامه بدعم وتمويل الإرهاب ورعاية مصالح الإخوان ومشروعهم السياسي، فإن الحركة تحدت تلك المواقف الحزبية والشعبية، وتَغَنَّت بالزيارة في بيان أغضب كثيرين، بأن «زيارة أردوغان تأتي لتعزيز علاقات التعاون بين تونس وتركيا، في إطار مواصلة الأخيرة دعم التجربة التونسية».
في النهاية يمكن القول إن هناك قلقًا بدأ يسود بين الأوساط التونسية مِن تقدم النهضة في الانتخابات البلدية، وإدارة الانتخابات بالمحاصصة الأيديولوجية؛ لدرجة أن بعضَ التوانسة يحذرون من أن خطر مشروع الإسلام السياسي في دولة مدنية مثل تونس- مازال قائمًا، مؤكدين أنه لا يمكن الاطمئنان لحركة النهضة؛ بسبب المراجعات التي قامت بها التي قامت بها في مؤتمرها العاشر.
على الجانب الآخر مِن المحتمل أن تدرك النهضة مخاطر هذه الأزمات، وتتراجع عن بعض الدوائر انتخابيًّا، وقد تتخوف من ارتدادات فوزها داخليًّا وخارجيًّا، مسترجعةً تجاربها الذاتية أو دروسًا إقليميةً، وبالتالي يظل خوف الحركة على نفسها من التغوّل الذي قد يكلفها الكثير أمرًا واردًا؛ حيث إن اكتساحها الانتخابات البلدية في ظل التخوف منها، وفشلها في إدارة البلاد على مدى 7 سنوات- يمثل انتحارًا سياسيًّا لها؛ لعدم قدرتها على الانفراد ببعض البلديات في هذه الظروف الاقتصادية المأزومة، التي تمر بها تونس، فمن مصلحة النهضة اقتسام السلطة لاقتسام النجاح أو الفشل.