يصدر عن مركز سيمو - باريس
ad a b
ad ad ad
ماهر فرغلي
ماهر فرغلي

ذكريات من زمن حرب أكتوبر

الأحد 06/أكتوبر/2019 - 12:40 ص
طباعة

يمر عام ويحل عام ونفس ذكرياتي مع حرب أكتوبر تقتحمني.. نفس الأغنيات التي كنا نغنيها في طابور الصباح في (مدرسة الغيطاس الابتدائية التجريبية).. خلي السلاح صاحي... حلوة بلادي السمرا... بسم الله... يا أغلى اسم في الوجود... مملوؤين بالحماسة نمشي إلى الفصل ونجلس دون صخب... نوافذ المدرسة بالكامل مغطاة بورق وستائر سوداء خوفاً من الغارات الإسرائيلية التي طالت صعيد مصر عقب النكسة... صفارات الإنذار فوق مبنى الإدارة التعليمية بجوار مدرستنا وهي مستعدة للانطلاق طوال الوقت ونحن مستعدون للفرار للمخابئ المعدة بالمدينة إن لزم الأمر... كنا صغاراً لكن تجربة الحرب المريرة علمتنا كيف نمتلئ شجاعة وحباً وحماسة.

نعود من نفس الطريق... نمر معاً على الجمعية التعاونية.. الطوابير لا نهاية لها.. ويقتسم الناس لقيمات الخبز وزجاجات الزيت دون ملل أو ضجر.. أسمع أبي وعمي يتحدثان عن المجهود الحربي، وأمي وهي تضي لمبة الجاز وتضعهاعلى شباك بيتنا المواجهة لنهر النيل تتذكر ابن اخيها الموجود على الجبهة منذ سنوات... كانت تقول عنها (الجهادية).

حين يتم تجنيد شاب تودعه قريتنا بالكامل... الرجال يوصلونه لمحطة القطار، والنساء يرمقنه من النوافذ بعيون دامعة... عبد المجيد أبو عزب كان في نفس المكان وابتلعه الطريق إلى (الجهادية) ولم يعد إلى الآن... فلا زوجته تزوجت بعده، ولا أمه يئست من انتظاره... أنا وحدي ورفقاء الماضي نعرف أن جسده الملفوف ببدلة الجيش مسجى هناك بين رمال سيناء.

خالي الذي كان ضابطاً بالجيش حكى لي في مرة كيف كانت الهزيمة وكيف كان النصر... كيف مات زملاؤه وسقطوا وهم يتلقون الرصاصات في صدورهم على حين غرة... كيف هام على وجهه في الصحراء حتى أنقذه من الموت عطشاً وجوعاً أحد أبناء قبائل سيناء.

لم أعرف ساعتها كيف حدثت المعجزة... كيف كان العبور من الهزيمة... لكنني أدرك كيف كان أساتذتي محمود وبهجت يشرحان لنا كيف حطّم الجيش خط بارليف... وكيف تم أسر عسّاف ياجوري... كنت أنصت باهتمام وأتوهم أنني أمسك البندقية وأضعها في جبهته وهو يرفع رايته البيضاء ويعلن الاستسلام.

بعد شهور عاد من الجبهة معلمي بهاء الذي ظل هناك من عام 67 حتى نصر أكتوبر... كان ممتلئاً حماسة وشجاعة لا يفوّت فرصة إلا وحكى لنا عن أيام الظلام ثم الضياء والنصر... عن الذي مات وعاش... عن الغربة ثم العودة... عن السد الذي انهار... عن أبيه الذي مات ولم يره... عن أمه التي كانت واثقة في النصر.

في مثل هذه الأيام من كل عام تأخذنا المدرسة مشياً على الأقدام في طوابير إلى السينما الوحيدة لنشاهد فيلم (الرصاصة لا تزال في جيبي) ونصفق ونصفق ونصفق في سعادة حين تكتب النهاية على الشاشة... السينما الوحيدة مغلقة منذ عشرين عاماً... خربة... أمامها مقالب للقمامة وبجوارها موقف لـ(التوكتوك)!... ومات الأستاذ بهاء وبهجت ومحمود، لكن الذي صنع النصر لم يمت... لا زال يحلق كالنسر في الفضاء... يبني ويعمر... يقف صامداً في وجه الكيد والمؤامرة... ويروي بدمائه تلك الأرض التي حررها منذ سنوات.

"